الهروب من المطبخ .. وإليه نعود

الهروب من المطبخ ..   وإليه نعود

العدد 781 صدر بتاريخ 15أغسطس2022

المطبخ هو معمل البيت .. المطبخ هو مكان الطعام .. المطبخ هو مكان الإشباع بالطعام داخل المنزل .. أو كل إشباع طعام ؟
إشكالية خطرة أتخذ منها محمد عادل مؤلف ومخرج عرض المطبخ مكان عرضه، بينما ترك لنا تحديد الزمان والشخصيات لكي تشعر أنتَ .. أنتِ .. أياً منكما، بأنه هو الممثل ليتوحد مع أحداث العرض ويشعر بمشكلته من خلال وجهة نظر المتفرج، فإن كنتي امرأة تجدي نفسك دون أية شعور تتعاطفي مع ظروف الممثلة، بل أنكي قد تصلي حد التوحد لتشعري أنها هي المظلومة في قصة كلاهما . وإن كنت رجل، تشعر أنك تتعاطف مع الممثل الزوج المغلب على أمره الذي حاول الاستحمال مراراً وتكراراً لظروف زوجته .
فقد تعرض عرض المطبخ لقصة شائكة جدا بين العلاقات الزوجية المسكوت عنها والتي لا تشعر الأسرة والمجتمع بمدى خطورتها وضرورة سلميتها لأن تكون حياة سليمة لنفوس سليمة.
 فمترتبات العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأب وابنته، وكذلك الأخ وأخته، لها دورها الهام الفعال في مدى صحة علاقة الزوج وزوجته .. إنها علاقات مختلفة متبادلة حد التراكب للرجل داخل كيان المرآة الواحدة، لا تفرقة فيما بينها، فمنها يمكنها أن تمارس حياتها الزوجية بشكل سوي، ومنها تؤدي بها إلى الفشل .
داخل كيان المرآة .. ذلك التجويف، تلك الوحدة، الصامتة، والتي تمكن محمد عادل من أن يوصله لنا بمنتهى الدقة والروعة دون أن تشعر أنت المتفرج بملل أو خلل أو زهق حد أن يجعلك تترك صالة العرض وتخرج، بل أنه برع في مقياسه للملل والصمت هذا بالشعرة لأن تستمتع بشعوره حد التوحد مع العرض ولا تتركه من خلال إيقاع غير منتظم متبادل بين قمة السكوت وقمة الحركة المفاجئة في فراغ مسرحي حدده الفنان « أبو بكر الشريف « ببؤرة إضاءة واحدة تتنوع بداخله حالات مختلفة من الإضاءات، لتعبر عما تشعر به الزوجة  من مشاعر مختلفة متراكبة في كيانها الواحد والمتمثل في البؤرة الواحدة .
داخل كيان المرأة .. هنا ناقش محمد عادل بعض الأزمات والمشاكل الهامة وقد تكون الأساسية على الإطلاق، كمشكلة الاستقلال المادي .. التعبير عن الرأي .. حق اختيار الزوج .. التعدي أو الاغتصاب الجنسي .. الزواج المبكر للإناث .. انعدام كيان المرأة ووجودها داخل المجتمع واعتبار أن ذلك الوجود ما هو إلا بالمطبخ أو على السرير، ومن هنا جاء سبب تفضيل المخرج لاستخدام مكان عرضه المطبخ .. حيث الهروب من السرير إليه .. حيث وجود الكيان .
