العدد 886 صدر بتاريخ 19أغسطس2024
ان طريق الشهرة صعب جدا، فحتى تنال الشهرة يجب أن تتميز عن أقرانك في مجال معين، كما يجب أن تصقل هذا المجال أو هذه الموهبة سواء كانت علما أو فنا أو رياضة، وهذا الصقل يحتاج بجانب الموهبة للدراسة وللإحتراف والتركيز على هذا الشيء، والعمل عليه لفترات طويلة من الزمن، والشهرة لا تعنى النجاح اطلاقا فهناك الكثير من المشاهير مكروهون، خاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، التى معها اصبحت حياة المشاهير كتاب مفتوح لجماهيرهم، وللأسف الشديد اصبحت الناس هى من تساهم في شهرة كل من لا يستحقها دون وعي أو إدراك منهم احياناً، إذن كيف يرى المخرج الكبير خالد جلال الشهرة من خلال فلسفته ووجهة نظره ؟ هذا هو السؤال الذى ظل يراود ذهنى شغفا طوال الطريق من القاهرة الى العلمين، حيث تعرض مسرحيته الأخيرة “ الشهرة “ على مسرح مدينة العلمين ضمن فاعليات مهرجان العالم علمين .
وحينما تأملت فى سر نجاح خالد جلال على الدوام، تذكرت إشادته بمقولة أعجبته وآمن بها واتخذها شعارا له فى حياته ورحلة كفاحه، على خلفية ماستر كلاس له بالمهرجان القومى للمسرح المصرى فى دورته العام الماضى، الا وهى مقولة مكتوبة لمحتها عيونه المشعة بالذكاء على حائط أحد معسكرات الجيش وحفظها عن ظهر قلب، وهى مقولة “كثرة التدريب توفر الدم فى المعركة“ .
ان تلك المقولة كانت هى أول من صنعت خالد جلال وجعلته يعشق المشقة والجهد، ولا يعرف للراحة سبيلا حتى حفر اسمه فى عالم الاخراج والتدريب بحروف من ذهب، فبدأ رحلته من أكاديمية روما بدولة ايطاليا حيث درس الاخراج هناك بعدما تخرج من المعهد العالى للفنون المسرحية، ثم عاد ليصبح مديرا لمسرح الشباب وتدرج فى المناصب المختلفة، حتى توج فى النهاية رحلة كفاحه بنجاحه فى جعل من “مركز الإبداع الفنى“ التابع لوزارة الثقافة واحدا من أهم الكيانات التعليمية والتدريبية المؤهلة للنجومية والتى تضاهى اكبر الأكاديميات المسرحية، وتخرج منه وعلى يديه العديد من نجوم الصف الأول والثانى والذين أثروا الحياة الفنية بمواهبهم وخبراتهم التى اكتسبوها من التدريب فى ذلك المركز العريق، حتى أطلق عليه فى النهاية “ جواهرجى النجوم “، وهو لقب يحبه ويعتز به كثيرا حصده بعد مشوار طويل من العمر والتعب والمعاناة .
اراد خالد جلال ان يحقق حلمه فى توثيق تلك الرحلة الشاقة والناجحة والملهمة لكل انسان موهوب ومكافح يسعى لتحقيقه حلم الشهرة، من خلال عرض مسرحى كوميدى غنائى استعراضى، حتى سنحت له الفرصة لذلك من خلال أحد اهم الفاعليات الثقافية على مستوى الشرق الأوسط أجمع، الا وهو مهرجان العالم علمين، وعلى مسرح العلمين احد أعظم المسارح الضخمة والحديثة والمتطورة بأحدث التقنيات فى عالم المسرح، فقام بتأليف وإخراج مسرحيته “ الشهرة “ بعدما كان اسمه وحده كفيلا بثقة أكبر جهات الإنتاج فى مصر فقام بإنتاجها بلال الطراوى “ شركة DS “، الذى لم يبخل عليها بأعظم الإمكانيات المادية التى ساهمت فى نجاحها بشكل ساحق، وحققت لجمهور المتلقى متعة بصرية وسمعية لا مثيل لها من قبل فى المسرح المصرى .
