أحمد فؤاد سليم.. المتأمل!

أحمد فؤاد سليم.. المتأمل!

العدد 835 صدر بتاريخ 28أغسطس2023

أسميه المتأمل .. ليس لأنه ميّالاً للعزلة. ولا لأنه كثير الشرود. لكن. لأنه منذ تفتح وعيه يتمعن كل ما يمر عليه في الحياة. يبحث عن الجزء الخفي من الأشياء. الناقص من المشهد. فما وراء كل شيء يصادفه كان أهم عنده من ظاهره.
هذا الشغف فتح له «باب التأمّل».
والتأمّل أفضل حيلة استخدمها لفهم شخصياته وأدواره التي يلعبها منذ أغوته ندّاهة التمثيل لأول مرة.
وحسب معرفتي بشخصه، وتفكيره. ومتابعة أدواره، وتأمل طريقة تقديمه شخصياته. أيقنت أنه جدير باللقب الذي جسّده منذ القدم رهبان القلالي في الصحراء الغربية، الذين هجروا الحياة ليتواصلوا مع الله، ويملأوا أرواحهم بما آمنوا به، ويصفُّون قلوبهم من متعلقات الدنيا. لا أقصد هنا الرهبنة بكافة تفاصيلها. بل فقط أريد اجتزاء «الاقتناع والزهد».
فأحمد فؤاد سليم، لا بد أن يقتنع بما يعرض له من أمور الحياة عموما، ويظل معذباً بما لم يفهمه حتى يصل إلى إجابات أو حلول.
خاصة في الشخصيات التي تُعرض عليه. فإذا فهم ورضيّ زهد في كل شيء آخر.
فلا يناقش الأجر مثلا، ولا شيء من هذا، لأنه يذهب من فوره لاستكمال استحقاقات الشخصية. ولا يرتاح باله إلا بعد آخر مشهد. ساعتها يغمض عينيه ويستريح بعمق. ليعود إلى تأمل كل شيء من جديد.
شاهدته والتقيته لأول مرة قبل ثمانية وعشرون!
في عرض على مسرح جلال الشرقاوي. واستقر في وجداني أن هذا ليس مكانه. لأنه بحاجة لأفق أرحب، وورقٍ أعمق، ومدى يُطلق العنان لموهبته الحبيسة!
أخبرته بهذا. فجاء ردّه مفعماً بالاحتمال والأمل. بادرني بإعلان رضاه، وقال بصوته الرخيم المطمئن: «كل شيء بأوان».
نطقها. بيقين من يرى الفرج، وبسماحة الصابر المتفاءل!
لم يمض وقت طويل، حتى كان يقف أمام كاميرا «يوسف شاهين» في بلاتوهات فيلم «المهاجر»، ليظهر فقط في لقطات معدودات، في دور «جادر» الشقيق الأكبر لـ «رام»، وهي لقطات كانت كافية تماما عنده لتقديم الإنسان بوجهيه. الفجور والتقوى. نعم كانت ومضات قليلة، لكنها مبهرة، ليس للجمهور فقط. بل لروحه المتعطشة لتقديم شيء حقيقي وعميق. وكانت تلك اللقطات كافية لمنحه ذلك التوازن الذي ظل يثق بوجوده. ودافعا كبيرا للانطلاق بعد متاعب كثيرة، في الوطن والغربة!
فمن يريد فهم أداء الفنان «أحمد فؤاد سليم» فعليه بتأمل تلك «الثنائية الدرامية» داخل في النفس الإنسانية، التي برع في تجسيدها طوال مسيرته الفنّية، ببراعة من يفهم سرّ الخلق.
«فألهمها فُجورها وتقواها». فلا شخصية في الحياة ولا التمثيل، تخلو من بُعدين أو أكثر، أو نقيضين أو أعقد. وبراعة الفنان في التقاط تلك الازدواجيات، وإدراك مراوحتها داخل النفوس، وبين الناس في الحياة المعيشة، في رحلة الصراع الذي بدأ مع الخليقة، وما يزال مستعراً إلى الآن. ولا يعلم أحدا إلى متى سيبقى حاكما.
