الريحاني يروي تاريخ فرقته !!

الريحاني يروي تاريخ فرقته !!

العدد 813 صدر بتاريخ 27مارس2023

إذا عدنا إلى المقالة الثانية – المنشورة سابقاً تحت عنوان «الاعتزال مبكراً» - سنلاحظ أنها أول مقالة بها معلومات تاريخية عن الريحاني، أدلى بها في حوار صحفي، عندما قرر اعتزال التمثيل في أبريل 1932! هذا الأمر تكرر مرة أخرى بعد أكثر من سنة، وتحديداً في يونية 1933، عندما نشرت جريدة «أبو الهول» حواراً مع الريحاني تحت عنوان «الأستاذ الريحاني يتحدث عن المسرح»! جاء فيه الآتي:
تستطيع الآن أن تتحدث مع الأستاذ نجيب الريحاني عن أي موضوع شئت إلا عن التمثيل المسرحي! فقد أصبح يكرهه إلى حد لا يطيق معه الكلام عنه، أما عن السينما فحدثه بما تشاء تجد منه آذاناً تعي كل ما تقول، وتلقاه يقبل عليك ويتباحث معك بحث الخبير المطلع، وقد يجر الحديث عن السينما إلى الحديث عن المسرح فسرعان ما ترى الأستاذ نجيب يشيح بوجهه عن محدثه. ويبادر إلى الانتقال به من الحديث عن المسرح إلى الحديث في شيء أيا كان .. كيف؟! أهذا الأستاذ نجيب الذي كان إلى ما قبل سنوات قليلة يعشق التمثيل في المسرح ويتعبده. ما الذي جعله يكره اليوم معبوده بالأمس هذا الكره الشديد؟ أيكون حبه للسينما هو الباعث على كرهه للمسرح؟ كان عسيراً عليّ أن أجد جواباً حاسماً، وكان لا بد أن أحمل الأستاذ الريحاني على أن يحدثني عن المسرح ليشرح لي أسباب كراهيته الفجائية القوية له .. ولقد تردد كثيراً واعتذر كثيراً فألححت ولم أقبل العذر منه حتى صرح لي بما ستقرأه الآن:
 قلت: لقد كان من الميسور إذا كانت هذه كل شكواكم من التمثيل أن تحولوا بينهم وبين السطو على رواياتكم فلا تعود لكم شكوى؟ أجاب: وكيف يتيسر ذلك؟ ليس في مصر قانون يحمي الإنتاج الأدبي من سطو السارقين الذين يعيشون على أكتاف الغير، فقد تؤلف كتاباً تعاني في تأليفه ما تعاني، ثم تنفق آخر ما تملك على طبعه! وبينما أنت تنتظر ثمرة مجهودك، إذا بك تفاجأ بلص يسطو على كتابك فيطبعه على ورق رخيص يمكنه من بيعه بربع الثمن الذي تبيعه به، فيغتني هو وتفتقر أنت، وهذا ما حدث لي! فقد عادت رواياتي بأرباح طائلة على من سرقوها، ولم تعد عليّ بما يمكنني من تسديد ديوني التي استدنتها لأنفق عليها. قلت: ومن أين يحصلون على نسخ هذه الروايات؟ قال: من أولئك الذين أعمل لهم، من ممثلي فرقتي الذين ينقلون الروايات ليبيعوها بما لا يوازي مرتب أسبوع واحد من المرتبات الكبيرة، التي أعطيها لهم، والتي لا يستطيع غيري أن يعطيها لهم!! قلت: أيهم كان يفعل هذا؟ أجاب: تستطيع أن تقول الجميع، حتى ليبدو لي أنهم كانوا يفعلون هذا وهم يجهلون أنهم لا يسيئون إليّ وحدي، إنما يسيئون أيضاً إلى أنفسهم لأنهم يهدمون العمل الذي يعيشون منه، وها هم الآن يجنون ثمره إثمهم وعدوانهم. ثم سكت الأستاذ الريحاني وضحك فجأة ضحكة غيظ واشمئزاز أردفها بقوله .. ممثلون؟ إنهم يحملون هذا اللقب كالهرة التي تحمل لقب الأسد!! آه لو كنت رأيتني وأنا أحترق غيظاً وألماً حين كنت أرى الواحد منهم يُمثل دور العاشق، وقد أسود وجهه من لحيته المتروكة بغير حلاقة!! أو يُمثل دور الغني وحذاؤه مُغطى بطبقات من الوحل والتراب!! ولن أنسى استهتارهم الذي كان يصل بالواحد فيهم أن يرتدي القفطان والجبة فوق بنطلونه وقميصه إذا مثل دور شيخ، لأنه يكسل أن يخلعها، بينما لا يكسل أن يقترض ليكوي بدلته إذا ذهب للقاء عشيقته، أما أن يظهر أمام الجمهور بالمظهر اللائق فلا!!
وأشعل الأستاذ نجيب سيجارة ثم قال: مسكين يوسف وهبي، لو كان في غير مصر لكوفئ على جهاده بما لا يضطره إلى متعهدي الحفلات من صِدِّيق وأمثاله! أقسم لك بشرفي إنما رأيت صِدِّيق هذا واقفاً على باب مسرح رمسيس إلا وأحسست كما لو كان واقفاً على صدري بجسمه الضخم!! أية نكبة بربك أن يكون لصِدِّيق ومن إليه ما لهم من السيطرة على المسارح الكبيرة، فيصدرون حكمهم على إنتاج أغزر العقول الأوروبية مادة، ويتجرأون فينتقدون «هنري برنشتين»، أو «شارل ميريه» أو غيرهما من فطاحل الكتاب؟ وأخيراً فإني أصرح لك في تحدي إنه ما من ممثل في مصر لا يكره مهنته، ويتحين الفرص لتركها، وأنت ترى أنهم يهجرونها واحداً إثر واحد، ولو لقى الممثل عملاً بنصف المرتب المفروض أن يتقاضاه لما أبقى على التمثيل ولما بقى فيه يوماً واحداً، فليكذبني ممثل في هذا وليثبته إن استطاع!! قلت: هل أفهم من هذا أنك لن تعود للتمثيل المسرحي؟ قال: هذا ما أتمناه وأسأل الله أن لا تضطرني المقادير للعودة إليه، فإذا عُدت فإنما أعود كالسجين الذي يرضى بالسجن مقهوراً!! (انتهت مقالة الكاتب).
وبالفعل توقف الريحاني بعض الوقت، واتجه إلى السينما على استحياء، وظل هكذا عدة أشهر! وظن الجميع أن الريحاني اعتزل المسرح بالفعل، فأراد أحدهم أن يوثق رحلته المسرحية بكتابة تاريخه المسرحي، بالرغم مما سبق نشره – في المقالات السابقة - والذي يظنه البعض تاريخاً مسرحياً شاملاً ووافياً للريحاني، لا سيما وأنه منشور في الدوريات الفنية، وفي حياة الريحاني، مما يعني أن الريحاني موافق عليه، وربما هو من أوعز بكتابته للغير ووافق على نشره، حيث إنه لم يعترض على أية معلومة أو مقالة منشورة تعرضت لتاريخه!! ولكن ربما يعترض البعض قائلاً: إن ما تم نشره – سابقاً - غير ممهور بتوقيع صريح يحمل اسماً معروفاً!! فأغلب ما سبق نشره ممهور بتوقيع «مسرحي» أو «المندوب الفني» لجريدة كذا أو مجلة كذا، ولم نجد تاريخاً صريحاً منشوراُ بتوقيع الريحاني، أو بتصريح من الريحاني بنشره!!

