قراءات فى .. مسرح فوزي فهمي(2-2)

قراءات فى .. مسرح فوزي فهمي(2-2)

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018

 

تفاصيل كثيرة أردت أن أسردها كي نتعرف على مكنون ما أراد أن يعبر عنه الكاتب، وهي تفاصيل يحيط الإبهام الكثير منها، ورغم ذلك فسّرها (قاموس المسرح) بأنّها (تنويعات على أسطورة أندروماك القديمة) يتناول قصة أندروماك برؤية عصرية ترتكز على مفهوم السلم (كحل جذري للصراعات والمنازعات الدولية)، بينما يراها الناقد الكبير “فاروق عبد القادر” (عن كتاب المسرح المصري في السبعينات والثمانينات - الفرسان الصاعدون إلى الخشبة المنهارة – 1984)، أنها “قد اضطربت الشخصيات فيها وتشابكت الخيوط وماعت العواطف واختلطت المصائر”، ويقول أيضا: “وما يزيد من تشتت المسرحية وتميعها، رغبة الكاتب – عن عمد وتصميم - في الدّعوة للسلام، وأوقعته هذه الرّغبة في مآزق متتالية، فمن ناحية: هناك بيروس مأزق الذي يتكلم كثيرا عن السلام ثم لا يفعل شيئا - أي شيء - من أجل تحقيقه، ومن الناحية الأخرى تفتقد مطالبة (أورست) - والمتآمرين معه ضد بيروس – بالثأر أي منطق معقول.. فأي ثأر يطالب به المنتصرون، ولا المنهزمون؟ ومن الناحية الثالثة، كيف يستقيم أن يجمع ملوك اليونان على المطالبة بابن هكتور الرّضيع لقتله حتّى لا يشبّ مطالبا بثأر أبيه، في الوقت الذي يتركون فيه (هيلينيوس) شقيق هكتور حرّا طليقا، داخلا خارجا، قائما على شؤون أرملة أخيه، دون أن تحاصرهم الشكوك – لحظة واحدة - في أنه قد يطلب الثأر نفسه؟!”.
ويضيف الناقد: “وإصرار الكاتب على تبنّي الدّعوة للسلام أيضا هو ما دفعه لإثقال المسرحية – على تشتّتها – بحكاية (الفتى الأول) و(الفتى الثاني)، فهذا الأخير الذي يدافع عن ضرورة الحرب يلقى مصرعه فيها، ويتزوج أقرب أصدقائه (الفتى الأول) من حبيبته، وينجبان طفلهما في نهاية المسرحية – في عهد بيروس - داعية السّلام، وهو دافعه أيضا إلى مشهد (تقديم القرابين) للموتى – بميلودراميته الزاعقة في التأليف - وسذاجته الداعية للسخرية في التنفيذ”.
ويعلّق الناقد: “كل هذه المآزق والمزالق كي يقول هذه الكلمات الركيكة على لسان قواد أثينا: أن الفارس المحارب هو رجل يملك الكثير من الحكمة، وكل هذه المآزق والمزالق كي يضع هذه الكلمات الركيكة على لسان بيروس – بعبارة واحدة: من أجل تمجيد دعوة (السادات) للسلام، وتأكيده بأن حرب أكتوبر لا بد أن تكون آخر الحروب، وما رأيناه من مغالطة وركاكة ولغة رثة في نص (عودة الغائب) يتضاعف مرّات في (الفارس والأسيرة)”.
إن هذا النّقد الغاضب الذي يسوقه الناقد فاروق عبد القادر «عودة الغائب» و«الفارس والأسيرة» له ما يبرره – من وجهة نظره الشخصية - فلقد توالت على مصر فترة عصيبة، وهو الذي شهد بدايات (من الناحية السياسية) هذه الفترة العصيبة، فجاءت قراءته للنصّين الأدبيين بهذا الشكل المتجني، ولنا أن نعيد قراءة هذا العصر بعد أكثر من أربعة وأربعين عاما، حيث جرت في النّهر مياه كثيرة، ولكن ما زال الخطاب السّائد هو خطاب تلك الفترة، رغم تغيرات الحكّام وانفجار انتفاضات وثورات، وهو ما أساء إلى أدبية النصين وأخفى الكثير من جمالياتها، وخطاب السلام الذي نادى به د. فوزي فهمي في نصّه المسرحي ما زال سائدا وقائما، ورائجا في كثير من المستوات، رغم أن المؤلف أراد أن يواكب شعارات حكّام ذلك العصر، رغم تلك المآخذ في سياقات هذين النّصين، وما فيهما من أحداث، إلا أنه يظلّ أيضا كاشفا لسياقات الحركة المسرحية المصرية التي دأبت على مواكبة الشّعارات السياسية التي يطلقها الحكّام، فتروّج لها، وتبرر أخطاءها، كما بدا لدى بعض كتاب الستينات وغيرهم من ضرورة التعامل مع النظام السياسي الأبوي باعتبار أن الحاكم هو الأب الشرعي لكل الشعب ولا تزال كلمات ناقدنا القدير معبّرة عن رأي صاحبها، ولا يزال نصّ د. فوزي فهمي قابلا لكل القراءات التي قد تختلف أو تتّفق.. لكنّهما نصّان لا يزالان يبحثان عن أكثر من قراءة، إذا أردنا أن تكون لحياتنا المسرحية ذاكرة، وتصبح جزءا من ذاكرة الوطن.
