المنديل.. عندما تضع النعامة رأسها في الرمال

المنديل.. عندما تضع النعامة رأسها في الرمال

العدد 795 صدر بتاريخ 21نوفمبر2022

ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في نسخته التاسعة والعشرين, قدم العرض السوري (المنديل) للمخرج: بسام حميدي, وهو عرض حركي يعتمد على تقنيات الإبهار البصري بدمج المسرح والسينما معا فيما يسمى المسرح البصري . يحكي العرض قصة اثنين يحبان بعضهما البعض, وهما كفيفان منذ الولادة, لكنهما متفائلان بجمال الحياة وروعتها. وهما  يعيشان بسلام ورومانسية في قصرهما الواقع وسط غابة مليئة بالأشجار وأصوات العصافير فيدعوان الله أن يبصران في مشهد سماوي خاص. تتلخّص كل أمانيهما في الإبصار، وهو ما يتحقّق لهما في الحلم فيشاهدان العالم الذي نعيشه وحجم المآسي التي نعاني منها جميعا، فيصابان بخيبة أمل. بعد عودة البصر إليهما ينقلب الديكور إلى اللونين الأبيض والأسود تعبيرا عن الواقع المغاير للأحلام وتحدث بينهما المشكلات أحيانا, مرة من ناحيته ومرة من ناحيتها. وتتوالى بينهما الأزمات وفي النهاية يعطيها منديله وهي تعطيه منديلها. ويقرران أن يربطان عيونهما بالمناديل ليعودا كفيفين لا يران أي شيء. تعبيرا عن أن الأحلام مختلفة عن الواقع. العرض هنا يمر بثلاث مراحل هي مرحلة الحب والحلم والسعادة عندما يكون البطلان في فترة عدم القدرة على الرؤية ونشاركهما ما يعيشان في عوالمهما الداخلية وبعدها مرحلة التضرع كي يشفيا وصولاً إلى مرحلة الشفاء ومشاهدة الواقع ورفضه والقرار بالعودة لعالمهما الخاص من خلال عصب عيونهما بالمنديل.
يدور العرض في الفراغ المسرحي المجرد تماما يحيطه مناظر الشاشات الالكترونية. في أعلى يسار الخلفية بندول الساعة المنتظم في دقاته ببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى وثالثة برتابة حسب سير الحدث الدرامي. وفي أعلى اليمين صورة تجمع الحبيبين وهما متعانقان .
 اتكأ العرض على عنصرين متوازيين: المشاهد الفيلمية والتعبير الحركي الراقص مع موسيقى ومؤثرات صوتية مصاحبة. أما المشاهد الفيلمية فكان توظيفها كخلفية ديكورية متغيرة بغرض الاندماج في الحدث بشكل مجسم بداية بمشهد شباك المنزل الذي يعيشان فيه بين الغابات والطيور والطبيعة الساحرة حيث نسمع أصوات العصافير والطيور ورقص الفراشات . يدخل الحبيبان مع ضوء الشمس الساطع من خلال شباك كبير في منتصف الخلفية. يرقصان على نغمات أم كلثوم “ رجعوني عينيك” يتعايشان بالتعبير الجسدي حالة الحب والسعادة والتفاؤل والأمل رغم قسوة ما هما فيه من فقدان البصر. حتى تنطلق رحلتهما إلى السماء بين السحاب والكواكب والنجوم والمجرات للتضرع إلى الله كي يعيد إليهما البصر وتبدو لنا تلك الرحلة من خلال تغيير المشاهد الديكورية السينمائية في الخلفية وعلى الأرضية والتي يتم توظيفها بشكل  جيد حقق الاندماج والامتاع البصري.