المذكرات الحقيقية الأولى
استطاع «قاسم وجدي» اقتناص هذه الفرصة، ونجح – ابتداء من أكتوبر 1933 – في نشر أول مذكرات لنجيب الريحاني وبتصريح مُعلن منه! وهذه المذكرات منشورة في مجلة «الصباح» - بصورة مسلسلة – عنوانها «فرقة الريحاني من أول تأسيسها إلى الآن»! وفي مقدمتها قال قاسم وجدي: «نبدأ من هذا العدد شرح تاريخ فرقة الريحاني نقلاً عن صاحب الفرقة نفسه، الذي قصّ علينا هذا التاريخ الحافل»!! وبدأ الريحاني يقصّ تاريخه الفني والمسرحي في أول مذكرات منشورة حقيقية ومجهولة، لم يكتشفها أحد من قبل، ولم يجمعها أحد من قبل، ولم يتعرض لها أحد من قبل!! وبذلك تكون هذه المذكرات هي أول مذكرات حقيقية نشرها نجيب الريحاني في حياته، حتى ولو أعاد البعض نشرها مرة أخرى بعد مماته، ستظل هذه المذكرات هي الأسبق!! وفيها قال نجيب الريحاني:
بدأت حياتي التمثيلية في فرقة المرحوم الشيخ سلامة حجازي، وكان أول دور عهدوا إليّ بتمثيله دور ملك النمسا في رواية «صلاح الدين الأيوبي»، وقد بذلت كل جهد لأفوز بالإعجاب فيه! ولكني صُدمت صدمة عنيفة حينما ركبت الترام إلى منزلي في مصر الجديدة بعد انتهاء الرواية، فسمعت بعض الركاب - وكانوا يشهدون الرواية - يسبون ممثل دور ملك النمسا لثقل دمه وسخافته، فانكمشت في مقعدي ووصلت إلى منزلي مصدوماً معذباً. وقضيت «ليلة» من أسوأ الليالي. وفي الصباح بكرت في الذهاب إلى التياترو فأسودّت الدنيا في وجهي حينما رأيت أمراً مُعلقاً على تابلوه الأوامر بفصلي من الفرقة، لعدم صلاحيتي للتمثيل مطلقا! كان للممثلين في ذلك الحين قهوة فنية اسمها «كافيه متروبوليتان» يقضي فيها الممثلون أوقات فراغهم، وما أكثرهم في ذلك العهد. فكنت أجلس مع ثلة منهم مختارة تتألف من: عزيز عيد، وإستيفان روستي، وأمين عطا الله، وأمين صدقي وغيرهم. وكنا جميعاً عاطلين عن العمل، نرقب ساعة الفرج بفروغ صبر، ونتمنى لو كان معنا عشرة جنيهات نؤسس بها فرقة! ولم يكن لنا حديث غير هذه الأمنية، حتى أشفق علينا صاحب القهوة أو أشفق على نفسه من إفلاسنا، فعرض أن يعطينا العشرة جنيهات كسلفة بفوائد، على أن يكون مديراً مالياً للفرقة. فسررنا لذلك سرور من جاءه فرج السماء بعد يأس، وقبلنا بكل شروطه واخترنا مسرح «الشانزلزيه» في أول شارع الفجالة، وكان حينئذ يشتغل «موزيكهول». وتكونت الفرقة من حضرات: عزيز عيد، و إستيفان روستي، وأمين صدقي، وأمين عطا الله، وحسن فايق، وعبد اللطيف المصري، وعبد اللطيف جمجوم، والسيدات: روز اليوسف، و نظلة مزراحي، وماري إبراهيم. وأطلقنا على هذه الفرقة المختارة اسم «جوق الكوميدي العصري». ولم تكفِ العشرة جنيهات شراء المناظر المطلوبة للروايات، فاكتفينا بمنظر واحد، رسمناه بأيدينا من وجهيه! جعلنا وجهاً صالوناً، والوجه الآخر حديقة. وكنا نُقلبها حسب اللزوم! ورسمنا على جدار المسرح الخلفي منظر حديقة تُستعمل عندما يستلزم المنظر ذلك! وكانت أول رواية مثلناها رواية «خلي بالك من أميلي»، تم تبعناها بالروايات الآتية: عندك حاجه تبلغ عنها، مدموازيل جوزيت مراتي، الكابورال سيمون، المشعوذ بالفجور، ليلة الدخلة، الابن الخارق للطبيعة. واشتغلنا بهذه الفرقة مدة شهرين كاملين، كان إيرادنا فيهما يتراوح بين ثمانية عشر وعشرين جنيها، وكان الدخول عمومياً بتذكرة ثمنها خمسة قروش صاغ. ولم نكد نسير في عملنا حتى بدأنا نختلف فيما بيننا، وظل الخلاف يتزايد يوماً بعد يوم حتى قضي على الفرقة الناشئة، فعدنا إلى التفرق على القهاوي كما كنا! وكنت قد اخترت قهوة بوفيه تياترو برنتانيا القديم محلاً مختاراً لجلوسي، لطيبة قلب جرسوناتها! وبينما كنت جالساً ذات يوم من أيام سنة 1915 على إثر انحلال فرقتنا أفكر فيما يؤول إليه مصيري، إذا بصديقي إستيفان روستي تبدو عليه النعمة، وترن النقود الفضية في جيوبه! فأدهشني أمره وسألته في لهفة عن سبب نعمته! فأخبرني أنه اتفق مع صاحب ملهى «الأبيه دي روز» هو الآن جزء من «البلوت باسك» [وهو مكان للمراهنات] على أن يظهر في نمرة من نمر برنامج الموزيكهول مقابل مرتب اثنى عشر جنيهاً في الشهر! وهذه النمرة هي عبارة عن دور امرأة يختفي فيه إستيفان روستي، ويظهر وراء برافان، والمسرح مظلم فيعاکسه خادم بربري! وقبل أن أسرع إلى تهنئته أسرعت بسؤالي عن ممثل دور الخادم البربري، فقال إنه ما زال خالياً وأنها فرصة طيبة كي يقنع صاحب الملهى بأن يعهد إليّ بتمثيل هذا الدور، ولم أكن في حاجة لرجائه، فقد كنا وما زلنا صديقين حميمين. وتمت المسألة وعهدوا إليّ بتمثيل الدور فنلنا فيه نجاحاً كبيراً جعل المدير يقرر لي مرتب سبعة جنيهات في الشهر! وبقينا على هذه «النغنغة» شهراً كاملاً، ثم انتهى الوقت المحدد لعرض هذه النمرة، ورأينا أن هذه النعمة الطارئة قد أذنت بالزوال! فتحايلنا على بقائها بشتى الحيل، حتى اهتدينا إلى حيلة اقتنع بها المدير، وهي أن نمثل رواية من فصل واحد أبطالها مصريون وموضوعها وحوادثها كوميدية. فطلب أن نعرضها عليه ففعلنا فوافقته، واتفقنا على تمثيلها فنجحت نجاحاً كبيراً، جعله يجدد معنا العقد. فلما انتهى أجل العقد الجديد، عاد إلى تجديده مرة أخرى، فاشترطنا على أثر نجاحنا أن تزيد مرتباتنا إلى 30 جنيهاً لإستيفان روستي، و27 جنيها لي بعقد مدته ثلاثة شهور.


سيد علي إسماعيل