العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (6) فرقة رمسيس في تونس عام 1927

العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (6) فرقة رمسيس في تونس عام 1927

العدد 737 صدر بتاريخ 11أكتوبر2021

يُعدّ يوسف وهبي من الفنانين المسرحيين الذين أحدثوا نقلة كبيرة في تاريخ المسرح في مصر وفي البلدان العربية التي زارها بفرقته «فرقة رمسيس»، وما تركته هذه الفرقة من أثر إيجابي في بعض الأقطار العربية ومنها تونس، وزيارتها كانت في صيف 1927. والعروض المسرحية التي عرضتها الفرقة في تونس، هي: تحت العلم، المجنون، توسكا، غادة الكاميليا، انتقام المهراجا، كاترين دي مدسيس، الدم، الإغراء، كرسي الاعتراف، راسبوتين، طاحونة سفاريا، الذبائح. أما أعضاء الفرقة الذين سافروا إلى تونس، فمنهم: يوسف وهبي، زينب صدقي، أمينة رزق، فردوس حسن، كريمة أحمد، فتوح نشاطي، حسن البارودي، حسين رياض، زكي رستم، علي هلالي، قاسم وجدي.
وفي كلمة قصيرة نشرتها مجلة «ألف صنف» في يونية 1927، أبانت أن الفرقة قوبلت بحفاوة بالغة في تونس، «ففي مدينة صفاقس زُينت المحطة بالأعلام وعزفت في ميدانها موسيقى المجلس البلدي تحية للفرقة، وتركت الحكومة ست سيارات في خدمتها. وفي سوسة حيث اشتغلت الفرقة ستة أيام قوبلت بمثل هذه الحفاوة، ثم عادت بعد ذلك إلى العاصمة تونس حيث مثلت ثلاثة أيام أخرى». 

حول العروض
اهتمت مجلة «الصباح» ببعض العروض، فنقلت عبر مراسلها رأيه في بطلة الفرقة «زينب صدقي» ودورها في مسرحية «غادة الكاميليا»، قائلاً: «أما السيدة زينب صدقي فقد مثلت بكفاءة دور مرجريت جوتيه، ونجحت النجاح الباهر عند تمثيل «غادة الكاميليا» في مسرح البلدية المزدحم بجمهور غفير. ويمكننا أن نؤكد أن زينب صدقي ممثلة من الدرجة الأولى، وكل حركاتها كانت تدل على نبوغها في فن الدرام، بصوتها اللائق وإلقائها المتقن، وإشاراتها الخالية من كل تكلف، وجاذبيتها الطبيعية التي امتازت بها. فهذه الممثلة الممتازة قد نالت ما تستحقه من النجاح والنبوغ لقيامها بتمثيل هذا الدور الذي لم يسبق لها أن قامت بتمثيله في بلادها».
وبعد أيام قليلة نشرت المجلة نفسها خبراً يفيد بأن سمو باي تونس أنعم على يوسف وهبي بلقب «كومندور» من الدرجة الثانية، وبراءته سلمها وزير فرنسا المفوض. كما شاهد ابن باي تونس مسرحية «انتقام المهراجا» «الذي وقف في بنواره وحيا بأعلى صوته الكومندور يوسف وهتف له». 
والجدير بالذكر أن الفرقة مثلت مسرحية «الإغراء» لصالح الجمعية الخيرية الإسلامية، كما مثلت مسرحية «كرسي الاعتراف» فكان دخلها أكثر من عشرين ألف فرنك، حيث لم يكن هناك مقعد خال، وطرقات المسرح كانت مكتظة بالمتفرجين، وحضر العرض قناصل الدولة المصرية، وكبار رجال الدولة.
وبعد عودة الفرقة إلى مصر، كتب ناقد جريدة «البلاغ» - محمد علي حماد - مقالة في يوليو 1927، أبان فيها أن يوسف وهبي استعان بحسن البارودي وببعض الممثلات للغناء بين فصول المسرحيات إرضاء للجمهور التونسي، الذي يميل إلى الطرب متأثراً بمسرحيات الشيخ سلامة حجازي، كما أنه يميل إلى الفكرة الشرقية الإسلامية التي تسيطر على شعوره، مما جعله يقبل على المسرحيات التي تسير وفقاً لهذه الفكرة، مثل مسرحية «انتقام المهراجا» التي تدور أحداثها حول الرجل الشرقي الذي يثأر لشرفه من الرجل الغربي، الذي دنس هذا الشرف. وكذلك كان الأمر مع مسرحية «طاحونة سفاريا» التي أقبل عليها الجمهور التونسي لأنها تبرز وطنية الأتراك وتفانيهم في التضحية في سبيل وطنهم، وهذه المعاني ترتبط بالفكرة الشرقية في وجدان التونسيين. وفي مقابل ذلك سقطت مسرحية «الذبائح» بسبب لغتها العامية المصرية التي لا يفهمها التونسيون، مقابل فهمهم لبقية المسرحيات لأن لغتها عربية فصحية.