ان مسرحية “ الشهرة “ هى محاكاة لنموذج مركز الإبداع الفنى منذ بداية تأسيس “ ستوديو الإبداع “ منذ عشرون عاما حتى وقتنا هذا، كتبها خالد جلال بشكل كوميدى راقى وبحرفية شديدة لكل ما يدور فى كواليسه من تدريبات ومحاضرات أشبه بنظام المعسكرات وقصص حياتية وانسانية ومغامرات، قصة رصد درامى مسرحى لرحلة طويلة من الإجتهاد والشقاء المشترك ما بين الطلاب من الأجيال المختلفة، وما بين قائدهم المخرج المبدع خالد جلال، معايشة كاملة بمعناها الحرفى كانت من نتيجتها ان صارت العلاقة ما بينهم جميعا أقرب للعلاقة الأسرية والعائلية منها عن العلاقة التدريبية والتعليمية، فصار جلال هو الأب الروحى لأكبر عدد من الأبناء والمواهب، وصار “ مركز الإبداع الفنى “ هو أحد الأبواب الشرعية ذات القيمة المتوهجة والمتخصصة فى صناعة النجوم فى مصر .
تدور فكرة مسرحية “ الشهرة “ حول مجموعة من شباب الطلاب يلتحقون بمسابقة فى التمثيل لإحدى المدارس أو الأكاديميات الكبرى المتخصصة فى التمثيل والرقص والغناء والإلقاء، وبعد ان يجتاز البعض منهم اختبارات القبول، يتم التعايش فيما بينهم داخل الاكاديمية فترة من الزمن قد تتعدى العام، أشبه بالمعسكر المغلق والشاق من اجل التدريبات اليومية بنظام اليوم الكامل، مما ينتج عن ذلك ان يحدث فيما بينهم وبين اساتذتهم العديد من المواقف الحياتية وكذا المفارقات الكوميدية، حتى يتم تصفيتهم فى النهاية واستبعاد غير الملتزمين منهم عمليا او نفسيا او سلوكيا، ومن ثم التحضير لمشروع تخرج للمجموعة النهائية عبارة عن عمل مسرحى غنائى استعراضى ضخم أطلقوا عليه اسم “ الشهرة “ تختتم به أحداث المسرحية .
المسرحية من بطولة نخبة مختارة من طلاب مركز الإبداع الفنى، وعندما نتحدث عن عرض أبطاله من ذاك المركز فنحن هنا نتحدث عن الجمع بصيغة المفرد، حيث لا مجال هنا لذكر اسماء فجميعهم ابطال متساوون فى الأهمية والقيمة حيث لا مجال فى عروضهم للنجم الأوحد، فجميعهم تجمعهم كاريزما ولياقة حركية وخفة ظل واحدة، ولكن فى وسط ذاك الجمع هناك بعض الشخصيات تحتاج الى التفرد فى الذكر، ليس لتميزهم عن الآخرين ولكن لتميز وأهمية الأدوار التى يلعبوها، فهناك ناظر المدرسة الفنية والمفترض انه يؤدى شخصية خالد جلال فى الحقيقة، فقد أحسن التعبير آدائيا عن هيبة وقوة شخصية الأستاذ وصرامتة فى التدريبلت، كما كان هناك مدرس الإلقاء فقد خلق لنفسه كاركتر مميز للغاية سواء على المستوى الآدائى أو الحركى، فبمجرد رؤيته سيثير الضحك لدى جمهور المتلقى حيث تميز بذكائه الفنى الموازى لخفة ظله، وهناك الفت عمر من قامت بدور مدربة التمثيل والاستعراضات التى تمنح حبها لكل طلابها، وكانت على قدر عالى من التلقائية والمرونة الحركية التى تجعلك تنتبه لها دوما كمتلقى لما منحها الله من حضور مسرحى .
تصميم الديكور لعمرو عبد الله جاء ملائما بمنتهى الدقة والإحترافية عن فكرة المسرحية، حيث أوحى للمتلقى بتفاصيل تصميماته المبدعة بإنه بداخل اكاديمية فنية ضخمة الامكانيات بالفعل، وليس امام ديكورات تم تركيبها وذلك لما اضافه لها من لمسة جمالية وصدق فنى، برز بشكل اكبر فى البانرات المتغيرة التى تعبر فى خلفية المسرح عن هوية المحاضرة التى تطرح على الطلاب، سواء كانت فى الالقاء او فى الغناء أو الاستعراضات او فى التمثيل، من خلال صور رموز ورواد ذاك التخصص والتى تبرز فى خلفية المسرح .
