الليالي الملاح بين المدح والقدح

الليالي الملاح بين المدح والقدح

العدد 836 صدر بتاريخ 4سبتمبر2023

كما قلت في المقالة السابقة إن مسرحية «الليالي الملاح» كانت بداية مرحلة جديدة لتألق الريحاني وعروضه - بعد أن تخلى عن شخصية «كشكش بك» - وهذه المرحلة صاحبتها مرحلة نقدية لم نعهدها من قبل حول عروض الريحاني، وذكرنا دليلاً على ذلك في نهاية مقالتنا السابقة، عندما نشرنا كلمة الدكتور عبد السلام الجندي، الذي وصف عرض «الليالي الملاح» بالانتماء إلى المسرح الفكري! وهذه الكلمة كانت بداية انقسام النُقاد حول هذه المسرحية بين مادح وقادح!! ولكن الأهم هو ظهور النقد الموضوعي بصورة منهجية فنية موثقة، وهو النقد الذي تبناه الناقد الفني لجريدة «المقطم»، الذي كتب ثلاث مقالات مهمة، اشتملت على ترتيب نقدي مقبول، مع توضيح للغز مسرحية «العشرة الطيبة» المنسوبة للريحاني، رغم عدم تمثيلها من قبل فرقته، ولم يقم بالتمثيل فيها!! كل هذا سنتعرف عليه في مقالتنا هذا والمقالة التالية، حيث إن الحركة النقدية حول عرض «الليالي الملاح» استمر ثلاثة أشهر - وهي مدة استمرار العرض من مارس إلى مايو 1923.
كلمات مادحة
كتب «أحمد فهمي أبو الخير» - ليسانسيه في العلوم – كلمة في جريدة المقطم، قال فيها: «مضى علىَّ عامان أو يزيد، وأنا مُضرِب عن غشيان دور التمثيل الكوميدي لأني وجدت فيه خروجاً عن الحد، وخلاعة ما بعدها خلاعة، وقد حافظت ما عاهدت عليه نفسي إلى أمس. ذلك لأني سمعت الكثيرين يمتدحون رواية «الليالي الملاح»، ويدفعونني دفعاً إلى مشاهدة تمثيلها، قائلين إنها ظهرت عن كثير مما مضي من الروايات، وخلت من المعايب والنقائص التي كرّهت الكثيرين في هذا التمثيل وحجبتهم عن غشيان دوره. ذهبت أمس، إلى ملهى الإجبسيانا، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت الحال غير الحال، ووجدت أن المنهاج قد تبدل. فالنكات ارتقى مستواها، والعظات أدمجت في قالب لا تمجه النفس، وأغفل المؤلف ذكر المصري والمصرية، مما كان يكثر ذكره في الروايات لمناسبة وغير مناسبة، قصد تغطية ما في الرواية من نقص، وإرضاء لجمهور العامة، الذين كان يستغرق تصفيقهم وضجيجهم عند ذكر أمثال هذه الكلمات الجوفاء، أكثر مما يستغرق تمثيل الرواية. هذا عدا ما سمعته من نغمات متناسقات، ودقات متوافقات، أو ما رأيته من ممثلين وممثلات أبدعوا في التمثيل أيمّا إبداع. وأجادوا الإلقاء أية إجادة. ناهيك بما أظهره الأستاذ نجيب الريحاني من خفة وظرف. وما أظهرته السيدة بديعة مصابني، من رشاقة، ولباقة، ومهارة في الغناء، وإبداع في الرقص العربي السوري. ومن الممثلين الذين لفتوا إليهم الأنظار بنوع خاص، ممثل دور الوزير، وممثل دور ابنه الأبله، فقد أجاد الأول في السبك، كما أجاد الآخر في تمثيل دور الأبله. وعندي أن هذا الممثل الأخير من خيرة من وفق الأستاذ نجيب الريحاني إلى اختيارهم [وللأسف لم يذكر الناقد أسماءهما، حيث إن الإعلانات لم تذكر أسماء ممثلي هذه المسرحية بصورة تفصيلية، ولم تذكر سوى الريحاني وبديعة مصابني]. أما تلحين الرواية، فقد جاء من قطع الموسيقى الرقيقة الدقيقة. يعجبني فيه أنه خلا من «تجعيرات» وأصوات منكرات مما يشهد لملحن الرواية بالسبق وعلو الكعب. ويظهر لي أنه راعى في تلحينها الأنغام العربية القديمة، التي لا تزال ترى لها رنة في الألحان السورية، حتى تكون متوافقة مع موضوع الرواية. والخلاصة أن الأستاذ نجيب الريحاني في لياليه الملاح قد خطا بجوقته إلى الأمام خطوة واسعة نرجو أن تليها خطوات متتابعات، تقيل هذا النوع من التمثيل من عثراته، وترفعه إلى المستوى اللائق، الذي يُرجى منه تهذيب النفوس وترقية العواطف وذلك بالجمع بين الفكاهة والعظة».
