«خلطة شبرا» خلطة مصرية خالصة تستدعي قيمنا المفتقدة

«خلطة شبرا» خلطة مصرية خالصة تستدعي قيمنا المفتقدة

العدد 768 صدر بتاريخ 16مايو2022

من المؤكد أنه قد تم عن عمد اختيار مسرح الطليعة الذي يقع في ميدان العتبة لإنتاج عرض «خلطة شبرا» تأليف يسري حسان وإخراج محمد سليم، لكونه من أهم الأحياء المصرية القديمة والتي تتشابه مع شبرا ومعظم الأحياء الشعبية في مصر.    
    الحقيقة أنني قد شاهدت هذا العرض منذ فترة ولم استطع الكتابة عنه عقب المشاهدة كما اعتدت. وذلك لتزاحم الأفكار الكثيرة جدا في رأسي، فسهولة العرض وبساطته سبب أساسي في صعوبة الكتابة عنه وهنا تكمن عبقرية الكتابة والتناول، فالعرض استدعى عندي ذكريات كثيرة جدًا منها ما يخص حي شبرا تحديدًا والعلاقة التي ربطتني به على مدار عمري كله بسبب وجود أحد أفراد عائلتي فيه. فزياراتي لم تنقطع عن هذا الحي حتى الآن. تذكرت ليالي رمضان والجولات في شوارعها: مسرة، طوسون، بديع، شيكولان،،، وشراء الآيس كريم من شارع شبرا الذي كان يعد وقتها اختراع. حيث كنا نشتري أنواع أقل جودة من بائع متجول ويطلق عليه جيلاتي. كذلك شم النسيم والأعياد وجلوسنا على النيل. تذكرت أيضا كوافير الخواجة جورج الذي كنت اقص شعري فيه. تفاصيل كثيرة جدًا جلبت علي حالة من الشجن مازلت أسيرة لها حتى كتابة هذه السطور، خاصة أن تقريبا معظم أبطال هذه الذكريات قد رحلوا. ثم تشابه الحكايات التي رويت وتفاصيل هذه المرحلة مع حكايات وتفاصيل عيشتها في الحي الشعبي الذي نشأت فيه ولايزال كل أفراد عائلتي يسكنون فيه حتى الآن. طبعا الصغار منهم فجدتي ووالدي وأعمامي قد رحلوا جميعا. تخيلت دكان عمي إبراهيم البقال- وهو الأخ الأكبر لوالدي- بكل تفاصيله بسبت البيض المعلق على بابه والبنك الذي كان يثبت فيه القروش والتعريفات الممسوحة، ثلاجة الكوكا كولا الحمراء التي كان يوضع فيها ألواح الثلج والقراطيس التي كان يعبئ فيها المشتريات فلم يكن قد تم اختراع العبوات والأكياس الموجودة الآن. كذلك دكان جدي الحاج محمد نور الشهير بأبو مظلوم وهو لا يمت لنا بصلة قرابة لكنه كان كبير المنطقة الذي يتصدر في كل كبيرة وصغيرة وقد نُشرت صورته في جريدة الأخبار حين تشاجر مع المسئول عن الصرف الصحي، الذي لم يتركه إلا بعد أن قام بحل المشكلة بشكل نهائي، وكان يعقد جلسات عرفية ويحل المشاكل بين الأزواج والعائلات والجيران.
    تذكرت تريز بنت الجيران التي كانت تذهب معنا يوميا في رمضان لشراء السحور لأن والدها حسب روايتها «بيحب يصوم رمضان معانا» وكان شراء السحور بمثابة فسحة جميلة مع مجموعة بنات الجيران فكنا نشتري الفيشار ونتفرج على الفتارين ونختار منها ملابس العيد، تذكرت دورق الشربات الذي كان يخرج ويدخل من وإلى كل الشقق في موسم نتائج الامتحانات، الأفراح التي تقام لأكثر من أسبوع قبل يوم الزفاف فكل نساء المنزل تجتمعن في شقة أم العروس ليحتفلن بها يوميًا، كذلك اجتماعهن لعمل كعك العيد،،،،،،،،،،إلخ المناسبات الكثيرة.   
    تذكرت أيضًا عزاء جارنا عمي فتحي الذي أقيم في شقتنا والذي استلم جثمانه والدي مع اثنين من الجيران لوفاته في حادث. ووفاة جدي وجنازته التي كانت  بمثابة مظاهرة شعبية حيث سافر أغلب سكان شارعنا وبعض من الشوارع الأخرى المجاورة معنا إلى قريته بالقليوبية، والجيران الذين قاموا بتأجيل موعد زفاف ابنتهم لبعد الأربعين. 