أما عن تصميم الأزياء لنيفين رأفت فجاءت ألوانها معبرة عن روح الشباب ومدى ما يتميزون به من تفاؤل وو احلام وطاقات، فجاءت جميعها ذات الوان مبهجة، وظهر ذلك جليا فى ملابس الاستعراضات وبالأخص استعراض الشهرة فى ختام المسرحية، حيث كان بمثابة صورة خيالية بالنسبة للمتلقى لا نراها الا فى مسارح برودواى فى الولايات المتحدة الأمريكية، بما تتميز من ثراء فى الألوان والخامات اسهمت بشكل كبير فى نجاح العرض المسرحى، بعدما استطاعت نيفين ان تترجم كل افكار خالد جلال الى صور مرئية، لتسجل اسمها بحروف من نور فى عالم الأزياء العالمية .
الإستعراضات لخديجة العرقان ما هى الا عنصر مكمل للأزياء فى مستوى الإبهار والتأثير والمتعة البصرية للمتلقى، ليشكل كلا منهما صورة بديعة موحدة بمقاييس العالمية تضاهى وتنافس كبرى مسارح العالم فى الامكانيات والقدرات، فرأينا شباب الابداع يرقصون بكل حرفية وآداء حركى منضبط لإستعراضات عبرت بإتقان عن طاقاتهم وطموحاتهم دون ادنى اخطاء، وكان استعراض الختام العالمى بمثابة أكبر دعاية وعنوان عما يحدث داخل مصنع الابداع بالقاهرة من تدريبات صعبة وقاسية لصنع الممثل الشامل متعدد القدرات، فاستطاعت العرقان بتصميمها المتفرد للإستعراضات ان تعبر عن نفسها بقوة كواحدة من أكبر مصممى الاستعراضات فى مصر التى سيتداول اسمها كثيرا فى الفترة القادمة بعدما حققته من نجاح منقطع النظير .
مثلما كانت الأزياء مكملة لعنصر الإستعراضات، جاءت ايضا موسيقى والحان احمد طارق يحيى مكملة لكلمات واشعار محمود المليجى، حيث عبر كلا منهما عن طبيعة العرض الميوزيكال الغنائى الاستعراضى، بما يتصف من أشعار ملهمة والحان صاخبة تعتمد على الايقاع السريع، المعبر عن أفكار الشباب وحماسهم وطاقتهم واصرارهم على تحقيق حلم الشهرة، فجاءت الكلمات جميعها متفائلة تعبر عنها موسيقى سريعة ومبهجة وعصرية، لينتج لنا فى النهاية مشروع ثنائى مبدع وناجح بتوقيع وبصمة كلا من المليجى ويحيى .
بعد نهاية العرض المسرحى وقبل خروجى منه، وجدت الإجابة على السؤال الذى طرحته على نفسى أثناء سفرى للعلمين وقبل دخولى للعرض المسرحى، الا وهو كيف يرى خالد جلال الشهرة من منظور فلسفته الخاصة ووجهة نظره الفنية ؟
ان « الشهرة « عند خالد جلال هى أمانة ومسئولية، فليست كل الشهرة ايجابية، فهناك شهرة سلبية وهناك شهرة تفتقد الضمير والشرف وتعمل على نشر كل ما هو مضر لسلوكيات شباب المتلقى ومفاهيمهم عن الحياة والكفاح والعمل، وتشويه رموز الفن ورواده وفقدان القدوة والمثل الأعلى، لذا هنا فوجب على الفنان ان يدرك ان الشهرة أمانة ومسئولية سيحاسب عليها امام الله لانه اصبح فى موضع قدوة لأجيال من الشباب، لذا عليه ان يزرع فيهم بفنه وموهبته كل القيم والعادات والتقاليد التى ترتفع بهم وبأخلاقهم، ليصبح لدينا بالتبعية مجتمع مثالى ومن ثم وطن عظيم ومنتج .
اذن فالشهرة هى أمانة ومسئولية فيما تقدمه قبل ان تكون مجرد نجاح وملايين الجنيهات، الشهرة أيضا عند خالد جلال هى التدريب والعمل الشاق، وليست الشهرة التى تعتمد على الحظ والصدف والمغامرات، بل هى شهرة محسوبة ومدروسة بشكل جيد ودقيق، فمن يحصد شهرته بالتدريب والعمل الشاق حتما ولابد سيكون اكثر معرفة بقيمتها واكثر حرصا على الحفاظ عليها، عمن حصد شهرته بالعشوائية والسعى وراء التريندات الزائفة والمحتوى الفارغ من القيمة والرسالة، حيث انها شهرة زائفة يحتقرها الناس ولا تدوم .