أما ثالث مسرحيات د. فوزي فهمي وآخرها، فهي «لعبة السلطان» 1983، وفيها لا يعود إلى الميثولوجيا اليونانية.. بل يعود إلى التراث العربي، وكان ذلك التّاريخ (1984) بدايات عصر اعتبره الكثيرون امتدادا لعصر (السّادات) الذي سبقه، وإن كان الأخير قد امتدّ عصره لثلاثين عاما - فماذا في «لعبة السلطان» الذي حسبة كاتبنا، ثم أضرب بعدها عن الكتابة للمسرح؟ أي بعد انشغال بالإبداع المسرحي لنحو عشرين عاما، شغلته فيها قضية الحاكم والمحكوم، أو لنقل “شخصية الحاكم وصراعاته مع نفسه ومع العالم (المحكومين)”. وينقسم نص «لعبة السلطان» إلى جزأين، وينتقل في الجزء الأول – وكذا في الجزء الثّاني – ما بين القاهرة وبغداد في عصر هارون الرّشيد. حيث نجد ازدواج الأدوار بين (صاحب صندوق الدّنيا)، و(امرأته)، و(البلياتشو)، وهم الذين يقومون أيضا بأدوار (الرّشيد)، و(العبّاسة)، و(مضحك الرّشيد). ويقوم هؤلاء الثلاثة بتحليل شخصية الرّشيد تحليلا سيكولوجيا حتى يدخلوا بنا إلى تفاصيل النّص من خلال الحوار بين العبّاسة وجعفر البرمكي، حول محنة ما أطلقوا عليه (زواج العين) أي الزواج الصّوري بين (العبّاسة وجعفر) الذي حكم به الرّشيد، وإثراء لخليفة ذلك العصر نجد حوارا فكريا بين المفكّر المعتزلي (الأشرس) وصراعه مع الرّشيد حول فكرة العدل، ويكشف النّص عن تلك العلاقة المرضية بين الرّشيد والعبّاسة، الذي يتخذها بديلا للأم أي أمهما، وينتقل النّص إلى أن هناك علاقة صداقة بين الأشرس وجعفر، واتفاقهما في الفكر والاتجاه، ويقوم البرمكي بالإفراج عنه رغم حكم الرّشيد عليه بالسّجن، وهو الأمر الذي يكشفه الرّشيد، ويكشف البلياتشو طوايا العلاقة بين جعفر والعبّاسة، وأن زواجهما (زواج العين) مخالف للشّرع، إلى أن يختتم الجزء الأول بظهور صاحب الصّندوق والمرأة والبلياتشو للتعليق على ما جرى.
