العدد 548 صدر بتاريخ 26فبراير2018
إن العرض يحدد لنا بدرجة كبيرة نوعية الاستجابة التي ينتظرها منا كجمهور ونحن نوافق ضمنيا على نوع العلاقة التي يفرضها العرض منذ جلوسنا على المقاعد منذ الدعوة بإغلاق الهواتف المحمولة، إذا قال لنا العرض اشعر.. عطل عقلك.. سنستجيب تلقائيا - مهما كانت المقاومة - كما نستجيب للتواصل مع السيمفونية التاسعة لبيتهوفين وكما نستجيب للوحة ليلة النجوم لفان جوخ، وإذا طلب مننا الشراكة سنتشارك، وإذا طلب التحليل والتفسير سنفعل. إننا نذهب للمسرح لنخضع أنفسنا لهذا النوع من التأثير وهذه الشروط الافتراضية التي يمليها علينا العرض، ولذلك كل إشارة هي بوابة مرور لطريقة من التلقي، وفي النهاية أنا لا أميل لاتهام الجمهور ونعته بالرجعية أو انحطاط الذوق، لأن طفل في سن الخامسة بإمكانه التواصل مع فيلم من أوروبا الشرقية غير مترجم ومتابعته وفهمه إلى حد مربك، الحقيقة أن الأزمة تكمن في الكود الذي يمنحه لنا العمل الفني للطريقة التي سنتواصل بها معه.
السؤال الوحيد الذي ألح على رأسي في ليلة عرض من مهرجان “البقية تأتي - 2B continued” التي قدم بها أربعة عروض متتالية على مسرح الفلكي, هو «ما نوع الاستجابة التي سأتواصل من خلالها مع العروض خاصة وأن الليلة قدمت أربعة عروض مختلفة لا يربطها تصنيف لنوع ولا فكرة واحدة ولا مزاج عام ولا يفصلها أيضا إلا استراحة واحدة، أظنها لا ترتبط بأي سبب فني أو تقني ولكنها بمثابة استراحة ضرورية بين عروض مدتها ساعتين.
كان تقسيم العروض كالتالي: عرض “شهر العسل” وهو عرض درامي إخراج سمر جلال، يليه مباشرة عرض رقص «الغائب» تصميم على خميس، ثم استراحة، ثم عرض رقص آخر “يوتوبيا” تصميم وإخراج نغم صالح، ثم عرض درامي “أنا” إخراج مصطفي خليل، مدة كل عرض نصف ساعة تقريبا، والحقيقة لم يكن يتبادر في ذهني السؤال حول الاستجابة قبل حضور العروض، ولكن المسافات المتفاوتة بين نوعية العروض، وعدم وجود فواصل كافية لتخلص من أثر كل عرض قبل الدخول إلى التالي، جعلني أسأل عن العلاقة، كما أن وجود عرضين للرقص المعاصر كليهما يلح على الفهم من خلال استخدام رموز قريبة وسطحية بالإضافة إلى استخدام الكلام لمدد زمنية طويلة، بل واستخدام الكلام باللغة الإنجليزية وترجمته، بالإضافة لأن العرض الأخير “أنا” هو مادة فيلمية على شاشة عرض، وهو ما جعلني أسأل لما لم ترسلوه لنا عبر البلوتوث ونشاهده ونحن جالسين على المقهى أو في الطريق للمنزل أو غيره ما الذي يدفعني للجلوس في المسرح لمشاهدة مادة فيليمية وإن كانت مستوحاة من كتابة صمويل بكيت كما نوه المخرج.
العرض الأول «شهر العسل» عن نص بنفس الاسم “الكاتب في شهر العسل” لعلي سالم وهو عرض ديودراما، كاتب وزوجته في فترة شهر العسل، يقضيانه في فندق، الزوج يعاني من وساوس شك، فيشعر أن الجميع يراقبه ويدلل على ذلك بعلامات مبالغة فيها وغير منطقية وهو ما يجعل الزوجة تطلب الطلاق، ونكتشف هنا أنها تزوجت من قبل أكثر من زيجة بكتاب وصحفيين وتطلقت منهم جميعا بعد أيام، ثم نكتشف المفارقة الأساسية أيضا أنها عميلة مخابراتية وكل زيجاتها مرتبطة بالتخابر، وبالفعل الزوجة كانت تتجسس على الكاتب وأنه ليس مصابا بالوساوس.