حوار يوسف وهبي
في أغسطس 1927 نشرت مجلة «المسرح» المصرية حواراً ليوسف وهبي مع الصحفي «أنطون نجيب مطر»، ننقل منه هذه الأسئلة وأجوبتها. س: كيف فكرتم في السفر إلى تونس وطرابلس هذا العام على ما في البلاد من أزمة وضائقة مالية؟ ج: يتضح لكم من حالة تلك البلاد، وهبوط العملة هناك أن غايتنا من السفر لم تكن من أجل كسب المال، إنما كانت فقط من أجل الفن!! أو بمعنى آخر من أجل عمل مجيد نفخر به! ألا وهو وضع الحجر الأساسي لشيء اسمه تمثيل جدي صحيح!! ثم هناك عامل مشوق آخر ذلك هو حب الشرقي لأخيه الشرقي. ورغبته الأكيدة في أن يتعرف إليه، ويرى مبلغ ما وصله من مدنيّة ورقي. س: هل يقدر أهل تونس الفن ورجاله؟ وهل يتذوقونه؟ وهل هناك شيء اسمه فن؟ ج: أجل إنهم يقدرون الفن، بل ويتذوقونه أكثر منا. حتى أنهم يذهبون فيه أحياناً مذهب الجد، ويعتبرونه أمراً حقيقياً واقعياً لدرجة أنهم يكرهون الممثل الذي يقوم بأدوار مكروهة. وتخفق قلوبهم بالعاطفة الخالصة لذلك الذي يمثل دوراً ينبئ عن كرم خلق، أو شهامة وبطولة. ولما كانوا قد تمتعوا بمشاهدة فرقتي الشيخ سلامة حجازي والأستاذ جورج أبيض منذ ثلاثة عشر سنة تقريباً، وأعطتهم هاتان الفرقتان فكرة أن التمثيل عبارة عن مغنى وأن العاشق أو بطل الرواية يجب أن يشجي ويطرب فقد استحوذ قلق شديد. واندهشوا كيف أن في الاستطاعة التمثيل بدون مغنى. ولكن بعد مشاهدة رواية «كرسي الاعتراف» في الليلة الأولى. قامت ضجة كبرى، ومناقشات شديدة عنيفة في النوادي والمشارب كل ينتصر لرأيه في التمثيل. ومن الغريب أن حزب التمثيل «حاف» انتصر على حزب التمثيل «بالمغنى». وكنا مخافة غضب الجمهور، واستجلاباً لرضائه حين أحسسنا ميلهم هذا. قد قررنا أن يلقي علي أفندي هلالي والآنستان كريمة أحمد وفردوس حسن بعض الأغاني والمنلوجات بين الفصول. س: هل كان يفهم التونسيون اللغة التي تتكلمون بها، وهل كانوا يخرجون من المسرح وقد أدركوا الرواية تماماً؟ ج: أجل كانوا يفهمونها تماماً. غير أن الأمر أشكل عليهم في رواية «الذبائح» لأنها موضوعة باللغة العامية، فاضطررت إلى أن أمثلها باللهجة التونسية الدارجة بقدر الإمكان. ومن الغريب أن جمهور النظارة لم يفهم من الرواية إلا دوري أنا فقط. س: هل يمكن المقارنة بين نُظارة مسارحهم، ونُظارة مسارحنا. من حيث المحافظة على آداب المسارح. ومراعاة كرامة الممثل الذي يقوم بدوره؟ ج: إنهم يقدرون آداب المسارح، ويحرصون على احترامها واتباعها كل الحرص. فهم يفوقوننا في هذا الدرب بكثير. كما أنهم ينظرون إلى الممثل نظرة الإجلال».

