في المهرجان الختامي لنوادي المسرح أزمات جيل محاصر وانتصار المسرح

في المهرجان الختامي لنوادي المسرح أزمات جيل محاصر وانتصار المسرح

العدد 614 صدر بتاريخ 3يونيو2019

سنوات طوال تفصل بين الدورة الأولى لمهرجان حركة نوادي المسرح الذي انطلق في بداية التسعينات، والدورة الأخيرة التي انتهت فعالياتها قبل أسابيع في مدينة بنها في نهاية العشرية الأولى من القرن الجديد، سنوات طوال مرت خلالها تلك الحركة بالكثير من التحولات بين اتساع ونمو وتراجع وخفوت، مرت بأزمات وتحولات في رؤية الفنانين لدورها ومجالها وأهدافها، كما مرت بكارثة حريق بني سويف.. لكنها ورغم كل ذلك لم تزل حاضرة ومحافظة على قدرتها على جذب انتباه الكثير من المبدعين والنقاد الذين يرتبطون معها بروابط شخصية وقناعات فنية وجمالية أو حتى من يرتبطون معها بوصفها الطريق الأكثر مباشرة لاحتراف العمل المسرحي بوصفهم مخرجين.
ربما لم يحظَ أي تيار أو شكل إنتاج مسرحي بهذا القدر من الاهتمام النقدي والمتابعة لفعالياته وتحولاته كما حظيت حركة نوادي المسرح خلال سنوات عمرها الطويلة، حيث كانت عروضها والظواهر التي تنتجها ومبدعوها وما تحيل إليه من تحولات اجتماعية وسياسية والأشكال الفنية التي تعتمدها، مجال خصب لعشرات – وربما المئات – من المقالات والدراسات النقدية التي تناولتها، كما كانت آلية عملها ومعايير تقييم عروضها وتوجهاتها محل اهتمام الكثير من المسرحيين المنتمين لها، بالإضافة للحركة النقدية التي صاحبتها وتبنتها.
من هنا، قد تكون محاولة الاقتراب من فعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان محاطة ومحمولة فوق خطاب خاص بتلك الظاهرة وتجلياتها وانتمائها وهويتها والآمال المعقودة عليها في الحاضر والمستقبل، وهو ما يجعل من تلك المحاولة لقراءتها محفوفة بالكثير من المخاطر والمزالق التي تحيل بشكل مباشر إلى قواعد بعينها يجب أن ترتبط بها تلك العروض أو تحملها.. أو ما يطلق عليه بشكل عام «فلسفة نوادي المسرح»، كما لو أن هناك مجموعة من القواعد التأسيسية التي هناك اعتراف جماعي بها، لكن تلك القواعد والفلسفة الجمالية التي تتم الإحالة إليها ليست محل اتفاق أو مصاغة بشكل نهائي ومعترف بها، بل هي خليط من الكتابات والتوافقات التي تتحرك في تخوم جمالية مرتبطة بنمو الحركة المسرحية المصرية بشكل عام، بحيث تتحول التحولات الجمالية والفكرية الأكثر حداثة لجزء أصيل من قواعد تعريف تلك الحركة لنفسها التي تطرح نفسها في جزء من خطابها بوصفها المسرح الأكثر جرأة وحدة وتمردا على الواقع المسرحي من خلال أفكار ورؤى شباب تلك الحركة الذين يتم تقديمهم بوصفهم الأكثر براءة وثورية، ومستقبل حركة المسرح المصري.