اختيار المخرجة للنص يعبر عن شعور عام بهاجس المراقبة وتداعيه على تبديد القدرة على الإبداع، قدمت المخرجة العرض بواقعية بدءا من الديكور وهو غرفة بفندق والإضاءة التي حافظت على إنارة الخشبة كاملة فيما عدا مرات قليلة ركزت ببؤر على الكاتب أو الزوجة، والحركة المسرحية عبرت ببساطة عن علاقة الكاتب بالفضاء الذي يشكل له هواجس المراقبة ملتزما في أغلب الوقت يمين المسرح جهة الباب في حين أن الزوجة في الناحية الأخرى بجوار البيانو، بينما السرير الذي يحتل منتصف المسرح هو نقطة للتفاوض بين الزوجة والزوج، والتفاوض هنا لا يقترب من العلاقة بمعناها الحميمي قدر ما يعني فرض قناعة أحدهما على الآخر, كثير من خطوط الحركة كانت مرسومة بطريقة تؤدي للإضحاك وهو ما يبدو منطقيا في التعامل مع النص الذي يبني قناعة بأن الكاتب مريض نفسي في البداية ثم يهزم هذه القناعة في النهاية، إلا أن الأداء التمثيلي تعامل مع الحركة ولغة النص - وهي عامية قديمة نوع ما - بنوع الجدية التي حولت العرض من عرض أفضل أحواله أن يصبح كوميديا، إلى مزاج مسلسلاتي، كما أن الأداء بين أحمد رضوان “الزوج الكاتب” والممثلة مها عمران “الزوجة” كان متفاوتا ما بين الكوميدي لدى الممثل والأداء الرصين الجاد لدى الممثلة، والحقيقة أن كليهما جيد، ولكنه متفاوت بدرجة تحدث إرتباك، فمشهد كمشهد رحيل الزوجة الذي يقف الزوج فيه في مواجهة الزواجة وبينهما السرير والحقيبة التي تلملم بها أغراضها وبينما تضع ملابسها في الحقيبة يخرجها هو من ناحية أخرى، هو مشهد مرسوم بطريقة تثير الضحك، ورغم ذلك كان هناك تراجع في أدائه وخوف من أن يضحك، على الرغم من عدد كبير من المشاهد مرسوم حركيا كوميديا وهو ما يناسب النص، فخطوط الحركة مرسومة بطريقة تؤدي لتأكد على هزلية العلاقة بين الزوج والزوجة لتبالغ في خدعة الجمهور بأن الزوج هو المصاب بالوساوس لنتكشف المفارقة فيما بعد. وتجنب الإضحاك جعل الأداء يذهب لأداء المسلسلات التلفزيونية، بالطبع العرض احتاج لهذا الأداء الكوميدي الفاقع لكي يعبر عن هزلية الموقف وهزلية العالم، كما أنه يقوم على مبالغتين هائلتين وبينهما مفارقة الكشف، الأولى أن هناك وهما يقول إن العالم كله يراقب الكاتب، والثانية أن العالم بالفعل يراقب الكاتب، ورغم أن أنظمة المراقبة في العالم كله تزداد خطورة ولا سيما في البلدان الفاشية، فإن المراقبة تؤكد وتغزي شعورا بالنرجسية والأهمية الكاذبة لدى الأفراد، وقد يكون كاتب العصر الحديث هو أكثر تجاهلا من المؤسسات عن ذي قبل، ولعل ذلك يحرم عصرنا من أولئك الكتاب والفلاسفة والمفكرين الذين تحتل مواقفهم صدارة الصحف والأخبار.
من هذه الدراما الواقعية الحادة ننتقل للعرض الثاني “الغائب”، حيث التعبيرية الشديدة، ولعل الجمهور هنا احتاج لاستراحة ليستطيع التحول في الاستجابة من نوع إلى آخر لأن كلا العرضين بالتبعية يفسد تلقي الآخر.