وقال المسرحي القدير «عبد القادر المسيري» في كلمته المنشورة في جريدة «السياسة»: «.. جادت قريحة المؤلف العصري بديع أفندي خيري بنوع جديد ومجهود عظيم مبتكر من أجمل قصص العرب وهي «ألف ليلة وليلة»، ضمّن في روايته الأولى «الليالي الملاح» قصة علاء الدين الخياط مع بدر البدور. ظهرت هذه الرواية فكانت آية ناطقة بقدرة المؤلف ومثالاً حسناً لأولئك الممثلين الذين ظهروا في هذه الرواية نماذج طيبة ودرراً نفيسة. قام نجيب أفندي الريحاني بتمثيل دور «نوّاس» فكان خفيف الحركات لطيف الحديث لا يحرك ساكناً إلا ويستلقي المتفرج على قفاه ضحكاً! هذا الذي تعوده جمهور كشكش، وظن أنه لا يقدر على القيام بسواه. أما السيدة بديعة مصابني فيجب أن يفسح لها التمثيل المصري مجالاً فقد نبغت نبوغاً فائقاً وضربت في الغناء والرشاقة بسهم صائب جعلها إمامة هذا النوع في مصر. أما بقية الممثلين فكلهم أكفاء عرفناهم قديماً وبرعوا حديثاً وبالجملة فإني خرجت من دار الإجبسيانا مرتاح الضمير، حيث علمت أن التمثيل الفكاهي خرج إلى طور جديد وأرتقي رقياً محسوساً، ولم يبق مجالاً لمنتقد أو كلمة لحاسد وليعلم المصريون أن أبناءهم ذوو قدرة فائقة، فإذا ما تفرغوا لعمل أتقنوه وإذا ما عالجوا ميتاً أحيوه، فتقر العيون وتنشرح الصدور وتبتسم الثغور ويعطي كل ذي حق حقه، وينال تشجيع جمهوره الكريم فيبعث فيه روح الجهاد إلى النهاية حتى يبلغ الغاية ويتم نجاحه».

كلمات قادحة
في مقابل الكلمات السابقة التي رحبت باتجاه الريحاني الجديد ومدحت مسرحيته «الليالي الملاح» بما فيها من تجديد وكوميديا وغناء .. إلخ، وجدنا كلمات قادحة كُتبت ضد هذا الاتجاه ونجاحه، وهذا ما نشرته جريدة «النيل المصور» في نهاية أبريل 1923، قائلة تحت عنوان «حول مهزلة كشكش بك»: «كلٌ يغني على ليلاه .. اختلف سني وشيعي في أي الخلفاء الراشدين أفضل بعد رسول الله، فقال الشيعي إنه «علي»، وقال الآخر لا بل هو «أبو بكر أو عثمان أو عمر». وإنهما لكذلك إذ أقبل عليهما «أبو نوّاس» فرجعا إليه يسألانه أي الخلفاء الراشدين أفضل، فأجابهما على الفور: لا شك أنه «يزيد بن الفضل»! فقالا له - وقد دُهشا لهذا الجواب - ومنْ يزيد بن الفضل هذا؟ قال هو رجل يعطيني كل عام ألف دينار. وهكذا كانت الحال في تصرف بعض الصحف التجارية التي تؤثر المادة على مصلحة الأمة، حتى بلغ من استخفافهم بالرأي العام أنهم أخذوا يكيلون المدائح جزافاً في إطراء الريحاني، والتغني بمدح مهازله الخليعة وسخافاتها الرقيعة، كل ذلك لقاء نفحة مال أو روعة جمال. فلو سألت أولئك الكُتّاب الماديين الذين يتاجرون بأقبح أساليب التضليل أي المعاهد العلمية أفضل لتهذيب الأخلاق وتثقيف العقول؟ لأجابوك إنه مرسح كشكش بك. وما ذلك إلا لأنه يفيض عليهم من آن لآخر بشيء من المال لقاء ما يرددونه في مدائحهم من عبارات الزور والضلال. إنه لمن المدهش أن يكون هذا حال الصحف العربية عندنا، وهي المهيمنة على الآداب وأن يكون من بساطة الشعب المصري أن ينقاد لأي نداء بعد أن رأى من مضار تلك المهازل. وكأنهم قد نسوا تلك الضجة التي قامت حول هذا النوع من التمثيل الضار بالأخلاق، وقد اتخذت من أقلام الكُتّاب الغيورين أسنة ورماحاً لمحاربة «أبو الكشاكش» ذلك الرجل الذي قتل أخلاق الأمة في مصر، وراح يُسوّء سمعتها في خارج القطر. إننا لا نلوم الصحف المضللة التي آثرت حُب المال على مصلحة الأمة. وها نحن نرى عملها اليوم في محاربة كل ما هو نافع ومفيد. ولا نلوم الريحاني نفسه ونحن نعلم إنه لا يقتاد الشعب إليه بقوة قاهرة، ولئن فعلنا فهو لا يجيبنا إلا بقول إبليس: لا تلوموني ولوموا أنفسكم!! إذاً فنحن نعرف من الملوم؟ عاد كشكش منبوذاً من الديار السورية بعد أن طعن المصريين تلك الطعنة المسمومة، وبعد أن خسر آخر ما جمعه من مال المصريين، ولكنه عاد بزي جديد ولون براق يستهوي عقول البسطاء، ونوع عصري من أنواع الخلاعة المبتذلة في صورة التمثيل. فإذا كان هذا ما حدا ببعض الأفاكين إلى التغني بفضله! وإذا كانت بضاعته الجديدة التي جلبها إلينا من الخارج «وارد سوريا» [يقصد بديعة مصابني]، وإذا شئت فقل أولئك الراقصات اللواتي يرقصن ذلك الرقص المستهجن منذ سبعة أعوام حيث كانت تمثل في فرقة الشيخ أحمد الشامي. هذا كل ما دعا بعض الكُتّاب الذين أعماهم الغرض لأن يحبذوا عمله ويقرظوا مهازله التي لا تكاد تكون شبه تمثيل، كما يقرظون روايات فرقة وهبي وعكاشة وغيرهما من فرق التمثيل الأدبي. إن الريحاني اليوم هو الريحاني بالأمس بل هو أشد أذى مما كنا نراه إذ أصبحنا اليوم ونحن نرى على مرسحه نوعاً مرذولاً من أنواع التهتك «رقص البطن»، الذي حاربته السلطة منذ عهد بعيد! فإذا كان رقص غناجة بالصاجات وحولها جوقة من «المشاعلية» أو «الصهبجية» يترنمون بتلك الأناشيد المرذولة التي لا تخرج عن أناشيد «الحاج حسن طبال ألف ليلة»، والمرحوم علي عبد ربه «واصل حبيبك يوم»، هو كل ما رأته تلك الصحف من رقي التمثيل، فقل على الفضيلة السلام. وإذا كانت مهزلته السخيفة «الليالي الملاح» التي تمخضت عنها قريحته كما يتمخض الجبل فيلد فأراً».

النقد الموضوعي
نشر الناقد الفني لجريدة «المقطم» ثلاث مقالات في شهر مايو 1923 بخصوص مسرحية «الليالي الملاح»، حيث كتب عنها بصورة نقدية موضوعية وبشكل منهجي لم نتعوّد عليه من قبل - كما أوضحت في مقدمة هذه المقالة - وللأسف الشديد لم يُوقع هذا الناقد باسمه حتى نعرف من هو!! كما أن الجريدة لم تشر إليه أو إلى اسمه طوال نشر المقالات الثلاث!! وهذا الأمر جعلني أبحث عن هذا الناقد لقيمة ما كتبه في هذه المقالات، حتى وجدت خبراً مقتضباً يُشير إلى أن جريدة «المقطم» - في أوائل عام 1923 - قررت أن ينشر في صفحاتها أحد المسرحيين وهو «زكي طليمات» الذي كتب مجموعة كبيرة من هذه المقالات منشورة باسم ناقد الجريدة الفني، وهي مقالات مجهولة لزكي طليمات لم تُجمع حتى الآن!! ومنها هذه المقالات الثلاث التي سنتحدث عنها!!