مذكرات قاسم وجدي
الجدير بالذكر إن «قاسم وجدي» أحد أفراد فرقة رمسيس، نشر بعض مذكراته عن تونس بعد عودته منها مباشرة، ونشر هذه المذكرات في مجلة «روز اليوسف»، وهي مذكرات تعكس صورة تونس عام 1927، وقد مهدّ لها كاتبها بتمهيد قال فيه: «قبل أن أتحدث عن تونس أحب أن أذكر أن هذه المعلومات التي أفضي بها، هي نتيجة اختبارات شخصية وقفت عليها بنفسي، مضافاً إليها تصريحات بعض الرجال المسئولين هناك. فإذا رأى إخواننا التونسيين في بعض المعلومات التي أذكرها ما ينافي الواقع والحقيقة، فما عليهم إلا أن يبادروا إلى تصحيحها. على أن الغرض الذي أرمى إليه من نشر هذه المعلومات، إنما هو مجرد رغبة بريئة في إظهار حقائق عن تونس يجهلها الكثيرون في مصر».
وبدأ قاسم وجدي مذكراته بوصف تونس مكاناً، قائلاً: إذا أردت أن أصف لك شوارع تونس وميادينها، وجب عليّ أن أقسمها إلى قسمين، قسم حديث وأخر قديم. فالقسم الأول هو ثمرة الاحتلال الفرنسي، ويقتصر على الأجانب من سكان تونس، وهو على أحسن ما يكون نظاماً وجمالاً. فالشوارع كبيرة متسعة تحوطها الأشجار الباسقة من الجانبين، وتنيرها الثريات الكهربائية الكبيرة. والطرقات مبلطة بالأحجار الصغيرة، والمحال التجارية لمختلف الأشياء تملأ جوانبه وكلها ملكاً للأجانب - الفرنسيين على الأخص - والمباني على الطراز الفرنسي، والفنادق والقهاوي كلها فرنسية وأصحابها ومشروباتها ونظامها وخدمها وكل شيء فيها. وقلما يقع نظرك في هذا القسم على رجل وطني حتى ليخال لك أنك في بلد أفرنجية أكثر منها شرقية. واللغة المستعملة في هذا القسم هي اللغة الفرنسية حتى أن الباعة المتجولين ومساحي الأحذية أكثر استعمالاً للفرنسية منهم للغة بلادهم وقومهم، فلا يتكلمون عشر كلمات حتى يكونوا قد أضافوا إليها ثماني كلمات فرنسية! وترى في هذا القسم أيضاً ميادين كبيرة واسعة، تتوسطها حدائق صغيرة محاطة بالأسوار، وعلى ناصيتها مقاعد عامة للجلوس، وفي وسط الميدان يرتفع عمود كبير يحمل ساعة كبيرة تدق كل ربع ساعة. وهناك كل المسارح والملاهي ودور الصور المتحركة [السينما]. وبالجملة هذا القسم من تونس هو القسم الذي تستطيع أن تعيش فيه.
وعندما بدأ قاسم وجدي وصف القسم الثاني من تونس، قال: هو أثر من آثار تلك المدينة القديمة، فطرقاته مظلمة ضيقة لا تسمح بالمرور فيها لأكثر من واحد، وأبواب المنازل فيه مرتفعة عن الأرض، وليس لها سلِّم وإنما يتسلقها أصحابها بخطاهم العريضة الواسعة. وأسواقه ذات أقبية وسقوف، ومحاله التجارية على نمط محلات «التربيعة» في مصر، التي يجلس فيها أصحابها «متربعين»، وتجارتها قاصرة على الحرير والأنتيكات، وفيه مصانع الطرابيش والمدارس الأهلية والقهاوي الوطنية ذات المصاطب ومشروباتها قاصرة على القهوة والشاي. وأنت في هذا القسم تشعر بأنك تعيش في عصر من العصور القديمة البائدة، وترى الفرق الشاسع بين العناية الهائلة بالقسم الأول، والإهمال المشين في القسم الثاني.