يستند التجريب في عرض (المنديل) على دمج لغة الجسد في الواقع المسرحي مع شاشات سينما ثلاثية الأبعاد موزعة بين عمق خشبة المسرح وأرضيتها, ليقدم عدة مستويات بصرية. هو عرض راقص يعتمد على الإبهار البصري في مزج السينما والمسرح معا, من خلال الدمج بين العمارة والديكور والنحت والجرافيك, وبين الشعر والرقص والتمثيل والغناء. وقد تضمن العرض مشاهد عديدة معبرة مثل مشهد البحر أو مشهد الفضاء بما فيه من مجرات وكواكب للتعبير عن الحلم. واستغلال مناظر السحاب والغيوم في مشهد الدعاء إلى الله وفي النهاية يظل كل هذا حلم. فكل إنسان حلمه مغاير عن حلم الآخر سواء كان مبصرا أم كفيفا. بالنسبة للإضاءة قام العرض على دمج تقنيات الإضاءة التليفزيونية مع تقنيات الإضاءة المسرحية باستغلال الفضاء المسرحي الفارغ. هو عرض مسرحي راقص يعتمد ايضا على التعبير الموسيقى للأحداث بشكل أساسي من خلال التنوع في توظيف الموسيقى وتنوع تقنياتها وأحاسيسها طوال العرض.
لقد استطاع المخرج بحكم عمله أصلا كمدير إضاءة لعدد من الأعمال التليفزيونية والمسلسلات أن يؤلف بصريا بين عدة عناصر بشكل سلس والتنسيق بينها دون أن يتأثر أحدهما بالأخر, فقد دمج بين التشكيل الحركي على خشبة المسرح وبين الإضاءة وألوان الملابس وبين سطوع شاشات عرض الخلفيات , وحقق التناسب بين أحجام  الراقصين وبين عناصر الشاشة الالكترونية, رغم التفاوت الساذج في بعضها مثل أحجام الفراشات والعصافير التي بدت كرتونية بعض الشيء.
إن الفكرة الرئيسة للعرض تطرح العمي مقابل الإبصار وأيهما أفضل؟ فنجد أن العرض يؤيد أن  العمى أفضل من الإبصار, حيث أن الإبصار يجعلنا نرى بأعيننا شرور هذا العالم, وإن كان قد تم طرح تلك الشرور في العرض بأنها شرور الطبيعة, من رياح وأعاصير وفيضانات وغيرها من أهوال الطبيعة, لكن ما وراء السطور والذي يقصد المخرج طرحه دون مباشرة هو شرور الإنسانية والحروب والدمار والظلم الذي يصيب العالم, وأنه على المتلقي استنتاج ذلك أو الشعور به بشكل درامي غير مباشر, وهنا أحيي المخرج على افتراضه ذكاء المتلقي حتى لا يبدو العرض فنيا أنه عرض تعليمي أو خطابي. لأن الاعتراض على أهوال الطبيعة هو اعتراض على آيات الله, لكن البديهي أن يكون الاعتراض على أفعال البشر المكروهة. وهنا آخذ على العرض فكرة تفضيل العمى وكأن العمي هو الحل! فهل عندما تضع النعامة رأسها في الرمال تكون قد وجدت الحل الأمثل فعلا؟ إذن هو حل ساذج يدل على هشاشة التفكير, فعدم رؤية المشكلات والشرور لن ينهيها ولن يحلها أبدا. فحتى وهما ضريران كانت الشرور موجودة بالفعل لكنهما يجهلان ولا يريان, وعندما أبصرا أدركا, وعودتهما للعمي لن ينفهما بشيء. فهل على العالم إذن أن يغمض عينيه عن كل الشرور والمشكلات كي ينعم في السلام؟!
العرض المسرحي  (المنديل) أداء حركي: شيرين الشوفي ونورس عثمان.  إخراج: بسام حميدي, تأليف: عبير العودة, موسيقى: نزيه الأسعد, تصميم جرافيك ومؤثرات بصرية: نزير الدباس, و خالد عبد العظيم ومحمد مجركش, تصميم الإضاءة: محمد يونس قطان, هندسة الصوت: رضوان النوري, تصميم الرقص والتعبير الحركي: نورس عثمان. مدير خشبة المسرح: هيثم مهاوش. وقد شارك هذا العرض في عدة مهرجانات دولية من قبل, منها مهرجان قرطاج بتونس ومهرجان الأردن.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