في مقالة زكي طليمات الأولى تحدث عن بداية الريحاني وأعماله الهزلية الأولى في كازينو «الأبيه دي روز»، ودهشة أصحاب التمثيل الجدي من تحول الجمهور عن مسارحهم وتهافتهم على دور الهزليين في شارع عماد الدين، وكانت الحملة الكتابية التي أثارها الكُتّاب على المسرح الهزلي ذوو الغيرة على الفضيلة والفن شديدة جداً. أما اليوم وقد تخلص هذا المسرح من إحدى آفاته الماضية، وهي الخلاعة السافرة المفتعلة. وبعد مقدمة نظرية طويلة، قال – طليمات أو كما سنسميه في هذا الموضع - الناقد: ونوع «الفرانكوآراب» جدير بشيء من الشرح والإسهاب، لأنه نوع لم تتمتع به مسارح العالم قبل ظهوره في مصر. ولأنه النوع الذي تأسس عليه المسرح الهزلي فهو عبارة عن مهزلة صغيرة تمثل حادثة بسيطة مع شيء من المفاجآت الغريبة في حوادثها والنسيج المضحك، وكانت في أول ظهورها لا تتجاوز الفصل الواحد، ثم صارت فصلين، وما فتئت أن تجاوزتهما في رواية «أم أحمد»، وهي رواية أخرجها الريحاني! والغريب في هذه المهازل أن المحاورة تنتقل من العامية إلى الفرنسوية أو تصبح خليطاً بين الاثنين. وهذا العنصر الجديد الغريب هو سبب نجاح الريحاني، ولكن ليس الريحاني هو مبتدع هذا النوع فقد سمعنا عنه في مسرح عبد العزيز - [يقصد مسرح إسكندر فرح في شارع عبد العزيز، الذي تحوّل إلى سينما أوليمبيا فيما بعد] - قبل ظهوره على يدي الريحاني من خلال شخصية كشكش بك، ولكن المهم أن الريحاني هو أول من نشره.
ثم استمر الناقد في ذكر تاريخ الريحاني وتطور عروضه حتى قال: وجاءت الحرب الكبرى وأقفلت الطريق إلى الخارج فأنقطع ورود الفرق الأفرنجية التي كانت تفد على مصر كل ربيع وشتاء، والتي كان يجد فيها النزلاء والأجانب كل تسليتهم. وما لبث أن أغلقت المراقص وضاقت أماكن السهر، فلم تجد الجماهير مكاناً للتسلية أحسن من دار «الأبيه دي روز» حيث يقدم الريحاني مهازله. وهكذا ترعرع التمثيل الهزلي الذي نقله الريحاني إلى الرينسانس والإجبسيانا. وكانت رواية «العشرة الطيبة» التي وضعها المرحوم محمد بك تيمور وأخرجها بمال الريحاني وتحت إشراف الأستاذ عزيز عيد أكبر دافع للمسرح الهزلي إلى نهج طريق الفن! وأقصد بالفن هنا فن التمثيل الغنائي، الذي بدأ يدرج فيه الآن. هذا ملخص لحياة المسرح الهزلي حتى دوره الأخير.
وفي مقالته الثانية استكمل الناقد كلامه، قائلاً: إن رواية «العشرة الطيبة» هي أول مثل فني ظهر على مسارح الهزليين يوم أن تولاها بدرايته الأستاذ عزيز عيد. ثم انتقل مباشرة إلى الحديث عن مسرحية «الليالي الملاح»!! وهو موضوع مقالتنا القادمة، والذي جعلني أهتم بمقالات هذا الناقد هو حديثه عن مسرحية «العشرة الطيبة»، وعلاقة الريحاني بها، وقد ذكرناها ضمن سلسلة مذكرات الريحاني الحقيقية والمجهولة التي نشرتها جريدة «مسرحنا» من قبل!! ورغم ذلك لم أتحدث عنها نهائياً في سلسلتنا الحالية حول تاريخ مسرح الريحاني، لأنني لم أجد توثيقاً يؤكد أن الريحاني عرضها على مسرحه أو مثّل فيها!! أما ناقد جريدة «المقطم» فقد فسر هذا اللغز في مقالتيه – الثانية والثالثة – حيث بدأهما بالحديث عن مسرحية «الليالي الملاح»، ثم تحدث عن «العشرة الطيبة» عندما تجاهل اسم «بديع خيري»، مما جعل الأخير يعترض، والأول استدرك الأمر .. وهذا هو موضوع مقالتنا الأسبوع القادم.


سيد علي إسماعيل