المسرح وقضية الفصحى والعامية في مصر (2)

المسرح وقضية الفصحى والعامية في مصر (2)

العدد 632 صدر بتاريخ 7أكتوبر2019

الموقف الحكومي الرسمي
أصبح الإجماع على وجوب الكتابة والتمثيل بالعامية، أمراً مقلقاً وغير مقبول على المستوى الرسمي، بالرغم من أن الواقع يقول إن العامية هي المقبولة مسرحياً عند الجمهور والكتاب والممثلين!! لذلك حاولت وزارة الأشغال العمومية – التابع لها النشاط المسرحي في ذلك الوقت – أن تحدّ من طغيان العامية، فأقامت مسابقة في الكتابة المسرحية – تأليفاً وتعريباً واقتباساً - حدثتنا عنها جريدة الاتحاد في أبريل 1926، وعلمنا منها أن لجنة المسابقة اشترطت بأن الكتابة تكون بالفصحى مع الترخيص باستخدام بعض العبارات العامية للشخصيات غير المتعلمة. “ أما الروايات المكتوبة كلها باللغة العامية، فقد آثرت اللجنة أن لا تقبل منها في المباراة إلا التي تشفع لها في القبول، مزايا مسرحية بارزة، ويستشف منها في نفس لغتها العامية، ما يمهد لوجود لغة مسرحية وسطى، تكون أقرب إلى الفصاحة، وإن نطق بها الممثلون من غير شكل ليسهل على الجمهور فهمها”.
وفي عام 1928، خصص الملك فؤاد 1500 جنيه؛ لإقامة مسابقة في التأليف المسرحي على مدار ثلاث سنوات، وأشرفت وزارة المعارف على هذه المسابقة، وشكلت لها لجنة، تكونت من: ويصا واصف بك رئيس مجلس النواب رئيساً، وصاحب المعالي جعفر والي باشا وزير الحربية، وصاحب العزة محمد لبيب عطية بك المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، والشيخ علي الجارم المفتش بوزارة المعارف، والشيخ مصطفى عبد الرازق الأستاذ المساعد بالجامعة المصرية أعضاء. أما شروط المسبقة – كما نشرتها جريدة الأخبار يوم 10/6/1928، تحت عنوان (اللغة الفصحى والمسرح) – فهي: “ 1 - يجب أن تكون الرواية مسرحية فلا تقبل رواية سينمائية. 2 – يجب أن تكون الرواية من وضع صاحبها، فلا تقبل رواية معربة ولا مقتبسة. 3 - يجب أن تكون الرواية مصوغة في قالب عربي سهل فصيح، فلا تقبل رواية مرسلة في لغة عامية، ولا بلغة أخرى غير العربية”.
وبالرغم من اهتمام الحكومة بالفصحى في الكتابة المسرحية – بإقامة المسابقات الرسمية – إلا أن الواقع يقول: إن العامية ما زالت هي الأقوى شيوعاً وقبولاً في كتابة المسرحيات وعروضها!! ففي يوليو 1928، نشرت جريدة البصير مقالة بتوقيع (صاد شين)، تحت عنوان (المسارح العربية)، تحدث كاتبها عن نجاح العروض المسرحية المكتوبة بالعامية، مثل مسرحية (عاصفة في بيت) لأنطون يزبك، و(الفريسة) لإبراهيم المصري؛ ورغم ذلك، رفض كاتب المقال استمرار الكتابة بالعامية، وشجع على الكتابة بالفصحى، إذا أردنا نهضة مسرحية.
وفي مارس 1929، نشر محرر مجلة المسرح، مقالة عنوانها (أساليب المسرح)، تحدث فيها عن ثلاث نظريات تتعلق بلغة التأليف المسرحي من خلال طرحه لهذا السؤال: هل أسلوب التأليف المسرحي “يجب أن يكون بلغة الآداب القوية. أم يستصوب أن يكون بلغة متوسطة سهلة التناول والفهم ليست بعامية واطئة ولا ببالغة الذروة في القوة والمتانة. أم يستحسن أن يكون بلغة الجمهور، لغة العامة”. وراح الكاتب يشرح كل نظرية على حدة؛ فلاحظ أن “ ليس من السهل التفضيل ولا الموازنة، ولا من السهل البت باتخاذ نظرية دون أخرى، والأخذ بمنحى دون سواه”!! ورغم ذلك انتهى إلى نتيجة، تتمثل في استخدام النظرية الوسطى، قائلاً: “... نظن أن الانتصار سيكون في النهاية لأنصار اللغة العملية المتوسطة؛ لأنها تتفق والأساليب المحبوبة المستساغة في فهم وحسن إدراك، وتصوير صحيح للواقع. ونأمل من مسارحنا أن يبذلوا قصارى جهدهم في استخدام الأساليب الأدبية المتوسطة، ولا ننصح بالمبالغة والإغراق في استخدام الأساليب القديمة [يقصد الفصحى]، ولا ننصح بالانحطاط في استخدام الأساليب العملية [يقصد العامية]، وإنما ننصح باللغة المتوسطة وخير الأمور الوسط”.
