مختارات من كتابات سيد خطاب التقنية الرقمية وفن الكتابة المسرحية

مختارات من كتابات سيد خطاب  التقنية الرقمية وفن الكتابة المسرحية

العدد 544 صدر بتاريخ 29يناير2018

ليس هناك من شك في أن السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين تمثل مرحلة مفصلية من مراحل تطور الحضارة الإنسانية، حيث تتم فيها إعادة تشكيل خارطة العالم سياسيًا وفكريا واقتصاديا.. وما كان انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط سور برلين والحروب والنزاعات التي تغطي مساحات كبيرة من الرقعة الأرضية إضافة إلى ما يدور من حروب في باطن الأرض وفي الفضاء إلا المظاهر المادية والبدايات التمهيدية لعملية إعادة رسم الخارطة الإنسانية بشكل فعلي.
ومن المسلم به أيضًا أن المسرح؛ وهو الوسيط التعبيري الأكثر قربًا من هموم الإنسان، والأكثر قدرة على قراءة الواقع، واستشراف المستقبل قد تأثر بشكل كبير بمرحلة الهدم وإعادة البناء التي يمر بها العالم فتفاعل معها تفاعلاً إيجابيًا حيث يعيد تشكيل بنيته وشكله بما يتيح له القدرة على الفعل في واقعه بمعطيات عصره وآلياته، ولأن  هذا العصر هو عصر ثورة المعلومات والاتصالات البعدية آثر المسرح أن يستعين بهذه التكنولوجيا المتطورة في إعادة بناء الوعي الجمالي للإنسان (المبدع / المتلقي).
ولأن جوهر التطور التقني لهذا العصر هو الكمبيوتر فإنه بتزاوجه مع تطور وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية أصبح يمثل البنية العقلية لتطور العالم بما لديه من قدرات تكاملية لوسائط عدة، وتبادلية في علاقته بجمهوره، فهو ليس أحادي التوجه بل لديه القدرة على استيعاب الأثر العكسي وتفعيله؛ فهو تفاعلي البناء؛ وقد استطاع في الوقت نفسه -  أي الكمبيوتر – أن يجد لغته الخاصة الرقمية التي مكنته من تحقيق قدرة عالية على التكثيف والاختزال تتناسب مع الكم الهائل من المعلومات التي تتوافر في كل ثانية، وجد المسرح ضالته في التزاوج بينه وبين الكمبيوتر، مستعينًا على ذلك باللغة الرقمية لتحل شريكًا للغة التعبيرية التي مارسها المسرح على مدى عمره الطويل، وكلاهما – أي الكمبيوتر والمسرح ـ يعد تعددي الوسائط، والتقنية الرقمية تعد ثورة تكنولوجية بكل ما تحمله كلمة ثورة من معان؛ حيث هي انقلاب على السائد والممكن والسابق لها في وسائل جمع وتخزين المعلومات وتبادلها بكل أشكالها (النصية، والمسموعة، والمرئية) وهي التعبير التقني عما تنبأ به مبدعو المسرح في النصف الأول من القرن العشرين حيث يصبح الرقم هو التعبير الأساسي عن اغتراب الإنسان في العالم الآلي.
ومن خلال العلاقة الجدلية بين المسرح والكمبيوتر سمعنا في الآونة الأخيرة ما يتردد من مصطلحات مثل “المسرح الرقمي”، “مسرح الإنترنت”، “الممثل الكمبيوتر”، “الفضاء التصوري”، “الواقع الافتراضي”..إلخ، وغيرها من المصطلحات التي تدفع الإنسان إلى التساؤل عن معانيها والبحث في جوانبها التطبيقية والتي ما زالت جميعها قيد البحث في مراكز الأبحاث العملية في جامعات أوربا بهدف استكشاف الإمكانات التي يمكن أن تساهم بها التقنية الرقمية في إثراء الوسيط المسرحي الذي يعاني من انفضاض الجمهور عنه في مصر وفي غيرها، وذلك للتطور المذهل في الوسائط الأخرى وسهولة وصولها لشريحة كبيرة من المشاهدين، ولأن الجمهور واجتذابه هو الهم الأكبر لمبدعي المسرح وباحثيه كان ضروريًا التعامل مع أدوات وتقنيات لها القدرة على تحقيق