لكننا هنا سوف نحاول الابتعاد بعض الشيء عن ذلك الخطاب الذي يطرح نفسه باعتباره مجموعة من المعايير الجمالية النهائية للتقييم، ونحاول التوقف أمام ما أنتجته تلك الحركة خلال عام يعد من أكثر أعوام المسرح المصري قسوة بسبب تنامي الرقابة لحدود غير مسبوقة (على الأقل بتلك الصورة المزعجة والمزرية)، حيث أصبحت عروض نوادي المسرح خاضعة بشكل كامل بداية من هذا العام للرقابة على المصنفات الفنية ليس على مستوى النص فحسب، كما كان الحال في الأعوام الماضية، بل رقابة تطال العروض ذاتها من خلال حضور ممثل للرقابة على المصنفات الفنية.. وهو ما يمثل تحولا كارثيا في تاريخ تلك الحركة، فخلال عقود نجحت الإدارة العامة للمسرح في تحييد موقف نوادي المسرح من الرقابة، سواء الفنية أو الأمنية، عبر الكثير من المناورات التي كانت تستهدف بالأساس منح شباب تلك الحركة أكبر مساحة ممكنة من حرية التفكير والإبداع، وهو ما مثل بالتدريج جزءا من خطابها عن نفسها بوصفها حركة متمردة منفلتة من الرقابة بكل أشكالها.. بالتأكيد، فإن ذلك لم يكن حقيقيا بالكامل لكنه كان كافيا لمنح قدر من الشرعية لتلك الحركة لطرح نفسها بوصفها حرة لعقود.
هنا يمكن لنا أن ننطلق في رؤيتنا لتلك الظاهرة ومجال عملها في ظل متغيرات شديدة القسوة تطال المسرح المصري ككل، وتلك الحركة بشكل خاص.. فعبر عشرين عرضا قدمت في ختامي نوادي المسرح لهذا العام يمكن رؤية الكيفيات التي اعتمدها المبدعون في التعامل مع الواقع الجديد الذي فرض عليهم ومحاولتهم التحايل عليه أو التوافق معه، ولعل عروض (أليس في بلاد العجائب من الزقازيق، كراكيب دماغ من دمنهور، أبوكاليبس من الإسكندرية، رحلة حنظلة من بني سويف) يمكن أن تكون نماذج دالة على ما نحاول الإشارة إليه، فنجد في عرض أليس وهو تأليف جماعي، رؤية نقدية للواقع المصري من خلال رحلة أليس القادمة من عالم مختلف (الغرب) لعالم العجائب أو مصر حيث كل شيء مقلوب ومهترئ ومحطم، نقد لكافة مظاهر الحياة بداية من سيطرة الباعة الجائلين على الشارع وتردي الوضع الصحي والهروب للعوالم الافتراضية في شبكة الإنترنت.. إلخ. نقد ساخر وقاسٍ للواقع، لكنه في المقابل نجد نهاية توافقية مع الخطاب السياسي الذي يتم الترويج له اجتماعيا من خلال انقلاب مفاجئ ومناهض لما يطرحه العرض في النهاية من خلال أصوات الجد الريفي وجد أليس اللذين يقدمان خطابا مناهضا للعرض ومدمرا له.
كذلك الأمر في رحلة حنظلة التي قامت على تدخل دراماتورجي انتزع نص ونوس من توجهه التحريضي وانتهي بالعرض نهاية مخالفة حيث تم حذف مشهد زيارة حنظلة للحكومة، وتوحد صوت حنظلة مع صوت جماعي بانتقاله لمرحلة الوعي، حيث ينتهي حنظلة هنا إلى مجرد صوت فردي آخر يمارس النقد ومحاولة إثارة الوعي.
والأمر ذاته في أبو كاليبس الذي يهرب إلى عالم الدستوبيا عبر تصور لنهاية الحضارة البشرية وسيادة عالم أكلة لحوم البشر.. لكن حتى هذا العرض يهرب من مواجهة العالم الذي يحول رؤيته إلى عوالم غرائبية ورومانسية هشة تنتزع النقد العميق للواقع الذي يمكن أن يشير إليه جسد العرض ويلقي بها في حالة أسى وتحسر على الإنسانية التي ماتت نتيجة انهيار أخلاقي واجتماعي.
وأخيرا، عرض كراكيب دماغ الذي استبعد من التسابق لمشاركته في مهرجان جامعي يحمل روحا قد تكون قد تآكلت مؤخرا مستمدة من النص الأصلي الذي اعتمد عليه، وهو «1980 وأنت طالع» الذي كان يعبر عن حالة الهزيمة الكاملة لجيل كامل، حيث يتوقف العرض عن حالة التخبط والأسى تجاه الفشل وإن كان أحد أكثر العروض اتساقا مع ذاته.