أول مناظرة حول القضية
مما سبق يتضح لنا، أن محاولات الحكومة للحد من انتشار العامية في مجال المسرح لم تنجح، فكان لزاماً تدخل الجامعة المصرية إنقاذاً للموقف؛ حيث أقام مجلس اتحاد الجامعة المصرية أول مناظرة حول القضية، بين المؤيدين للفصحي، والمؤيدين العامية، تحت عنوان (التأليف المسرحي يجب أن يكون باللغة العربية الفصحى لا بالعامية)، وهو عنوان موجه لصالح الفصحى. وأقيمت هذه المناظرة يوم 24 فبراير 1930، بقاعة المحاضرات بدار الجمعية الجغرافية الملكية، برئاسة الدكتور محمود إحسان زهدي أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق. وتكوّن الفريق المناصر للفصحى من الكاتب المسرحي إبراهيم رمزي، والطالب سليم فريد بقسم العلوم الاجتماعية. أما الفريق المناصر للعامية، فتكوّن من الكاتب المسرحي المحامي محمد لطفي جمعة، والطالب محمود رياض بقسم اللغات الحية.
وقد نقلت لنا مجلة الصباح في مارس 1930، تفاصيل هذه المناظرة، التي حضرها جمهور المتعلمين والمتأدبين من الطلبة والموظفين والأدباء وأساتذة المدارس والصحفيين. وبدأها إبراهيم رمزي – المؤيد للفصحى – بأن اللغة العربية لغة راقية حية؛ تستطيع أن تترجم بها الفن المسرحي، وتعبر بها عن الثقافة المصرية؛ لأنها لغة القرآن. أما اللغة المصرية – ويقصد بها العامية – فقال عنها: “ إنها لغة العامة، وذكر بعض نواحي الطبقات الدنيا، الذين لا يعرفون سواها وسيلة للتخاطب والتفاهم، ودلل على مكانتها في نفس الشعب، وجمهور المتعلمين منه بصفة خاصة، وقال إنها مكانة دنية لا يقبل أحد من السامعين أن ينتسب إليها، ولا أن تنتسب إليه”.
أما محمد لطفي جمعة – المناصر للعامية – فذكر في كلمته بعض المستشرقين – أمثال كارل نالينو – قائلاً: إن أولئك لم يعتبروا اللغة المصرية المحكية، لغة ضعيفة رخيصة الثمن؛ ولكنها لغة راقية لها قواعدها، وبلاغتها، وعذوبتها، وسلاستها. وأخذ يدلل على منطقه ببعض الأمثال الشعبية، أثارت عاصفة من ضحك المستمعين. وذكر بعض أئمة اللغة العربية المصرية في القرن التاسع عشر كعبد الله النديم والشيخ محمد النجار وسواهما، وقال في شأنهم: إنهم مع نبوغهم في هذه اللغة – أي العامية - ومع إنهم من ثمار الأزهر الشريف، إلا إنهم لم يريدوا أن يتصلوا بالجمهور عن طريق صحفهم، إلا باللغة المصرية – أي العامية - فكتبوها وأذاعوها بتلك اللغة العذبة المستساغة المأنوسة.
ثم تحدث الطالب سليم فريد مؤيداً رأي إبراهيم رمزي، كما أيد الطالب محمود رياض رأي محمد لطفي جمعة ووفق كل من الشابين المتناظرين في منطقه وأسلوبه. وتداخل بعض الحاضرين في التعليقات الختامية، ومنهم: محمد الهراوي، وكامل الكيلاني، وأنطون يزبك. وفي الختام صوّت الجميع، وأعلنت النتيجة، وكانت 185 صوتاً لأنصار الفصحى، و85 لأنصار العامية.