ويبدأ الجزء الثّاني من النّص بهذا الثّلاثي (صاحب الصّندوق والمرأة والبلياتشو) أيضا يمهّدون للأحداث في هذا الجزء؛ إذ يعود صاحب الصّندوق والمرأة للبحث عن ولدهما البلياتشو حتى يجداه - الذي كان يقوم بدور مضحك الرّشيد (ابن أبي مريم) – لنجد العبّاسة وجعفر ما زالا يشكوان من هذا الشّكل من الزّواج الذي فرضه عليهما الرّشيد وهو (زواج العين)، ونشهد كيف تتأبّى جارية شقيقه الرّاحل عليه أي (الرّشيد)، ومشهد آخر (للرّشيد وجعفر) في سوق الغواية وقهوة أبي نوّاس، ويدور حوار بينهما حول فتوى شروط دخول الجنّة، ويشارك فيه زبائن المقهى، ويأتي الدرويش يشكو أحوال العباد وغياب العدل، ويعظ البهلول الرّشيد، ونعود إلى العبّاسة وجعفر، وكيف تسلّلت في الّليل إلى فراشه عملا بحقّ الزّواج الفعلي لا (زواج العين)، ويعترف جعفر للمعتزلي الأشرس أنه خائف أن يعرف بواقعة زواجه الفعلي بالعبّاسة.. فيطلب منه الأشرس مواجهة الرّشيد مُعبّرا عن مبدأه ومقررا: (وأذكّرك بأن الدّنيا تضطرب إذا ما تناسى الثوّار مظالم حاكم)، ويحدث (البلياتشو) نفسه وكأنّه صوت المؤلّف عن جدوى الاقتراب من السّلطان، ويتواصل حوار الرّشيد وجعفر حول قانون القوّة الذي يملكه الرشيد بسبب خوف الآخرين، ويتدخّل البلياتشو ساخرا من الجميع، ويظهر كذلك (الدّرويش) الذي يتقنّع في شخصية (الأشرس)، والذي يقرّر للعبّاسة أن جعفر (كان مطيعا حدّ العجز للرشيد) لينتقل الحوار بين العبّاسة وجعفر عند نهايته، وكذلك مع شقيقها الرّشيد الذي تتّهمه بالجبروت، وتكون حجّته أمامهما بأنّه يحمي دولة آل عبّاس، ويختتم البلياتشو وصاحب الصّندوق والمرأة التي تبشّر بأنها وجدت ابنتها (عسل) التي بحثت عنها طوال حياتها.. بينما يتوجّه البلياتشو للجمهور متحدّثا عن وجوه البشر المتعدّدة.
ترى هل أراد الكاتب أن يعالج صورة الحكم المستبد في عصر الرّشيد أو غيره من العصور؟ وعلاقة المثقّف المتجسّد في فكر المعتزلة بهذه السّلطة المستبدّة القائمة على البطش؟ من هنا اختار عصر الرّشيد ونكبة البرامكة لتجسيد تصوّره، وإن كان قد لجأ إلى الشّكل الشعبي في لعبة تبادل الأدوار، ولمسات من الطّفلة الغائبة (عسل)، والابن الذي يختفي ثمّ يظهر وهو (البلياتشو)، وفي نفس الوقت ركّز سيكولوجيا على علاقة الرّشيد بأمّه وأخته العبّاسة البديلة لأمّه، وهو جانب من العقد النّفسية لشخصية الحاكم المطلق.. ترى هل وفق الكاتب في أن يجعل أحداث نصّه تدور على مستويين؟.. أحدهما في الزمن الحاضر والآخر في التّاريخ الإسلامي في العصر العبّاسي، كان لانتقال الحدث عبر زمانين أهمّيته في إعادة تأمّل الأحداث ما بين مصر ربّما في الزمن الحاضر، وعصر الرّشيد، وقمة ازدهار الحضارة العربية، وهذا الشّكل هو المحاولة الجادّة لينحو نصّه نحو كسر الإيهام الذي تكفّلت به جمل الحوار الطّويلة ومونولوجات الشّخصيات المستفيضة في أن تؤكّد كسر الإيهام هذا.
وظّف كاتبنا نكبة البرامكة بتفسير ورؤية بها جانب نفسي، وجانب سياسي واضح الملامح، أي الصّراع على السّلطة بين السّلطان العربي ووزرائه من الفرس، وقدّم السّلطان كشخصية ممزّقة منقسمة على ذاتها، وفي نفس الوقت شخصية شهوانية يطمع في جارية أبيه وجارية أخيه، وجعل (جعفر البرمكي) من المعتزلة ومؤمنا بأفكارهم، ويبحث عن العدل، ويشجّعه الأشرس على أن ينال حقّه كزوج، وبالعكس تنال (العبّاسة) هذا الحقّ كزوجة، ولو كان في جنح الظلام، وتجاهر أخاها بهذا الفعل، (وأن نطفته بأحشائها) فتكسر بذلك جبل الصّمت الذي يحاصر الجميع، هذا الصمت الذي يلازمه الخوف والتردّد وضعف الهمّة والجبن والعجز عن طلب الحقّ وطلب العدل.
