لينين الرملي.. بين المسرح والرسائل الأكاديمية

لينين الرملي.. بين المسرح والرسائل الأكاديمية

العدد 651 صدر بتاريخ 17فبراير2020

 في الوقت الذي امتلأت فيه خشبات المسارح بالكثير من العروض التي تتبارى في تقديم شريحة من الواقع وبالتحديد من ميدان التحرير سواء بالاعتماد على صور فوتوغرافية لأبرز معالمه كخلفية للمشاهد، أو بظهور الكثير من الممثلين لتجسيد أعداد المتظاهرين على خشبة المسرح للتماس مع الواقع وأحداثه التي مازالت تتأثر بأحداث الخامس والعشرين من يناير، قدمت مسرحية «في بيتنا شبح»  للكاتب الكبير لينين الرملي عام 2012 من إنتاج فرقة المسرح القومي وإخراج عصام السيد، اختلفت طبيعة العرض عن غيره من العروض التي كانت تقدم في ذلك الوقت، المتلقي حينها سرعان ما يلفت انتباهه أن العرض لم يشارك تلك المسرحيات في تقديم جزء من الواقع أو ميدان التحرير أمام جمهوره، ولم يكرر أية عبارة من تلك المنتشرة حينها أو يُظهر أعداد المتظاهرين ليؤكد على ارتباطه بالواقع، بل إنه تجاوز أحداث هذا الواقع ليقدم عملاً يتماس مع المتلقي حينها وحتى الآن والغد أيضًا، استطاع الرملي خلال عمل كوميدي أن يعبر عن الوطن الذي تحاصره المخاطر والأطماع من داخله وخارجه، من خلال بيت عتيق ومجموعة من الورثة وبعض الأشباح التي تهددهم وتشعل الحرائق في هذا البيت، وبالفعل حقق العرض حينها نجاحًا كبيرًا.
خلال أيام العرض أجاب لينين الرملي دعوة الأستاذ الدكتور حسن عطية ليقيم حوارًا مفتوحًا مع طلاب قسم الدراما والنقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية حول العرض ذاته، وكان حوارًا ثريًا استوعب فيه فكر الطلاب ولم يصادر على آرائهم وامتد النقاش إلى مختلف أعماله ورؤاه الفكرية، وليس عمله الأخير وحسب، وحول كيفية تعبيره عن مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية في ذات الشكل الدرامي الكوميدي الذي لا يخلو من الطابع المأسوي، هنا فكرت كاتبة هذه السطور في أن تكون أعمال لينين الرملي موضوعًا لرسالة الماجستير وبالتحديد عن الخطاب السياسي في مسرحياته، وحين تم طرح الموضوع على أستاذنا الدكتور حسن عطية أكد على أهمية لينين الرملي وكتاباته، وبالفعل تناقشنا مع الرملي وشرفت بأن سمح لي بتسجيل حوارًا معه للحديث بشكل عام عن مسرحه، فوجدته لم يكن مجرد كاتب لأعمال كوميدية نشأنا وتربينا عليها وحسب، بل مثقف استثنائي متبحر في مختلف العلوم، يحمل موقف محدد إزاء شتى القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وسمح لي مرة أخرى بتسجيل حوار آخر معه حينما أنتهي من قراءة بعض أعماله ليكون النقاش أكثر تحديدًا حول شخصياته وقضاياه التي يطرحها خلال أعماله، وشرفت بلقائه ودون تعالي سمح بالنقاش والاختلاف في قراءة وتفسير أعماله مؤكدًا على حريتي أنا وغيري في تفسير وتأويل أعماله مؤمنًا بحق المتلقي التام في التفسير، منطلقًا من الحرص على كونه يقدم أعمالًا لا تقتصر على مجتمع بعينه حيث يقدم قضايا إنسانية، ولا تنحصر في فترة زمنية محددة بل هي أعمال صالحة للأمس واليوم والغد على حد قوله، وعلى أرض الواقع هذا ما تم بالفعل في الكثير من أعماله، حين تم إعادة تقديمها على المسرح كما هي دون أن يقوم بعمل تغييرات على النص ليتناسب مع وقت عرضه، وإنما كان يؤكد على أن العرض قدم كما هو دون تغيير، وقد ظهرهذا على سبيل المثال في مسرحية «أهلاً يا بكوات» التي قدمت على المسرح عام 1989، وتم إعادة عرضها مرة أخرى عام 2006.