شكسبير بالعامية
وهكذا كانت نتيجة المناظرة الجامعية فوز الفصحى على العامية بالتصويت!! ورغم هذه الحقيقة؛ إلا إن الواقع قال بفوز العامية على الفصحى في مجال المسرح!! بل ووصل الأمر إلى حد التحدي في ترجمة مسرحيات شكسبير وتمثيلها بالعامية، كما فعلت فرقة فاطمة رشدي في مسرحية (الجبارة)!! فقد نشرت جريدة الوادي في نوفمبر 1930 مقالة بعنوان (العامية في روايات شكسبير)، برر صاحبها ذلك بقوله: “عظمة شكسبير الحقيقية، والسر في خلوده يرجع إلى المبادئ، التي نشرها في رواياته، وإلى المبادئ الخلقية والاجتماعية التي يذيعها في قصصه، وهذه المبادئ وتلك الدعاوى يمكن التعبير عنها بأية لغة كانت، مادام الجمهور يفهم من هذه اللغة الغرض الدقيق الذي يقصده شكسبير ويدعو إليه ....... من كل هذا يثبت لنا جلياً أن إظهار رواياته على مسرح برنتانيا باللغة العامية، ليس فيه اعتداء ولا شبه اعتداء على كرامة المؤلف، ومكانة الكاتب، بل بالعكس نرى أنه وضع الشيء في محله، وإمعان في تقرير المؤلف والوفاء له ما دام أن تلك هي الطريقة الوحيدة لنشر آرائه وفلسفته ....... ما الفائدة من عرض رواية باللغة العربية الفصحى على جمهور لا يستطيع عقله وإدراكه الوصول إلى مبادئها وغاياتها”.
وجدت وزارة المعارف – المسؤولة عن الفرق المسرحية في مصر في تلك الفترة – في هذه الجرأة، والتطاول على كلاسيكيات شكسبير، وتحويلها إلى عامية، المبرر القوي لإصدار منشور رسمي، وزّعته على جميع الفرق المسرحية، ونشرته مجلة الصباح في فبراير 1931، ونصه يقول: “ليس بخاف عليكم ما للمسرح من أثر في ترقية اللغة وتهذيب أسلوبها، بل وفي إذاعة آدابها وآيات بيانها. وقد توخت الوزارة فيما توخته من تشجيعها المسرح الجدي والعناية به، أن يكون للغة العربية نصيب موفور من الرعاية، فاشترطت عليكم الترجمة الأمينة الراقية للمعربات التي تختارونها. واليوم نعود فنوجه نظركم إلى ضرورة العناية بالترجمة، وأسلوب التأليف، والترفع بها عن السقم والركاكة؛ بحيث يستقر أسلوب الرواية في مستوى أدبي راق. وكذلك نلفت نظركم إلى وجوب اجتناب اللحن اللغوي من جانب ممثلي وممثلات فرقتكم، إذ أن في لحن الممثل مدعاة إلى تشويه جلال الرواية، وجمال أسلوبها. وفيه إشارة إلى عدم تمكن الممثل من علم، هو أولى الناس بمعرفة أصوله وقواعده”.
آراء أعلام العصر
الواضح أن منشور الوزارة لم يؤثر في الواقع المسرحي، حيث صار الكُتاب يكتبون بالعامية أو بالفصحى أو بمزيج بينهما. كذلك كانت الفرق المسرحية، تعرض بالأسلوب الذي يناسبها، ويناسب جمهورها!! فاستغلت الصحافة هذا الوضع غير المحسوم بين الفصحى والعامية، فقامت باستطلاع آراء كبار الكُتّاب والمؤلفين والأدباء. فعلى سبيل المثال قامت مجلة الصباح في أبريل 1931 باستطلاع رأي الأستاذ عمر عارف، الذي قال: “.. يجب أن تكون لغة الروايات المصرية العصرية (عامية)، ولغة الروايات العربية التاريخية، أو الأدبية عربية، أو يجب أن نخلق للمسرح لغة اصطلاحية تجمع بين العربية والعامية”.
وفي مايو 1931، نشرت جريدة مصر رأي الكاتب المسرحي عباس علام، وفيه قال: “ ... لا يمكننا أن نستعيد سيطرتنا على الجماهير، إلا إذا كتبنا الكوميديات الفكاهية، ووضعناها في القالب الصحيح، لغة الكلام [العامية]”. ثم وجه حديثه إلى المسؤولين، قائلاً: “ نرجو أن تتركونا نكتب كل رواية باللغة، التي نشعر ساعة الكتابة، إنها لغة الرواية، ومع موضوع الرواية، ومع نوع الرواية. ثم حاسبونا بعد ذلك على الرواية في مجموعها فنياً وأدبياً وبسيكولوجيا، فإن تساوت روايتان في نظركم العالي، وكانت إحداهما باللغة العربية الصحيحة [أي الفصحى]، والأخرى بلغة الكلام [أي العامية]، فلا بأس خدمة للأدب العربي من أن تفوز الأولى على الثانية. ثم ليعلم من لا يعلم، أن لغة الكلام [العامية] أكثر صعوبة في الكتابة من لغة الكتابة [الفصحى]، وأن للغة الكلام أدباً كالأدب العربي، وأساليب يتميز بها كل كاتب”.