من وجهة نظري .. أرى أن محمد عادل قد برع في كتابة نصه منذ بدايته إلى نهايته، حتى أنه لم يختار أسماء شخوصه، تجعل من المشاهد التعايش في الأحداث دون أدنى تعب بسبب الفصل أو وضع أدنى حد حتى ولو كان مجرد أسم، أما عن اختيار الممثلين فقد أجاده أيضا حينما اختار الممثلة «لبنى المنسي» هزيلة رفيعة صغيرة الجسم يفتقد جسمها المعالم البارزة الواضحة القوية ذات صوت هزيل شقراء تكاد أن تظهر باهتة ضبابية بشكل عام، لشخصية الزوجة مبلدة المشاعر فاقدة الكيان وإحساس الحب أو حتى الكره، هذا على خلاف شخصية العاهرة التي تمثلها « ليلة مجدي « ذات الصوت القوي الأجش الرنان الواضح القوي، ذات الملامح الغجرية حادة التعبير عن التمرد، كما اختار في شخصية الزوج « أحمد شكري « لأن يمثل رجل مصري عادي ليس بجان وليس بقبيح، خمري اللون، طويل القامة، أما عن الأخ الذي مثله « أحمد عادل « فنجده أيضا باهتا عاديا غير واضح الشخصية أو المعالم لكونه قد تأثر بسطو والده عليه .
وعلى الرغم من ازدحام المطبخ بكل بيت أسرة، إلا أن محمد عادل قد فضل الفراغ واكتفي باستخدامه لكنبة واحدة صممتها « سلمى أبو الفضل» بمنتهى البساطة ليتمكن من خلالها التنوع في حركته وأحسن استخدامها .. إنه اكتفاء موفق .. فلا يستدعي العرض التكلف والمغالاة، فأعتمد محمد عادل على استخدام الفراغ المسرحي رغم قلة عدد الممثلين حتى ينأى عن التشويش على أفكاره ويتمكن من تجسيد الفراغ الداخلي للشخصية على خشبة المسرح ليتعايش من خلال الممثل، إلا أنني آخذ على إدارة المهرجان القومي الذي عرض به عرض المطبخ بمسرح الطليعة أن يعرض هذا العرض على خشبة مسرح عادية، فمن وجهة نظري أنه كان من الممكن أن يكون أفضل حينما يعرض في قاعة حتى يتمكن مخرج العرض من تحقيق المعايشة الكاملة التي من خلالها تستطيع أن تشعر أنت المشاهد في بعض الأحيان أن الزوجة هي العاهرة والعاهرة هي الزوجة، ولكنه صراع داخلي لشخصية واحدة، فكل شخص بداخله شئ ونقيده، ولكن الظروف المحيطة هي التي تبرز أحدهم دون سواه رغم حتمية أن تكون الزوجة عاهرة مع زوجها تلك الملابسة التي أوضحها من خلال قراءة العاهرة لمذكرات الزوجة وتوحدها معها للحظات الضرب والإهانة وتعاتبها في الاستحمال، كما أراد محمد عادل أن يوضح مفارقة هامة إن استويت تستقيم معها نفس الزوجة وهو بخل الزوج عليها وعدم إعطاؤه لنفقاتها فحين إعطاؤه المال للعاهرة مقابل ساعة واحدة .
أما عن الملابس .. فوجدناها أيضا ملائمة لطبيعة الشخصيات فالزوجة ترتدي أشياء كثيرة فوق بعضها غير ملائمة معا وكذلك بنطلون ثم تغيره إلى فستان حينما تحدثها العاهرة عن ارتدائها لذلك، وملابس العاهرة نجدها خفيفة .. فهي ترتدي فستان قصير مفتوح يغلق بأزرار لتعبر عن شخصيتها، أما ملابس الزوج فهي عبارة عن بنطلون كلاسيكي بداخله قميص عادي كلاسيكي هو أيضا للتعبير عن نمطية الزوج.
ومن الذكاء أن محمد عادل لم يتناسى مكانه طيلة العرض، بل أنه أستخدمه مرارا وتكرارا بشكل إيقاعي في إيضاح عنصر الملل والرتابة من خلال حواره « طابخة إيه .. حاجة أنت بتحبها .. طب وانتي .. مش مهم المهم تكون مبسوط « في تكرار إلى أن وصل بهم الأمر لأن تهتم الزوجة بأكلها التي تحبه دون أن تبالي انبساط زوجها بعدما أصبحت عاهرة معه دون جدوى أو تغيير وفضلت أن تصبح عاهرة خارج البيت .. وذهبت .. وبقى الزوج وحده .. وانتهت الحياة .


نهاد السيد