بالطبع، فإن ذلك الوضع يعكس حالة الانكفاء على الذات واليأس المعممة التي طرحتها كل العروض، يأس يتجلى في المعالجة التي اعتمدتها كل العروض.. حيث يمكننا التوقف أمام نمطين أساسيين للدراما والحركة المسرحية الأولى هي حالة الصراع بين فردين في فضاء مغلق يقومان بتحطيم بعضهما البعض ومطاردة بعضهما البعض والدوران في مدارات أبدية حول بعضهما البعض، مثل عرض الدبلة من القاهرة وعرض صدى الصمت من المنصورة، وفي المقابل هناك العروض التي تطرح العلاقة بين فرد ومجموعة حيث تقوم المجموعة بمحاصرة الفرد والضغط عليه حتى النهاية. إن هذين النمطين من العلاقة يمكن أن نجدهما في كل العروض تقريبا بل حتى في مونودراما سبق تقديمها لأكثر من مرة مثل الخنزير حيث تظهر شخصية المرأة ويتم تجسيدها ليتحول العرض من دراما لنهاية مشرد إلى علاقة ثنائية بين رجل وامرأة.
إن حالة الحصار والضغط المستمر على الفرد من الآخر أو المجموعة تحولت إلى قاعدة ينطلق منها الجميع، فلا وجود لفرد يسيطر على الفضاء وقادر على ضبط إيقاعه لا وجود لمجموعة متناغمة تتحرك بشكل متعاضد صوب غاية.. لا وجود سوى لعالم ضاغط ومحطم للفرد.
إن ذلك النمط من التصور للعالم لم يعد مقصورا على التعامل مع فضاءات درامية بعينها كما نجد في المعالجات التي اعتمدت على نصوص «تسمحيلي بالرقصة دي» أو «القطة العمياء» أو «فاكهة الخريف» أو «مدينة الثلج»، بل وحتى «شبكنا ستايره حرير»، وهي نصوص تقوم على العلاقة بين فرد ومجموعة سواء مثل هذا الفرد سلطة أم هدفا لاضطهاد، لقد تحولت تلك العلاقة بين الفرد والمجموعة لصياغة بصرية تفرض ذاتها حتى على عروض بعيدة دراميا عن ذلك التوجه مثل الجوزاء أو الحلم الأمريكي.. إلخ، صياغة بصرية لحصار ممتد ودائم بلا أمل في الخلاص.
إن ذلك الشعور المتنامي بالحصار وانعدام القدرة على تغيير العالم أو الانتماء له كان السمات الأساسية التي اعتمدها معظم المخرجين في ختامي مهرجان نوادي المسرح لهذا العام، وهو ما يمكن أن يكون مؤشرا على حالة الإحباط العام التي يعاني منها هذا الجيل وتوتر علاقته مع العالم الذي يحيا فيه، بل ومحاولته في بعض الأحيان كما في عروض (بيت آل بيجاسوس، أدم لا يأكل التفاح...) الهروب من الواقع ذاته والاتجاه صوب معالجة موضوعاتهم داخل أغلفة غربية.. فرغم أن النصين لكاتبين ومخرجين مصريين فإن أحداثهما وشخصياتهما تنتمي للغرب.. وهي ملاحظة يمكن أن نجد تجليها في عدد من العروض وليس هذين العرضين فحسب.
بالمجمل، فإن عروض المهرجان تعكس وضعية لواقع تلك الحركة ومبدعيها وهم يحاولون رؤية واقعهم في ظل ظروف عدائية للفن ولحرية التعبير، وضعية تثبت أنه حتى في أكثر الأوضاع صعوبة فإن المسرح قادر على التعبير عن الواقع واتخاذ مواقف واضحة.. قد يكون الوضع غير مبشر ولا يحمل في الأفق سوى مزيد من الانغلاق والفشل، لكن في المقابل فإن المسرح وهو يكشف عن الخلل الاجتماعي والسياسي العميق فإنه قادر على الانتصار.


محمد مسعد

mmsh2278@hotmail.com‏