وفي يناير 1934، نشرت جريدة كوكب الشرق أكثر من مقالة، حول استطلاع آراء بعض الأعلام حول قضية الفصحى والعامية في المسرح، كان منهم الدكتور طه حسين، الذي قال: “إن اللغة الفصحى وحدها، هي لغة الأدب والعلم، ويجب أن تظل كذلك. وأن أكثر الذين يؤثرون اللغة العامية وإن شئت فقل اللهجة العامية؛ إنما يدفعون إلى ذلك ...... [بسبب] الكسل، لأن الإنشاء الأدبي في اللغة الفصحى عسير، وهؤلاء الناس يكرهون العسر ..... [و] لست أجد ما يدعو إلى أن يعدل الكتاب والمنتجون عن لغتهم الممتازة إلى تلك اللهجات المبتذلة، والأصل أن الأدباء وقادة الرأي، يجب أن يرفعوا الشعب إليهم، لا أن يهبطوا هم إلى الشعب؛ لأن عملهم إنما هو ترقية الشعب لا مجاراته في الضعف والإغراق معه فيه ..... فإذا كتبت باللغة الفصحى فأنت مفهوم في جميع الأقطار، التي تتكلم اللغة العربية، ولكنك إذا كتبت بلهجة من اللهجات العامية فلم يفهمك حق الفهم إلا أصحاب هذه اللهجة وحدهم .... إذن فأنا من أشد الناس حرصاً على أن تكون اللغة العربية الفصحى لغة الأدب في الملعب والمدرسة والصحيفة والكتاب، لا أقبل في ذلك هوادة ولا أجنح في ذلك إلى ساهل”.
أما الشيخ مصطفى عبد الرازق، فقال: “.. أرى ألا يكون همنا أن نقضي على اللغة العامية بكل ما فيها من خير وشر، حتى لا تبقى لنا إلا لغة واحدة. ولكن الذي ينبغي أن يكون همنا، هو أن نحتفظ بكل ما في اللغة العامية من عناصر الحياة والقوة، لنضمه إلى ما في اللغة الفصحى من عناصر القوة والحياة. وذلك يكون بالنهوض باللغة العامية نهوضاً يقربها من اللغة الفصحى. ومن وسائل ذلك أن يكون عندنا تمثيل باللغة العامية، يصور من شئون الحياة عندنا ما قد تضيق به الآن اللغة الفصحى”.
كذلك نشرت الجريدة رأي توفيق الحكيم، وفيه قال: “... إن الأدب التمثيلي كأدب، ينبغي أن تكون لغته في مصر هي اللغة الرسمية للأدب أي اللغة العربية [الفصحى]. هذه هي القاعدة والقانون .... [و] اللغة العربية هي القاعدة، واللغة العامية هي الاستثناء ..... فإن كان المقصود قصة عالية الموضوع، سامية التفكير، تحتم على الكاتب أن يكتب باللغة العربية السليمة [أي الفصحى]، دون الالتفات إلى أشخاصه إذ كانوا من الحوزية أو من العلماء، أما إذا كان الموضوع قصة فكاهية أو كوميدية تبحث في أخلاق الأشخاص وعوائدهم، فيحسن أن يتكلم كل باللغة التي تصور هذه الأخلاق وهذه العوائد تصويراً دقيقاً [أي بالعامية]”.
أما عباس محمود العقاد، فقال: “ لغة المسرح إذ أريد بها أن تكون أدباً فلا غنى عن كتابتها باللغة الفصحى، وإذ كان من المشترط فيها أيضاً أن تكتب بلغة سهلة قريبة الفهم إلى جميع الطبقات. أما إذا أريد بها نقل الطبيعة كما هي، فهي إذن ليست فناً أو ليست أدباً لأن الفن هو ترجمة الطبيعة والتعبير عنها. وليس هو نقلها أو محاكاتها محاكاة حرفية ...... أما إذا لم يكن بد من الكتابة بالعامية للروايات المسرحية فلنفصل إذن بين لغة الأدب ولغة المسرح، ولنجعل لكل منهما أسلوباً مستقلاً لا يختلط بالأسلوب الآخر. أو ليكن الفن المسرحي غير الفن الأدبي في التصوير وفي التعبير”. كما قال الدكتور محمد حسين هيكل: “... إني أميل إلى الحرية المطلقة، فلا أرى أي ضير في أن يكتب مؤلف مسرحي باللغة الفصحى وآخر باللغة الدارجة. وبأية لغة دارجة من مختلف اللهجات التي نسمعها في مصر وفي غير مصر من البلاد التي تتكلم العربية”.