يبدأ العرض براقص واحد على خشبة المسرح يفرغ حقيبة بها عظام في يسار مقدمة الخشبة، وفي عمق المسرح موسيقى حية تتداخل مع موسيقى مسجلة، بحيث يحتل الخشبة شعور بالفقد ناتج من علاقات حركة الراقص والفراغ والعظام والموسيقى حتى يزاحمه الفراغ دخول ثلاث عارضات من الصالة، وهنا تتعقد علاقات الفقد داخل الفضاء الذي أصبح أكثر ازدحاما، ومع ذلك أكثر انعزالية أيضا.
في هذا العرض ننتقل في التلقي إلى أجواء مختلفة لا تحتاج أن نفهم قدر ما نحتاج وفق المنطق الحياتي لأن ندرك شعوريا أن نتفاعل مع الموسيقى ولغة الحركة والأداء التي كانت ممتعة للغاية، تتراوح ما بين الكابوسية الشبيهة بحالات الغرق بين الحدة والعنف والقلق، تتكون عليها تشكيلات حركية تعبر عن حالات جسدية قلقة وحزينة ووحيدة، بعضها شديدة الكثافة، وبعضها فارغ يكرر نفسه ويلح على الشعور ولا يخلق علاقات جديدة.
في مستوى آخر استخدم العرض الكلام “الخطابية”. والحقيقة، إن النص عليه ألا يشرح وألا يفسر بل عليه أن يضيف ويفتح فضاءات أخرى للتواصل، أمسك أحد العارضين “علي خميس” وهو نفسه مصمم الحركة، ميكروفونا وقام بإلقاء مجموعة من الجمل القصيرة باللغة الإنجليزية التي ترجمت في شاشة أسفل الخشبة، وهنا نسأل لماذا الإنجليزية تحديدا خاصة وأن المتحدث عربي والمتلقي عربي، وهنا نقع في عملية ذهنية تدفعنا للتفسير، هل يقصد الاستعمارية العظمى “إنجلترا”، هل يقصد الاستعمار عبر التسليع الرأسمالي، والحقيقة أن دفع الجمهور للتفسير هو دفع ضد عملية تلقي هذا النوع من العروض لأنها تعتمد بالأساس على إثارة مخزون مشترك لتاريخ الجسد وعلاقاته، فتستحث أكواد لغوية مهجورة في أجسادنا، كما أن “النصية المستخدمة في الخطاب المباشر” أضعفت طاقة استقبال العرض، فجاءت تلح على المعاني وتوضح ما لا يجب توضيحه، كما لو كان يحاول تعويض ما أفقدته الحركة من قدرة على التوصيل أو يؤكد على عدم إيمان بقدرة الحركة على التعبير، أو قد يعبر عن خوف من عدم تواصل الجمهور مع الرقص كفن مجرد بالأساس، ولكن الأكيد أن إمساك العصا من المنتصف والخوف من رفض الجمهور والتودد والتوسل لفهم الجمهور قد يسيء لنوع الفن المقدم دون غيره، وهنا يمكن أن نسأل إمكانية حذف النص المكتوب ماذا يضر العرض لو حذفت جمله الخطابية؟! ما هو الأفق الموازي الذي قدمه التواصل النصي، غير أنه ضيق أفق التلقي وحصره في مقولات، دعونا نتخيل لو أن بيتهوفن تخوف لوهلة من ألا تفهم مقطوعته العظيمة أنشودة الفرح، فقرر أن يحول جزءا منها لعبارات! لو فعل ربما لأفقد النص المسموع والمنطوق معا بلاغتهما، حتى التسمية يجب أن تضفي معنى إضافيا وعليها ألا تفسر، فعنوان المقطوعة نفسه “أنشودة الفرح” يضفي معنى مزدوجا للمقطوعة نفسها ولمفهوم الفرح من ناحية أخرى.
