جان الشجاعة.. الوعي بالقواعد التقليدية يخلق أشكالا مسرحية متجددة

جان الشجاعة..  الوعي بالقواعد التقليدية يخلق أشكالا مسرحية متجددة

العدد 749 صدر بتاريخ 3يناير2022

تكمن ماهية التجريب الحقيقية في رحلة البحث عن كل ما هو تقليدي في الأساس بهدف تجديده وخلطه لطرح أفكار تساير المتغيرات التي تطرأ على الواقع الفني كان أو الاجتماعي، يساهم ذلك التطور في خلق آفق ذات مستوى أعلى مما كانت سلفًا يكسر أي حدود تقليدية بين المبدع والمتلقي، أي أن التجديد يعتبر في ذاته هو السعي نحو تطويع سُبل وإمكانيات معروفة بهدف خلق حالات إبداعية مُصاغة بأشكال مختلفة، لتشكيل مفردات العرض المسرحي وفق صياغات جديدة تتماشى مع واقع المبدع المتطور بشكل دائم.
قدمت فرقة “جاردي هاتر” السويسرية، العرض المسرحي “جان الشجاعة”، على هامش عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته ال28 وهو عرض مونودراما تمثيل وإخراج صاحبة الفرقة نفسها، والتي قدمت من خلاله أحداث تستعرض حياة خادمة مُملة تُهدر كل طاقتها في ترتيب الغسيل على الأحبال، تظهر الشخصية منذ البداية حاملة بين يديها كتاب تتصفحه يحمل عنوان “البطلات الأخريات” لجان دارك منها تبدأ محاولاتها في تجسيد ما تقرأه بين صفحات كتابها بما تمتلكه من أدوات محيطة بها.
وفقًا لما وضعه ستانسلافسكي من قواعد لإعداد الممثل وبخاصة نحو الفعل المسرحي الذي يُبنى في أساسه عن طريق إحداث فعل ما، وما صاغه نحو إنه لابد من أن يكون هناك سبب لوجود الممثل وحضوره على الخشبة لإثراء الفعل الدرامي وليس بمجرد حضور شكلي دون التسبب في حِراك جاد، فهي قاعدة أساسية تقليدية في فن التمثيل ولكن إذا تم ربطها بما تم ذكره سلفًا نحو ماهية التجريب وما به من إعادة تشكيل مفردات نجد إنه من إمكان المُبدع المُجرب إعادة صياغة القوالب التقليدية وتشكيلها بطرحًا متجددًا يتناسب مع رؤيته، وهذا ما فعلته “جاري” في عرضها نحو أهمية الفعل المسرحي، حيث كسرت القاعدة وطبقتها في الوقت ذاته، عن طريق الحضور الجسماني أمام الجمهور بنص ثابت ومتفق عليه ولكن يتخلله أفعال ارتجالية أشبه باللعبة المسرحية وليدة لحظتها التي تكسر التماهي مع المتلقي وتجعله جزء من العرض، وذلك عن طريق التعليق الصادر منها بين الحين والآخر نحو أي شخص يقوم بدخول إلى الصالة متأخرًا أو يفعل أي شئ أثناء المشاهدة، تتشابك معه محاولة أن محاورته على طريقتها الخاصة بهدف إشراكه داخل لعبتها المُنظمة في عرضها المسرحي والمُخطط لوقتها وأحداثها في الوقت ذاته، وعلاوة على ذلك فهي تقوم بفعل مسرحي بلا حدث متطور بشكل مُتسق فبداية الأحداث هي التعرف عليها وعلى واقعها كونها خادمة تقضي كامل وقتها بين الغسيل، ومن ثم تطور الحدث بأكمله لا يمكن أن يُدرك به أين ذروته أو عقدته، فهو حدث يشبه الأرض الخصبة التي تسمح بولوج أي مُدخلات جديدة له في تلك اللحظة التي تحضر فيها الممثلة على الخشبة ومنها يتمثل الصراع بشكل هزلي بينها وبين اكوام الغسيل والأحبال التي تشاكسها ومشابك الغسيل التي تتطاير منها، وبين هذا وذاك تسعى الخادمة طوال مدة العرض أن توضح إنها تقدم ثورة على تلك الحياة الرتيبة بمحاولة تقديم الحرب التي تتصفحها ولكن من منظورها هي وداخل عالمها هي.