وعندما نلقي نظرة على مقدّمة النّص التي كتبها كاتبنا الكبير (د. لويس عوض) الذي طالما شارك في معاركنا الأدبية، نجده يقرّر أنّ النّص: (عمل راق بأكثر من مقياس)، ويجد في النّص (ثلاثة أبطال، كل منهم توافرت فيه خامة البطل التراجيدي ومقوماته، بحيث نقف بينهم حائرين لا نعرف أيهم قطب المسرحية ومحور ارتكازها؟)، ومع ذلك فنحن لا نسأل هذا السّؤال أو غيره إلا بعد أن يزول عنّا سحر هذا النّص الغريب! ويقرّر د. لويس عوض أيضا أن (زواج العين) هو مرتبة من مراتب الحب أو العشق عند المتصوّفة، ويرى أن الصورة التي قدّم بها المؤلّف للرشيد (تجعل منه وغد هذه المسرحية)! ولكننا لا نمقته – بل نرثي له، (ولولا الحذر في التقدير لقلنا إن هارون الرّشيد هو بطل مسرحية «لعبة السّلطان»). ويتسائل النّاقد حول شخصية (جعفر): (أي رجل هذا الذي يسحق حبّه ويتنازل عن حقوقه الشّرعية وفاء لسيده وصديقه السّلطان؟!، أهو مسلوب الإرادة تماما أمام مولاه المتجبّر؟ أم أن شبقه إلى السّلطه يقمع فيه كلّ شبق آخر؟ ماذا نسمّي هذا النّوع من الرّجال؟) ويتسائل أيضا: فهل قصد (فوزي فهمي) أن يكون جعفر البرمكي هو بطل هذه المأساة؟ بسبب تلك الظلال التي ألقاها المؤلف على شخصيته، لكن د. لويس عوض يجد صعوبة في التعاطف الحقيقي مع هذه الشّخصية، (وهكذا تحوّل جعفر لبرمكي من لغز محيّر إلى بطل تراجيدي) بسبب إفراجه عن ابن الأشرس، وكلامه بلغة التوحيد والعدل، ويقارن بينه وبين (ابن الأشرس) زعيم الثورة، وفيه أيضا مقوّمات (البطل التراجيدي) حين يخاطب الرّشيد مخاطبة الندّ للندّ.
لذا؛ فالنّاقد الكبير يرى أنّ النّص به ثلاث شخصيّات تبحث عن بطولة هي: هارون الرّشيد، وجعفر البرمكي، وابن الأشرس – أمّا (العبّاسة) فهي القربان الذي قدّمه الرّشيد في سبيل تاج إمبراطوريته، ويتساءل: (هل جائز أن يكون للدّراما ثلاثة أبطال أو أربعة؟)، ويرى أن تعدد الأبطال لا يكون إلا في الملاحم (فهل “لعبة السّلطان” ملحمة فكرية أو تاريخية؟) ويختم د. لويس عوض دراسته قائلا: (ورغم هذا التشابك المربك، قدم لنا فوزي فهمي مسرحية نبيلة جميلة.. نبلها من رقي مقصدها، وجمالها من عباراتها الشّاعرية الوعرة، التي تشبه الصّخور الكريمة المنحوتة في بطون الجبال).
وللحقّ، فإن لغة الحوار في مسرحيات فوزي فهمي الثّلاث، تدعو لوقفة متأنية، فقد وصفها النّاقد فاروق عبد القادر بالرّكاكة (من حيث هي بلاغة لفظية لا مسرحية)، بينما يرى د. لويس عوض أن الحوار في «لعبة السّلطان» هو الأحداث، وأكثره من الجدل العقلي الرّفيع العميق.. وهي شهادة قد تنطبق كذلك على مسرحيتيه «عودة الغائب»، و«الفارس والأسيرة» وهو الحوار الذي تتبدى فيه جماليات الفصحى واتخاذها منهجا غير عادي في التقديم والتأخير في الضّمائر والأفعال، بعيد عن السلاسة، وقريب من محاولة الاجتهاد في الصّياغة الرّصينة التي تختلف عن صياغات الفصحى لمسرحيات من سبقوه ممن كتبوا للمسرح بالفصحي.
أمّا هذا (التشابك) الذي أشار إليه د. لويس عوض، فهو في تصوّري يعكس تلك الحيرة التي انتابت الكاتب في ذلك الزّمن – بدايات عصر (مبارك)، وبعد اغتيال (السادات) – حين سارت السّلطة الجديدة لحكم (مبارك) على النّمط الساداتي. والكاتب في نصّه الأخير يكشف عورات السّلطة والحكّام وموقف المطالبين بالعدل من أهل الفكر – تلك السّلطة التي تحرّص دائما على دعم هيمنتها وسيطرتها، والتي تتمثّل في (الرّشيد)، وفي سبيل ذلك تلجأ إلى الخداع والتزييف حتى في عقود الزواج الشرعية، وكذا موقف تابع السلطة (البرمكي) الذي يكبله الخوف من مصارحة السلطان.