استخدم العرض أيضا مجموعة من الأيقونات الرمزية وربطها ببعض، مثل رفع راية بيضاء على كومة العظام، ورفعها مرة أخرى على أجساد العارضين الممددين على الأرض، وهذه العلاقة التي يسهل فك شفرتها من الوهلة الأولى لأبسط عابر، تغري المتلقي أيضا بالتفسير والوصول للمقولة ببساطة كما لو كان يحل أحجية أو لغزا بسيطا، والمقولة التي يمكننا أن نقرأها في الصحف وعلى الفيسبوك وغيره، فيما أن العرض كان يمكن أن يقول ما لا يحصر لو أنه لم يحصر نفسه في الكلمات والرموز المستهلكة، التي تدفعنا بعد لحظة لمحاسبة العرض محاسبة لن تعجب صناعة، سنسأله ما علاقة رفع ساقك اليمنى لأذنك اليسري ودحرجتك بمسألة الاغتراب والسلام الزائف وأن العالم والرأسمالية تتغذى على البشر! ما علاقة العبارات والرموز بالحركة، هذا على سبيل المثال بالطبع، وأنا لا أدافع عن هذا النوع من الأسئلة الغبية، ولكن اللجوء للتوضيح الفاحش وتضيق المعنى الحركي بالثرثرة والرموز الهشة يؤدي بالتبعية لهذا النوع من الأسئلة، الخوف من عدم القدرة على التوصيل من خلال الرقص كفن مجرد، وتوسل فهم الجمهور باستخدام الكلمات والرموز في نمط من العروض جوهر الاتصال فيه حسي وشعوري يرتبط بجماليات الحركة يدفع لهذا النوع من التعليقات التي تزعج مجتمع الراقصين ولكنهم هم من يدفعون إليها عندما يدمرون كود التفاعل مع الجمهور بإدخال عناصر شرح وتفسير. والحقيقة، إننا نختزن كل الأفكار والقضايا بأجسدنا فلا داعي لطرحها كلاما لأننا لا نتوقف يوميا عن طرحها، والرقص لغة لا تحتاج لإثبات من خارجها، وتستطيع أن تكتفي بذاتها، ولكي يقبلها المتلقي كلغة لا بد وأن يؤمن صناعها بأن تستطيع ان تكتفي بذاتها.
في العرض الثالث وهو عرض “يوتوبيا” وهو عرض راقص نقع في نفس النوع من الأزمات المتعلقة بالشرح والتفسير الذي يقضي على كل لحظات المتعة، في لحظة في غاية الجمال على مستوى الصورة والحركة هي عبارة عن كتلة في عمق يسار المسرح يمتد أمامها خط ضوء من مقدمة يمين المسرح، لتنقسم الخشبة إلى مثلثين تقريبا وتمضي الكتلة على الخط وبكل جماليات اللقطة تأتي لحظة هدمها بكلمة “died line”، لتضيق المعنى وتحدده أكثر من اللازم، بالإضافة لاستخدام بروجوكتور يعرض سيدة تبدو عارية ولتعبر عن أزمة الحرية وحرية الجسد، ولا أعرف لماذا بهذه الطريقة، لماذا يقول لنا العرض أنا أتحدث عن الحرية ولا يتحدث عن الحرية! لماذا تقول إنك تتحدث عن كذا وكذا ثم لا تفعل ذلك، تعلق على ما ترغب في فعله ولا تفعله، وهذا فيما يخص الكثير من العروض في المجمل وعروض الرقص المعاصر بشكل خاص!
العرض الرابع “أنا” وهو عبارة عن فيديو بروجكتور على المسرح يقدم فم فتاة تتحدث بعبارات مفككة تماما وانفعالات آلية، والسؤال بديهي لماذا مسرح إذن؟ لا أعترض على المادة الفيلمية أيا ما كانت، ولكن لماذا اخترت المسرح كوسيط ولم تمر هرة حتى على خشبة المسرح لتتفاعل مع الشاشة، ما هو نوع العلاقة التي تود أن تخلقها بين الجمهورو الفتاة على الشاشة التي تتحدث الإنجليزية أيضا مع وجود ترجمة, لماذا الإنجليزية؟! هل هو نوع من الاستعلاء؟ أم اغتراب؟ أم رفض؟ أم ماذا؟! لأي جمهور تقدم العرض؟!
قد يكون جزء كبير من العبء الذي يكبل المبدع ويشكل رهاب ورقابة ذاتية، هو كيف سيستقبلني الجمهور؟ هل سيغضب؟ هل سيفهم؟ هل احتقره؟ هل أبالغ في تقديره؟ هل هو الأقوى أم أنا الأقوى؟ هل ذاتيتي وقضاياي تعنيه؟! هل أنا ملزم بقضاياه؟ هذه المنطقة المحاصرة بالخوف من الجمهور، وما يتبعه من انسحاق له أو استعلاء عليه، وضعت الفنون المعاصرة في منطقة خطرة من الجمهور، منطقة قد تقضي عليها تماما.