كتب لينين الرملي واحد وخمسين نصًا مسرحيًا، هذا إلى جانب أعماله للتليفزيون والسينما، والكثير من المقالات التي كان يحرص على كتابتها لبعض الصحف، وخلال دراستي للماجستير أتيحت لي فرصة الاطلاع على أعماله المسرحية التي تغطي مساحة زمنية متسعة تمتد من سبعينيات القرن العشرين مع مسرحيته مين قتل برعي التي ظهرت على المسرح بعنوان «إنهم يقتلون الحمير» عام 1974 من إخراج جلال الشرقاوي، وتنتهي عام 2016 بآخر مسرحياته «إضحك لما تموت» والتي ظهرت على المسرح القومي عام 2018 من إخراج عصام السيد، وعن مسرحيته الأخيرة قال الرملي أن عنوانها يحمل معنيين إما الدعوة للضحك حتى الموت أو أن الإنسان عليه أن يظل يضحك حتى وهو موشك على الموت، وبين مسرحيتيه الأولى والأخيرة تمتد رحلة ثرية من المسرحيات الطويلة والقصيرة، والتي كثيرًا ما يذكر في تقديم أغلبها مناسبة كتابتها أو يذكر عدد السنوات التي ظل يكتب فيها هذا العمل أو ذاك، وهناك إشارة حرص عليها الرملي في تقديم الكثير من أعماله المسرحية وهي أنه لا يكتب مسرحًا سياسيًا، وحين سألته كاتبة هذه السطور عن هذا التأكيد على الرغم من أن مسرحه ينغمس في القضايا الاجتماعية والسياسية أجاب بأنه يهتم بالقضايا الإنسانية في الأساس وهذا يتخطى مجرد فكرة القضايا السياسية ومن يرى غير ذلك فله مطلق الحرية في تفسيره.
 في بداية كتابته للمسرح اتخذ الرملي طريق الفرق المسرحية الخاصة، ومنذ النص المسرحي الأول عمل على تحطيم التصور العام عن عروض هذه الفرق التي اعتمدت آنذاك في المقام الأول على الاقتباس أو الإعداد لموضوعات قد تبتعد عن قضايا الواقع الراهن، إضافة إلى اهتمامها في الأساس بتحقيق التسلية والإضحاك، فاستطاع الرملي أن يمس مجتمع التلقي وقضاياه حتى وإن اعتمد على مصادر أجنبية في بعض كتاباته، فإنه استطاع أن يجعلها منغمسة في الواقع المصري والعربي، محققًا معادلة النجاح الجماهيري والنقدي معًا، حريصًا على حق المتلقي في التفسير والتأويل، ففي مسرحياته كثيرًا ما ينتهي الحدث بنهاية مفتوحة وليس بتقديم حل جذري بقدر طرح التساؤلات، تلك النهاية التي تسمح للمتلقي بالقراءة والتأويل، وهي من الأسباب التي تجعل مسرحيات الرملي غير متقتصرة في تقديمها على مرحلة زمنية بعينها.
 المتأمل في أعمال لينين الرملي سرعان ما يلتفت إلى غزارة إنتاجه وتنوع أسلوب الكتابة لديه، وفي الوقت الذي تحقق فيه كتاباته الأثر الكوميدي فإنها في الوقت ذاته تناقش موضوعات إنسانية جادة، وقد حققت أعماله النجاح الجماهيري والنقدي على حد سواء، بل وأثارت الجدل والتساؤلات، ونظرًا لكونها تغطي مساحة متسعة من الأحداث الاجتماعية والسياسية معتمدًا خلالها على الكوميديا في محاورة عقل المتلقي وتقديم النقد والسخرية من تناقضات الواقع وشخصياته، الأمر الذي يجعل أعماله صالحة للعرض دومًا ومادة ثرية للبحث والدراسة الأكاديمية. والآن بعد أن فارقنا لينين الرملي بجسده سيظل باقيًا بأعماله التي سوف تعبر عن الإنسان في الأمس واليوم والغد كما أراد الرملي وحرص دائمًا.


شيماء توفيق