 ويكشف كاتبنا هنا (الأدواء) التي تعاني منها السّلطة، وتحاول أن تخفيها، وما بداخلها من شروخ – بينما الشّعب الذي يمثله (صاحب صندوق الدّنيا)، والمرأة، والبلياتشو، الذي يبدو أنّه لا يخاف السّلطان، ويصارحه لكن - دون إرادة وقوة، وهم ممثّلو الشّعب الثلاثة عاجزون يبحثون عن لقمة العيش وعن ابنة غائبة ربما كانت هي الحرية – لذا أتصور أنّ الكاتب وفي تلك الفترة التي كان يتعامل فيها مع السّلطة السّياسية، بحكم منصبه المهم في وزارة الثّقافة، ويتعامل مع هذا النّظام السياسي، وكان واقعيا في تصويره لصورة الحاكم والسّلطة، بعد أن توارت شعارات التقدّمية والثّورية، وبعد زيارة (السّادات) لإسرائيل، والتّصالح مع العدو الصّهيوني – فلجأ إلى (الإسقاطات السياسية) كما لجأ من قبل كتّاب مسرح وراء أقنعة التّاريخ والأساطير وغيرها من الأقنعة، ولأنّه أصبح يدرك أن لا جدوى من العزف على نفس النّغمات القديمة، وكان لا بد أن نواكب النّغمة السّائدة، فابعتد عن المباشرة دائما، ودائما ما كان حريصا على أدبية النّص المسرحي. نلمسه في عملية السابقين وأولهما «عودة الغائب» التي كتبها عام 1968 بعد هزيمة يونيو 1967، نجده يقدم لنا بطلا مهزوما هو (أوديب) رضي لنفسه أن يخفي الحقيقة عن شعبه، وأسوأ من ذلك رضي أن يستمر في حياة هي (الدنس) والسّقوط – فلا بد أن تكون (الهزيمة) هي في النّهاية، هزيمة البطل والقائد والزّعيم الذي أخفى فسادا هائلا كان لا بد أن يؤدي إلى الهزيمة النّكراء، ولم ينتبه إلى تربّص أعدائه به، وعلى رأسهم (كريون)، (ترسياس). وفي مسرحيته الثانية «الفارس والأسيرة» التي كتبت ما بين عامي 1977 – 1978 وقدمها المسرح عام 1979 في عصر السّادات الذي نادى بالسّلام مع إسرائيل - فجعل من بطله (بيروس) مناديا بالسّلام بعد أن انتهت حرب طروادة بين اليونانيين والطرواديين – موظّفا قصّة (أندروماك) الطروادية أرملة هكتور قائد الطرواديين - الذي مات في سبيل الدّفاع عن وطنه طروادة – فجاءت أسيرة لدى بيروس القائد اليوناني الشّاب ابن أخيل، الذي قتل هكتور زوجها، فأكرم (بيروس) وفادتها وحماها من قادة اليونان الذين أرادوا قتل الطّفل الذي تربيه – حتى لا يعود أهل طروادة ينادون بالثأر من هزيمتهم – ويقف (بيروس) لقادة اليونان بالمرصاد، الذين أرادوا العودة للحرب والقتال – وهذه هي الصّورة التي رسمها الكاتب لبطله في «الفارس والأسيرة» وأراد أن تكون الصّورة الشبيهة تماما بصورة (السّادات) بطل الحرب والسّلام، وها هو الكاتب يتعامل مع النّظام السّياسي بواقعية المثقّف الذي لا يستطيع شيئا أمام الحاكم - رغم المعارضة الشّرسة التي استهدفت السّادات عربيا حين قطعت البلاد العربية علاقاتها مع مصر، وداخليا في شكل معارضة كلامية لا تقدر على فعل. إلى أن جاء الفعل باغتياله في حادث المنصّة على أيدي إسلاميين ذوي فكر أحادي الجانب. لذا اختار كاتبنا أن يواكب ذلك الزّمن ببطل يدعو للسّلام في ظلّ حاكم لقب نفسه ببطل الحرب والسّلام.
وختاما، فإن مسرح فوزي فهمي قد تعرّض لكثير من القراءات التي تنوّعت ما بين الهجوم الحادّ والقاسي، وما بين القراءات الأخرى، الأكثر موضوعية واعتدال، وربما أنصف بعضها واجتهد في التأويل والتفسير.. ولكن تتعدّد القراءات، ويظل النّص دائما ملكا لمزيد من القراءات.. وهو قدر المبدعين الذين يقدّمون نصوصهم لمزيد ومزيد من القراءة والمحاولة - فهو رغم هذا العدد القليل من الأعمال المسرحية قد أثار الكثير من التساؤلات مع أو ضد منطلقاته الفكرية – لكنها بالفعل جديرة بالاهتمام وإعادة النظر.
 

 


عبد الغنى داوود