فالجميع يوقنون أن الحياة مرهونة بوجود الصراع، وتدافع الأضداد، ما بقيّ البشر يدبُّون على الأرض!
 وتتجلى معانيه في القرآن الكريم: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ»، وفحوى الآية يتفق مع أهم وأعمق التحليلات الدرامية للنفس الإنسانية. فالدفع هنا هو تدافع الخير والشر، القوي والضعيف، الظالم والمظلوم، بمختلف الأشكال والصيغ، في أي زمان ومكان، ضمانة لتوازن الحياة بين كافة الأطراف. فإذا عمّها الخير وحده خملت، وإذا انفرد بها الشرّ فسدت.
وهذا الوعي بفكرة الصراع، من أسرارا «الفنان المتأمل» الذي نتحدث عنه الآن.
ويعتقد العالم النفسي الفريد «سيجموند فرويد» أن تصرفات الناس تختلف وفقا لمطالب وقيود المجموعة ككل. وشيوع الاختلاف بين الناس، واختلاف الأنا من شخص لآخر يساعد الناس في التعرف على بعضهم.
ووفق «منهج الديناميكية النفسية» يعتقد «فرويد» أن العقل مسؤول عن القرارات التي تؤخذ بوعي أو بلا وعي، وعن الدوافع النفسية خلفها.
ويرى فرويد أيضا: «إن الناس مجرد ممثلين يعتلون المسرح لتقديم عرض من نسج خيالهم، تدفعهم فيه الرغبة، وتغرقهم الصدفة، وفي العمق يجدون أنفسهم في صراع خفيّ». ونزاع على مختلف الأطماع.
وهذا التفسير يتوافق مع صميم الدراما، ويمكن فهم أي شخصية بناء عليه، خاصة في فن التمثيل، وهو بؤرة اهتمام «أحمد فؤاد سليم»، الذي أدرك الفكرة بحسّه الإنساني والفنّي منذ طفولته، وتزايد وعيه بمكونات النفس الإنسانية كثيرا حين احترف التمثيل، وتوفّر على نفسه، بالقراءة، والتدريب، والمذاكرة مثل الطلاب كلما جاءته شخصية. خاصة المُركّبة منها، أو الشرّيرة ذات الخفايا، فتستنفر قدراته، وتشعل خاطره، فيتردد على مرآة في بيته أثناء استحضاره الحالة، فلا يهدأ له بال حتى يرى ملامح الشخصية تخفي ملامحه هو، وتظهر له في المرآة.
 ساعتها يقبل الدور، ويستنهض همّته للمذاكرة ودراسة جوانبها، ويقرأ كل ما يمت لها بصلّة، أو يشاهد مثلا فيلما ما لـ «أنطوني كوين» قريبا من روح الدور الذي يلعبه، حتى يتهيأ تماما، ويذهب إلى «اللوكيشن» متماهيا في الشخصية، تاركا نفسه للمخرج، ولا يلتفت إلى كاميرا، ولا ناس، ولا أية تحركات حوله، غير الذوبان في الحالة، تماما مثل اندماج «مريد في حلقة الذكر» استبد به الوجد، ونازعه الشوق للصعود، علّه يسمو إلى حضرة الخالق!!
وتأملوه حين يؤدي شخصية صوفي، أو درويش، أو أي إنسان لا يعرف غير الصفح والسماحة!
  لم يهتم أحمد فؤاد سليم طوال حياته بالتمثيل وحسب. بل اهتم عميقا بالأفكار والمضامين، واشترط مع نفسه ألّا يقدم شيئا يتعارض مع القيم الإيجابية للإنسان، فإذا جاءته شخصية توحي بالقبحٍ، يستنهض جُلّ قدراته ليدفع الجميع لاستقباح أفعالها، ليحقق نقيض تأثيرها الواقعي على الناس، ويضمن رفضهم وكراهتهم لها، مثلما فعل في شخصية «الشيخ رياض» المنافق بفيلم «المصير». وقد لا يعجبه مضمون عمل في إجماله، لكنه يقبل شخصية فريدة، تقدم معنى نبيلا وحدها ضمن ذلك العمل، لأنه يراهن طوال الوقت على المضمون.