أكبر قدر من الاتصالية والتبادلية؛ حيث إن تكاملية العناصر الفنية تطرح نمطًا متميزًا للعلاقات بين القائمين على العمل الفني والمتلقي ليصبح العمل الفني ككل متكامل لا تتحقق صورته النهائية إلا بعد المشاركة الإبداعية للمتلقي، ليصبح العمل الفني بمثابة المحفز الإبداعي للطاقات الكامنة للمتلقي، إنه سؤال بانتظار إجابات متعددة – لا إجابة واحدة – إجابات تقبل الاختلاف والتنوع الذي يغير من مسار العمل الإبداعي نفسه كما كان يتصوره المبدعون الأساسيون أو طارحو السؤال الأساسي للعرض المسرحي، ولأن المسرح كوسيط يضم بداخله أشكالا تعبيرية متعددة كان له القدرة على التحاور مع الوسائط الفنية والتقنيات التكنولوجية المتطورة في كل عصر من العصور، وهو تحاور إيجابي قائم على التأثير والتأثر، وفي كل مرحلة يولد فيها وسيط جديد كانت للمسرح القدرة على إعادة قراءة نقدية لدوره ووظيفته وتقنياته بما يتيح له التعامل مع الوسيط الجديد أو التقنية الجديدة بحكم أنها نتاج الواقع، والمسرح معنى بتلمس جوهر الواقع والكشف عن العمق الفلسفي الذي تحمله هذه التقنية باعتبارها إنجازًا حضاريًا، الأمر الذي أعطى للمسرح القدرة على الاستمرار في منافسة مع وسائط أكثر منه قدرة تقنية، وأسهل في الوصول إلى عدد كبير من المشاهدين مثل السينما والصحافة والتليفزيون، وبفضل احتفاظ المسرح دون غيره من الوسائط بصيغة شعبية – رغم ما أحاط معماره من طابع سلطوي في كثير من مراحله – تمكن من ابتكار التقنيات الفنية في الكتابة والعرض بما يتيح له أكبر قدر من التبادلية في علاقته بالمتلقي؛ حيث اعتنى مبدعو المسرح برد الفعل الناتج عن عملية التواصل الحية والآنية والمباشرة بمساحات مختلفة حسب الدور الذي يلعبه في واقعه وفي كل مرحلة تاريخية؛ الأمر الذي دفع الجماعات المسرحية ومراكز البحث العلمية في الجامعات والمعاهد الفنية في العالم إلى إعادة النظر في التقنيات القديمة والبحث عن صيغة جديدة تمكن المسرح من التحاور مع الواقع ولكي يصبح فاعلاً فيه وليس مجرد مشاهد له أو واصفة إياه، ومن إحدى أهم هذه المحاولات المعاصرة التفاعل مع التقنيات الرقمية وهذه المحاولة تعد نقلة جوهرية في طريقة تعامل مبدعى المسرح مع التكنولوجيا الحديثة؛ حيث إنهم لم يكتفوا بسماع أصوات محركات الطائرات كما فعل من قبلهم المستقبليون أو أصوات المدافع الرشاشة وصور الخراب والدمار كما فعل “بريشت، وبسكاتور” أو إعلان نهاية العالم وفقدانه للمعنى كما فعل العبثيون، ولكنهم توجهوا إلى التكنولوجيا نفسها التي يستخدمها من يدمرون العالم في تطوير الأسلحة ليعيدوا بناء العالم تعبيريا وفنيا تواصلا مع قطاعات كبيرة من المشاهدين الذين لم يعد دورهم كمشاهدين سلبيين كافيا، بل ضرورة دفعهم إلى المشاركة في العملية الإبداعية والاستمتاع بكونهم فاعلين أساسيين في صياغة الحدث الدرامي وفي أدائه وفي التعليق عليه. هذه المشاركة الإبداعية الكاملة للمتلقي هي في حد ذاتها الطابع الثوري المهم الذي يصنعه مبدعو هذا النوع من المسرح والذي يضعهم في مصاف الطليعيين والمبشرين بحركة مسرحية ناهضة وفاعلة في المرحلة المقبلة على الرغم من اختلاف الآراء حول ما يقدم من خلال شبكات الإنترنت حول كونه مسرحًا من عدمه لا يعدو كونه اختلاف القراءة الأولية للمشروع الإبداعي الرقمي الذي يحدد نفسه بسمات وخصائص مثل “النصية المكبرة، والتبادلية، والتكاملية” وجميعها سمات وخصائص مسرحية.


د.سيد خطاب