وأخيراً قال عبد العزيز البشري: “... إن من حق اللغة، والعمل على إشاعتها بطريقة نافذة فعالة أن تجري فصحها على ألسن الممثلين والممثلات جميعاً في أي لون من ألوان التمثيل حتى تسترخي لها الآذان وتستشرف لها الملكات فتتحرك بها الألسن وتنظف بها الأقلام، هذا ولا شك من حق اللغة ...... [ويجب] أن يعنى المؤلفون والمترجمون أشد العناية بتجويد لغة الروايات الجدية، بوجه عام، ويطبعوها على السهل البليغ ..... وأما الروايات الهزلية، فأرى أن تظل الآن على عاميتها، لأن الناس أينما يطلبونها لإضحاكهم والتسلية عنهم فإذا فات فيها هذا الغرض انصرف الناس عنها، وبطل فن له في الفن الجميل خطره”.
الفرقة القومية
الأقوال السابقة، تزامنت مع ظهور اتحاد الممثلين، الذي تكون من شتات أغلب الفرقة المسرحية المصرية، التي تفككت وتفرق أصحابها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، وتحويل أغلب دور المسارح إلى دور للسينما. ومن خلال هذا الاتحاد – وغيره – بدأت تتكون الفرقة القومية؛ بوصفها الفرقة الحكومية الأولى في مصر؛ فاستبشر الجميع خيراً؛ بوضع حد لقضية اللغة، تتبناه الفرقة القومية الحكومية. وبالفعل، قامت مجلة الصباح في ديسمبر 1935 – وقبل أسبوع واحد فقط من عرض مسرحية (أهل الكهف)؛ بوصفها مسرحية افتتاح الفرقة القومية – بالحديث عن قضية اللغة، ووجوب ألا تعرض الفرقة مسرحيات عامية، بل يجب التزامها بالفصحى في عروضها.
وقد قام خليل مطران مدير الفرقة القومية بنشر كلمة له - يوم 6/12/1935 في جريدة المقطم، وقبل عرض مسرحية الافتتاح أهل الكهف – أبان فيها إن الفرقة قومية، يجب أن تتمسك باسمها (قومية)، فلا تعرض إلا المسرحيات المكتوبة بالفصحى “ لأن مهمتها تهذيب الجمهور وتثقيفه، ولا سيما بعد ما أرتقى الشبان المصريون ونضجت عقولهم نضجاً لم يكن فيهم من عشرين عاماً. وليس معقولاً فرقة قومية تؤلف في عروس بلدان الشرق، وتشرف عليها الحكومة المصرية، تعمل على موت اللغة العربية وإحلال العامية محلها. فمن ذا الذي يصدق هذا، أو يعقله بعد ما يعرف أن مصر هي الوحيدة بين أمم الشرق التي صانت لغة القرآن، عندما بسط الترك نفوذهم، وكادوا ينشرون لغتهم في الممالك التابعة لها، فاستطاعت مصر وحدها أن تحافظ على لغة العرب بكل ما فيها من قوة. فإذا زعم الزاعمون أن التمثيل صعب وغير مستساغ بالعربية الفصحى، فسترون ويرى الجمهور معكم أن هذه اللغة الفصحى التي نقدمها في رواياتنا لا تفرق كثيراً عما تتكلم به الأوساط الراقية في مجتمعاتنا، ولن نستطيع بحال أن نمثل بالعامية؛ لأن نفراً من أبناء الشوارع يريدون هذا. قد يصدر هذا منا إذا كنا تجاراً ولكنا مع السرور والحمد لله لسنا هم”.
الخاتمة
وهكذا كان تاريخ قضية الفصحى والعامية في المسرح المصري منذ عام 1894 إلى 1935، كتبته لأبرهن على أن القضية مثارة منذ زمن بعيد، ولأبرهن أيضاً على أن كل من حاول، وسيحاول الإدلاء بأي رأي في هذه القضية، لن يأتي بأي رأي أكثر مما جاء به السابقون من آراء. ألم أقل إن قضية الفصحى والعامية في المسرح، هي إحدى القضايا الأزلية والمزمنة في تاريخ المسرح العربي!!

 


سيد علي إسماعيل