وبذل جهودا مضنية، وما يزال، في تدقيق تفاصيل الشخصيات، لفهم دوافعها، وضعفها، وبؤسها، وجبروتها، حتى لا تغيب عنه تفصيلة حين يتلبسها، لإدراكه مسؤولية التسلل إلى قلوب الناس، وبيوتهم، واللعب على مشاعرهم، وأفكارهم. وما يُخلِّفه ذلك الأثر المتبقي بذاكرة المشاهدين، حتى أصبح يشار إلى أدواره بالبنان، ويذكره الناس في مواقف، ومشاهد، ولقطات، ألهمتهم أنبل المعاني، وأضافت إليهم خبرات بالحياة. وهذا أسمى ما تغيّاه طوال رحلته الفنية!
وكذا. لم يشغله البعد الفني وحده، ولا أبعاد الشخصيات فقط. بل اهتم جدا بالمسؤولية الوطنية واعتبرها مُقدمّة على سواها، فإذا تعارض معها شيء، توقف وتمعن حتى يتوصل إلى رأي سديد. ففي مسرحية «سنوحي» مثلا، وهي من الأدوار المشهودة له على المسرح القومي، استشعر أن مخرجها «الصهيوني الجورجي» «تيمور أباشيدزي»، حاول تسريب فكرة عودة موسى، أو اليهود إلى مصر، عبر مسرحية من تأليفه وإخراجه، وجعل «سنوحي» الطبيب والشاعر المصري المعروف ومستشار الملك «امنمحات الأول»، أقرب لبلطجي دموي، فرفض أحمد فؤاد سليم تحريف الحقيقة، أو إلباسها أفكارا ضد بلده، وأعلن رفضه للفكرة، وأصر على تقديم شخصية «سنوحي» كما هي في تاريخنا القديم، متوافقة مع كونه شاعر وطبيب، أمضّه الشوق لوطنه بعد طول اغتراب. وتحت إصراره سكت «أباشيدزي» وتركه يؤدي دوره كما يريد، ربما لإدراكه أن أي نقاش سيتسبب بفضح أغراضه السياسية التي كان يظن أنها ستمر دون ملاحظة. والعجيب أنه اعترف لاحقا لأحمد فؤاد سليم أنه كان محقاً، وتأديته لسنوحي كانت أفضل من تصوره هو السابق.
كما رفض دورا في فيلم كندي، كان أجره كبيرا جدا، لأن مخرجه (كاسبر) كان يُصرّ على تقديم مصر باعتبارها مجتمع قبلي متخلف ومتصارع، تغلب عليه النزاعات، وليس نسيجا واحدا كما هو في الحقيقة.
وهذا ليس بغريب على فنّاننا «المتأمل»، كونه من أبطال «حرب أكتوبر المجيدة» التي انتصرنا فيها على الصهاينة، وثأرنا لكرامتنا، وما يزال هو مسكوناً بتلك الروح العظيمة. ومن داخل مرارة سنوات الاستنزاف التي كابدها كاملة، وانتصار أكتوبر الساحق الذي أنجزه الجيش، وما يزال قابضا على الجمر، متصدياً للتطبيع مع الصهاينة الذين يقتلون أهلنا في فلسطين يوميا إلى الآن.
هذا فنان يستحق التكريم عن جدارة، ليس لإجمالي أعماله وحسب، بل لمواقفه الإنسانية والوطنية، ولقدرته على تطوير نفسه طوال مسيرته، فلم يتوان لحظة عن تثقيف ذاته، مثلما يشارك في تثقيف الناس بالفن الراقي الذي يقدمه.
لكل هذه الأسباب تابعته من بداياته، إلى وقتنا هذا، وسأظل أناقشه في رؤاه الفنية والثقافية، ومواقفه الوطنية المهمة، في حوارنا الممتد!
تحية لإدارة المهرجان القومي للمسرح المصري التي اختارته ضمن أسماء كريمة تستحق التكريم جميعها.
وشكرا لأحمد فؤاد سليم على كل ما قدمه من فن جميل، وعلى صموده.


أسامة الرحيمي