كما وصف الكاتب متنزهات تونس، قائلاً: وفي تونس متنزهات ولكنها في القسم الأفرنجي منها، وأجمل متنزهاتها «منتزه اللفدير» [أظنه البلفيدير] وهو حديقة عامة في مكان مرتفع، يشرف على البلد هناك في وسط الحشائش والزهور، ترى القبة التي كان يجلس فيها «البايات» السابقون مستقبلين ضيوفهم. وهي قبة مرتفعة مكونة من الأسلاك الذهبية والزجاج الملون، ومرتفعة على أعمدة ضخمة منقوشة نقشاً بديعاً وملوناً بألوان جميلة زاهية. وعلى جوانبها المصاطب التي كانت تُفرش بالسجاد والطنافس ويجلس عليها «الباي» تحوطه حاشيته وأعوانه. وهي في مجموعها تدل على مهارة صانعيها وحسن ذوقهم. ومما يترك في النفس عظة وعبرة أن هذا المكان الذي كان بالأمس موضع شرف زائريه، ولا يدخله إلا المقرب والسعيد قد أصبح اليوم مكاناً عاماً للنزهة والتفرج!
وتطرق قاسم وجدي إلى اللهجة التونسية، فقال: أما اللغة التونسية - وهي لغة التفاهم - فأنك لن تستطيع أن تفهمها مهما أوتيت من قوة وذكاء وذاكرة، ويصعب عليك أن ترجعها إلى الأصل من الأصول، فأنت مضطر لأحد أمرين، أما أن تتكلم بالفرنسية - والجميع يعرفونها أو باللغة العربية الفصحى. وها أنا أورد لك أمثلة من تلك اللغة مع معناها، وأنا أراهن أنك مهما فعلت فلن تستطيع أن تفهمها إن لم أذكر لك المعنى، فمثلاً: ياسر: كثير، فيسع: بسرعة، قد القد: زي بعضه، إشنوه: إيه ده، قلاسط: شراب، ندولش: نتفسح، باهي: كويس، كبوس: طربوش، شلاغم: شنبات، مريات: نضارة، كيفنك: إزيك، سوريه: قميص، مكلة: طعام، فاكينة: جاكتة، جربيطة: كرافته، باش: علشان، يهز: يحضر، اللوطة: تحت. أما اللغة الرسمية المستعملة في دواوين الحكومة ومصالحها فهي اللغة الفرنسية. فالبوسطة لا تقبل خطاباً ما لم يكن عنوان البلد مكتوباً بالفرنسية، وكذلك التلغراف يتحتم عليك أن تكتبه بالفرنسية أو بالعربية؛ ولكن بحروف أفرنجية!
واختتم الكاتب مذكراته بأمر غريب، وهو الحديث عن «نظام الحكم» في تونس!! وفيه قال: لفرنسا في تونس مندوب يقال له «المقيم العام» وهو في الواقع الحاكم العام للبلد، ينفذ أو يلغي ما يشاء دون أن يلقى أية معارضة. ومن الغريب أن أي شخص من الداخل أو الخارج لا يستطيع أن يقابل الباي ما لم يُقدم للحاكم بواسطة رئيس الوزراء. وللحاكم العام مطلق الحق في الرفض أو السماح بالمقابلة دون أن يذكر الأسباب. الباي يتناول مرتبه البالغ قدره ثلاثمائة ألف فرنك شهرياً من الميزانية العامة، ولباقي العائلة مرتبات تتفاوت بنسبة السن. ومن واجبات سمو الباي أن يحضر حكم الإعدام الذي ينفذ في قصره. ويتحتم أن يكون في صباح يوم السبت ويعلن عنه في ثلاث جرائد ثلاث مرات. ففي اليوم المحدد للتنفيذ، تنصب المشنقة صباحاً في فناء سراي الباي، الذي يجلس ومن حوله وزراؤه وحاشيته، ثم تمثل بين يديه عائلة القتيل فيأخذ في نصحها طالباً إليها أن تتنازل عن حقها في إعدام القاتل، مقابل مبلغ من المال يدفعه من جيبه الخاص. وكلما تشبثوا بالرفض زاد في قيمة المبلغ. فإن قبلوا بالتنازل يُلغى حكم الإعدام ويبقى حق النيابة، فيُحكم عليه بثلاث أو خمس سنين، وإن لم يقبلوا نُفذ الحُكم في الحال!
إلى هنا سنتوقف عن الكتابة، وسنكمل الموضوع الأسبوع القادم، لنتعرف على حوادث أخرى حدثت للفرقة في تونس، لم يتم الإفصاح عنها أثناء وجود الفرقة في تونس، بل تم ذكرها بعد العودة إلى مصر في العام نفسه 1927 .. أما المفاجأة الكبرى فستكون فيما ذكره يوسف وهبي حول أسرار هذه الزيارة؛ ولكن بعد مرور أكثر من أربعين سنة على حدوثها!! فما هي الأسرار التي أخفاها يوسف وهبي عن المصريين والتونسيين طوال هذه العقود؟! .. موعدنا المقالة القادمة!!


سيد علي إسماعيل