إذن بمقاييس الشهرة التى يتبناها خالد جلال ويعلمها لطلابه، فمن الطبيعى ان تجدهم جميعا مؤهلين للنجومية بمفهومها الصحيح القائمة على الفن الهادف والقدوة التى يحتذى بها جمهور المتلقى .
و من خلال مشهد ختامى مبهر تم اخراجه بعبقرية بمسرحية الشهرة يظهر فيه كلا من محمد حسيب ناظر المدرسة فى الدراما بجوار خالد جلال ناظر المدرسة الحقيقى فى الواقع، بعد ان يظهر قبلها جلال منفردا امام جمهور المتلقى، ليلقى كلمة لهم عن كم المعاناة التى يبذلها من اجل ان يصل بطلابه لتلك المرحلة، التى يصبحوا فيها نجوما يتصدرون افيشات السينمات والشوارع، ليترك الكلمة بعدها لناظر مدرسة الدراما ليختتم بها المسرحية، واراد جلال من ذلك المشهد أو تلك المقارنة التى وضعها امام جمهور المتلقى ما بين الشخصية الحقيقية الواقعية التى يمثلها وما بين الشخصية الدرامية التى يجسدها محمد حسيب، ولكنهم فى النهاية شخصية واحدة ان يلفت نظرهم بأن الجدية والصرامة وحدها لا تكفى لصنع ممثل جيد فى التدريبات، ولكن يجب ان يتخللها الحب والمودة والصداقة وروح الأسرة والعائلة الواحدة حتى تصنع نجوما أسوياء .
و قد توج خالد جلال مجهوده الصعب والشاق هو وطلابه طوال فترة بروفات المسرحية، بمشهد فينالة المسرحية الغنائى الاستعراضى العالمى المدعو بأسم « استعراض الشهرة « ، على اعتبار انه دراميا هو مشروع تخرج طلاب المدرسة او الاكاديمية فى المسرحية، حيث الملابس ذات الالوان الخيالية، والاكسسوارات الثرية ، والاضاءة الساحرة، ليبهر كل جمهور المتلقى صوت وصورة على مسرح العلمين الضخم بعرض مسرحى لنجوم مركز الابداع، يثبتون من خلاله لكل مشكك بأن مصر الوطن هى منبع المواهب الشاملة والمتعددة تمثيلا ورقصا وغناءا التى لا تنضب وتظل تدفع لنا بمواهب فنية فى شتى التخصصات ، رأيناهم جميعا مرأى العين وهم يعطون لنا دروسا فى الالتزام والصبر على التدريبات الشاقة، وان لا مكان فى معسكرهم المغلق للمتخاذل أو الكسول أو مثير الفتن والمشاكل، الحب فقط هو شعارهم فى التعامل فيما بينهم وبين اساتذتهم بالاكاديمية او المدرسة، لتصبح معهم اكاديمية الابداع الحقيقية تحت رئاسة خالد جلال، هى نموذجا يحتذى به لكل موهبة حلمت يوما ما بالنجومية الحقيقية ورسالتها السامية .
لقد نجح العبقرى خالد جلال من خلال تلك المسرحية الرائعة التى تجمع ما بين الكوميديا والاستعراض، بأن يتحدى بها مسارح برودواى والعالم اجمع، وعلى مسرح العلمين المشرف والفخر ضمن فاعليات مهرجان العالم علمين الشهير، ليثبت لهم بأن مصر ولادة وذاخرة بالمواهب الفذة القادرة على ابهار الجميع حال توافرت لها الامكانيات المادية والفنية، كما استطاع ايضا من خلال نفس ذاك العرض ان يمسرح الفن ذاته مثلما يحدث فى مسرحة المناهج بالمدارس، ليجعل من ذاك العرض المسرحى بمثابة كورس تمثيل وتنية بشرية مكثف ومجانى على مدار فصلين وبمقدار ثلاث ساعات ، لكل جمهور المتلقى من المواهب الذى يرغب فى شق طريقه بكل حب وعمل وأمل واخلاص ، من أجل تحقيق حلم الشهرة .