    ولم يكن الحرامي فقط هو الذي لا يسرق أبناء منطقته ويرد لهم ما سرق بالخطأ، بل أنه لايمكن أن يعاكس شابًا إبنة منطقته، تفاصيل كثيرة جدًا تطابقت مع أحداث العرض، وحين أذكر ذلك فقط لتأكيد أنها مصر الستينات والسبعينات ولم تكن شبرا فحسب. هذه هي خلطة مصر بناسها الطيبين وقيمها الجميلة التي افتقدناها، واعتقد هو ما قصده المؤلف حين كتب خلطة شبرا. وقد اتضح ذلك جليًا حين ظهر الفكر المتطرف الذي ضرب البلد كلها ولم يضرب شبرا فقط بل امتد لأحداث الفتنة الطائفية التي عايشناها في الزاوية الحمراء عام 1981، والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن. 
    نجح يسري حسان في صياغة كل هذه التفاصيل فشعرنا أنه دخل كل بيوتنا وشوارعنا وحوارينا وعاش معنا افراحنا ومعاناتنا وأشار بأصبع الاتهام إلى مصدر الخطر الذي غزا مصر وضربها في مقتل وهو الفكر الوهابي الذي تم استيراده مع الريال والدينار و»السِياره» كما ينطقونها، ونشر ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شئ، فجعل الجميع يغلق الأبواب ويعيش في عزله لا يعرف شيئا عن جيرانه، وانهارت القيم الجميلة وافتقدنا مصطلحات كثيرة غاية في الأهمية منها: ابن الحتة وبنت الحتة. 
    غزل هذه التفاصيل بحرفية عالية جدًا المخرج محمد سليم الذي قدم العرض في قاعة وهي الأفضل لتقديم هذه الحالة شديدة الخصوصية والحميمية، وكان من الذكاء أن اختار مقهى ك (لوكيشن) منطقي جدًا للأحداث حيث يجلس الراوي محمد هاني وتبدأ حالة الحكي للمتلقين الذين جعلهم متورطين فيما يدور باعتبارهم رواد المقهى الذي تدور فيه الأحداث، وتغلب على حالة الملل التي قد تصيب المتلقي بتحويل حالة الحكي إلى ثلاث خطوط متوازية ومتقاطعة في ذات الوقت حيث الرواي الذين يقوم بالحكي، والممثلون الذين يجسدون الشخصيات التي يحكون عنها بأداء كوميدي أكثر من رائع لفنانين تلقائيين: علاء النقيب، أحمد عبد الجواد، محمود عبد الرازق، مع الغناء والعزف (لايف) للفنان ماهر محمود والعازفون لألحان الفنان الراحل أحمد الحجار: مايكل رفعت، عمرو بكار، نوار مجدي، توماس القمص لوكاس.
    اتسم العرض أيضًا بأن كل مفرداته ليست تقليدية بل صورة فنتازية منها ديكور مي كمال الذي لم يكن مقهى تقليديًا بل يوحي بالمقهى ببعض عناصره مبينًا في ذات الوقت خريطة شبرا بأحيائها وشوارعها وأسماء دور السينما التي تحولت إلى مولات وجراجات موضحًا بلا مباشرة ما حدث للواقع الثقافي من تراجع، وقد تميز هذا الديكور بوجود فانوس رمضان وصورة العذراء معلقان بجانب بعضهما وهو ما كان يحدث بالفعل في رمضان، وقد صممت الملابس أيضًا والتي تميزت التي استخدمت في استدعاء الشخصيات التي يقومون بالحكي عنها بالفانتازيا، بجانب العادية التي يرتديها الناس في الشارع المصري.
    مع الاستعانة بشاشات العرض التي عرضت مادة فيلمية مهداة من الفنان والإعلامي عبد الحميد السيد قدم من خلالها في البداية ملامح شبرا قديما وختم بملامحها حديثًا، ولم ينفصل صناع العمل عن القيم التي يتناولونها في العرض حين قاموا بإهدائه للفنان الراحل أحمد الحجار وختموه بأغنية بصوته مع عرض صورته على الشاشات. 
    تحية للأستاذ عادل حسان مدير مسرح الطليعة ولكل صناع العمل الذين نجحوا في استدعاء ماضينا الجميل وتقديمه لأجيال لم تعرفه، فربما يتعلمون منه قيمًا فشلنا نحن في تعليمهم إياها.  


نور الهدى عبد المنعم