«حكايات منتصف الليل».. هل تتحقق العدالة من منظور واحد؟

«حكايات منتصف الليل»..  هل تتحقق العدالة من منظور واحد؟

العدد 814 صدر بتاريخ 3أبريل2023

شاب وفتاة، يستطيعان النجاة من حادثة سيارة، ويسيران في طريق جبلي حتى يظهر لهما بيتٌ ريفي، يعرض صاحب ذلك البيت عليهما المكوث عنده حتى الصباح، يتردّدان، ثم يوافقان بعد أن يدركا أنهما مجبران على ذلك. هكذا يبدأ العرض المسرحي «حكايات منتصف الليل»، من تأليف إبراهيم الحسيني، وإخراج عبد الرحمن أشرف، ضمن تجارب نوادي المسرح، على مسرح قصر ثقافة بني سويف. 
 صاحب المنزل، هو رجل عجوز أعرج، يبدي إعجابه بلحم الغزلان والتين الشوكي والقهوة المُرّة، يتحدّث عن طَعم لحم الغزلان، وتلذذه بصعوبة العثور عليه وصيده؛ وحبه لنظرة الانكسار والذل التي يراها في أعين الغزلان حينما يقعون في شبكته. 
ينهض العجوز ويأتي بسرير متحرك، أطلق عليه (سرير بروكروست)، ينظر إليه على أنّه سرير العدالة، قيّد الرجل عليه، والذي كان أطول من السرير، فقام ببتر قدمه وجزءًا من رأسه حتى صعدت روحه إلى السماء، أما الفتاة فقد أقرّت تحت ضغط أنّه مديرها في العمل واضطرت إلى مرافقته، حاولت إغراء العجوز حتى تفر منه؛ ولكن كانت محاولات عبثية. 
يقوم عرض «حكايات منتصف الليل» على ميثولوجيا بروكروست اليونانية، والتي تشير إلى أنّ تحقيق العدالة يكون من وجهة نظر من يمتلك القوة وليس الحكمة، وهو ما أظهره العرض المسرحي، ومثلما تحكم بروكروست في مصائر أشخاص لمجرد أنه الأقوى، استخدم العجوز الدهاء والمكر للإيقاع بضحاياه في شباكه، تحت مسمى أنه يحقق العدالة المثالية على الأرض.
يقترب العجوز من الفتاة، لكنها تباغته بقضم أذنه، وتتخلص من القيود، ثم تقيّده في السرير، ويظهر طوله ملائمًا لطول السرير؛ أي إنّه في نظر العدالة التي وضعها “مثالي”. ولكن، يظهر في مؤخرة السرير عجلات دوراه يمكن أن تتحكم في طول النائم على السرير، وبتمدد العجلات ظهر بأنّ الرجلَ قصير؛ فنفّذت الفتاة قانون العدل الذي وضعه، وحرّكت العجلات لكي يتمدد طول الرجل، ويموت العجوز في بؤرة واضحة.
«حكايات منتصف الليل» عرض مسرحي يتناول فلسفة أصحاب المصالح الذين يحاولون تغيير الحقائق، وتضليل العدالة عن المذنبين الحقيقيين من أجل مصالحهم الخاصة أو مصالح الآخرين، مثلما كانت شخصية الرجل الذي تتحدث الصحف عن شهرته وعلاقاته الكبرى. 
وتمثل الفتاة الشخصية الانتهازية، التي ترافق المدير لأجل منفعتها الشخصية في العمل، وتحول الأمر إلى النجاة بحياتها حتى لو تطلب ذلك عرض نفسها على العجوز، أو قتله مثلما فعلت. 
يرى العجوز أنه يحقق العدالة على الأرض، ولكن من وجهة نظره هو فقط، عدالة تحققها الخديعة والقوة، وهذه العدالة أحاديث الجانب، يمكن أن تتسع وتضيق حتى تتحقق أفكار العجوز الخاصة، وإن كانت النتيجة هي قتل الكثير من الأرواح، سواء أكانت تلك الأرواح بريئة أو مذنبة، فالنتيجة واحدة هي الموت.
يختفي الزمان والمكان من أحداث المسرحية، ويصعب تحديد الفلك التي تدور فيه الأحداث، وكذلك ذوبان الزمن؛ فنرى أولئك الأشخاص يتكررون في جميع الأزمنة وفي كل مكان، فالفتاة هي أحد النماذج الانتهازية التي تحاول أن تصل إلى أغراضها مهما كانت الوسيلة التي سوف تتخذها، والرجل الذي ينتمي إلى أصحاب المصالح الذي ظهر طول فترة العرض المسرحي بأنه يخفي الحقائق المهمة عن العدالة، حتى يظهر الجناة في أحسن صورة، والعجوز الذي يرى أن تحقيق العدالة لا يتم إلا بالقوة، وهذه النماذج نجدها ظاهرة في كل زمان ومكان.
“الحق.. الخير.. الجمال..الحب..النور..الفنون”
طرح المخرج عبد الرحمن أشرف أغنية من أشعار المخرج والشاعر ناظم نجم الدين، تتحدث عن العدالة والحب والخير والمثل العليا، فنجد العجوز يردد تلك الأشعار بحماس عالٍ، ونعرف من خلالها أنه تعرض لماضٍ قاسٍ في مستشفى الأمراض العقلية جعله  ذلك الماضي سفاحًا، مدمرًا، قاتل على هيئة فيلسوف يبرر أفعاله على أنها الحقيقة والعدالة التي يسعى لتحقيقها، فهو يرى المبادئ السامية تحقق بدماء المخطئين.
اعتمد العرض على تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك في أكثر من موضع، فحينما يتذكر العجوز ذكرياته القاسية في مستشفى الأمراض العقلية، نرى الطبيب وهو يصعقه بالكهرباء حتى سقط مغشيًا عليه. ولقد استخدمت تقنية الاسترجاع لسد الفجوات التي توجد في الحاضر، لنتعرف من خلالها تاريخ كل من الرجل والعجوز حتى نستطيع أن نقف على الأسباب التي آلت بكل منهما إلى ما هو عليها الآن.  
تعدّدت الأقاويل نحو العدالة وتحقيقها؛ فيقول بليز باسكال “ العدالة دون قوة عاجزة والقوة دون عدل طاغية “ وذلك ما حدث مع ذلك العجوز الذي كان يتمتع بالقوة والدهاء، فأصبح طاغيًا تحت مسمى أنه يحقق العدالة، ولكنها عدالة زائفة أدت إلى قتل الكثير حتى العجوز نفسه، ولكن بموت العجوز الذي قتلته الفتاة، هل تحققت العدالة أم خلقت سفاحًا آخر؟


جهاد طه