حيث الربط بين عالمها المنغلق على ذاته وعالم جان دراك المحاربة الشهيرة أمر يثير الضحك في ذاته، ولكن ما يجعلها كوميديا متطورة هو الإصرار على خوضها لتلك الحرب والانتصار بها، ومنها يتحول فضاء الخادمة بين أكوام الغسيل إلى ساحة المعركة، وتبدأ الأدوات في مطاردتها وتبدأ هي الأخرى في محاولات جادة للاشتباك معها بهدف الانتصار عليها، لتتحول الغسالة إلى ملجأ تختبأ فيه من الأعداء وتتحول حلة الطهي إلى خوذة ترتديها لتحمي رأسها من الرصاص، وتتحول المعلقة والطبق إلى قوس وسهم، والطاولة الصغيرة إلى سهل تتزحلق عليه لتهرب من المطاردين لها، وهكذا من أدوات منزلية بسيطة تتآلف مع فكرتها لتخلق حالة حرب حقيقية بما يتناسب مع واقعها الهزلي، أعتمد العرض على قدرات الممثلة الأدائية دون الاستعانة بعناصر عديدة معاونة سواء على مستوى الموسيقى أو الإضاءة، لتُقدم اللعبة المسرحية بأكملها بين الممثلة وذلك الديكور البسيط الذي لا يتجاوز الغسيل والأحبال وبعض العناصر الأخرى المذكورة، والملابس أيضًا وبعض الاكسسوارات، لذلك لا يمكن القول بأن ذلك الشكل المسرحي جديد بشكلًا كليًا من حيث التقديم على خشبة المسرح، ولكنه هو حالة متجددة جامعة بين أكثر من أسلوب أدائي وتمثيلي ومن بين هذه الأساليب أيضًا بل وأهمها والواضح وضوح فعلي بمجرد رؤية الممثلة على الخشبة هو “الكوميديا ديلارتي” ذلك الشكل المسرحي الذي يعتمد في أساسه على الارتجال ولكن الارتجال في ذلك العرض جاء بشكل مُتجدد من حيث إنه قُدم دون أي حوار، ولا يمكن تصنيف ذلك العرض بأنه عرضًا صامتًا فحسب، لأن الممثلة قامت بنطق بعض الكلمات والهمهمات وحاولت النطق بالعربية أيضًا لإثارة الضحك، ولكنه بالفعل لا يوجد نص حواري مكتوب، وعلى الرغم من ذلك فأن عدم وجود حوار لا يعني إنه بلا نص من الأساس، بل إنه بالتأكيد له نص خاص بالحركة وإرشادات الممثل في إصدار أفعال معينة في أوقات معينة، إضافة إلى إنه لم يخل من الارتجال في الوقت ذاته والاشتباك مع الجمهور، ويعتبر الاشتباك مع الجمهور دون حوار مع مراعاة اختلاف الثقافات واللغة هو أمر شاق للغاية للممثلة، وعلى الرغم من ذلك نجحت في تحقيقه وإحداث تفاعل قوي قائم على الارتجال اللحظي ببعض الحركات الجسدية مع بعض الهمهمات التي تصدر للمتلقي تفاعل بشكل مختلف تجعله يتجاوب مع الحالة المسرحية التي تقدمها، ووفقًا لرؤيتها الخاصة للديلارتي التي جمعت بين صفات الخدم من حيث النمط العام الخاص بهم نحو الجمع بين المكر والسذاجة في محاولاتها غير المجدية في أن تثور على واقعها بمكر ودهاء ولكن سذاجتها دائمًا تقف أمام محاولاتها، وكذلك من حيث نمط العجوزة الثرثارة التي تدس أنفها في كل شئ ولكن طيبة قلبها دائما ما تكون شفيعة لها، أي جمعت بشخصية واحدة بين أكثر من نمط ديلارتي لتقدم لنفسها نمطًا مُتجددًا لكنه لا يتنافى في أساسه مع القواعد الثابتة لذلك الشكل المسرحي، وزيادة لتأكيده أتبعت شكل ملابس مُهلهلة جعلتها متضخمة الجسم مبعثرة الشعر ذات أنف حمراء كبيرة لتكون شكل المهرج بكل تفاصيله الذي يستدعي الضحك الخالص بمجرد ظهوره وقبل إبداء أي فعل.


منار خالد