التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (4) فرقة يوسف عز الدين

التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (4) فرقة يوسف عز الدين

العدد 795 صدر بتاريخ 21نوفمبر2022

استمر كازينو «سان أستفانو» مميزاً وسط كازينوهات ومسارح روض الفرج، وسبب تميزه – من وجهة نظري - عروض فرقة يوسف عز الدين فيه! ولعل ثقافة يوسف وتعليمه السبب في تميزه وسط فناني روض الفرج! فيوسف عز الدين حاصل على دبلوم الصنائع عام 1914، وتم تعيينه مدرساً بمدرسة بني سويف الصناعية عام 1915، ثم انتقل منها إلى وظيفة في ديوان المساحة حتى عام 1918، عندما هوى المسرح واحترفه، وبدأ اسمه يتألق في روض الفرج، ومنها إلى شارع عماد الدين حيث افتتح كازينو باسمه، ظل علامة فنية مؤثرة في تاريخ هذا الشارع الفني لعقود طويلة.
وعندما نعود إلى روض الفرج ونستكمل موضوعنا السابق، سنجد إننا توقفنا عند نهاية صيف 1926 الذي تألقت فيه فرقة يوسف عز الدين، ولكن القدر شاء أن تنهيه بشبه توقف بسبب وفاة زوجة الخواجة صاحب الكازينو، وهي الوفاة التي جاءت في مصلحة بقية الفرق! وهذا الأمر أوضحه – بصورة تهكمية – ناقد مجلة ألف صنف «محمود الطاهر العربي»، قائلاً في أغسطس 1926: «مصائب قوم عند قوم فوائد: وافى القدر المحتوم مدام خريستو صاحب كازينو سان أستيفانو، وكانت حسناء غنية دون العشرين، فعزّ نعيها كثيراً على الخواجة قرينها وأبى إلا أن يُعلن الحداد في دائرة استعماره في روض الفرج، فعطل هو وأخوه الخواجة يني وأوقفا التهريج فيهما، وأطفئت أنوارهما! وكان أثر ذلك أن حُرم الممثلون والممثلات من أجورهم طوال أيام الحداد. مصائب قوم لكنها أفادت قوماً آخرين تقاطر إلى محلاتهم ثلاث أيام الحداد جميع رواد الروض، واكتظت بهم وجنى أصحابها من الأرباح في يومين ما لم يكن ليتاح لهم في أسبوع! فكم كانت هذه الفقيدة محسنة في موتها!».
طوال مواسم الصيف الثلاثة التالية – من عام 1927 إلى عام 1929 - لم نجد أخباراً منشورة عن فرقة يوسف عز الدين بالصورة المتوقعة لما لمسناه من تميزها السابق في روض الفرج!! وهذا الأمر سببه أحد أمرين: الأول أن الفرقة كانت ناجحة في موسمها الشتوي طوال هذه المواسم، فاستمرت في نجاحها في موسم الصيف خارج روض الفرج! والأمر الآخر أن الفرقة لم تقوَ على منافسة الفرق الأخرى العاملة في روض الفرج في هذه المواسم – وهو الأمر الذي أرجحه – لأن الفرق هي فرق شهيرة مثل: فرقة فوزي منيب، وفرقة علي الكسار، وفرقة عبد اللطيف جمجوم، وغيرها!! وسنتحدث عنها في بقية حلقات هذه السلسلة!
 وبالرغم من ذلك وجدنا بعض الإعلانات المتفرقة عن فرقة يوسف عز الدين في روض الفرج – في هذه المواسم - ومنها ما نشرته مجلة «أبو نواس» في أكتوبر 1927 قائلة: في كازينو ليلاس، تمثل فرقة عز الدين بروض الفرج كل ليلة رواية يقوم بأهم أدوارها الأستاذ يوسف عز الدين، والسيدة نرجس شوقي. وفي يوليو 1929 قدمت الفرقة بكازينو سان أستفانو مسرحية «ملايين الهندية» تأليف محمد شكري، ويدور موضوعها – كما جاء في ملخصها المنشور في تقرير الرقابة - حول: «كشكش رجل من المصريين له ابنة اسمها «نزهة» يهجر وإياها وطنه إلى بلاد الهند مصاحباً معه سكرتيره «زعرب»، ويزوج ابنته من أمير هندي يتخذه صهراً له طمعاً في الجاه والمال - ثم هو من ناحية أخرى يريد أن يتزوج من نورة، وهي من أقرباء الأمير الهندي – ويتم له ذلك ولكن حادثاً يقع في ليلة زفافه! ذلك أن «سبعاً» من الإناس يرنو إلى نورة بعاطفة حب تأخذه الغيرة عليها فيدبر لكشكش مكيدة بأن يضع مادة مخدرة في أبريق الخمر. ويشرب كشكش ومن معه من الخمر ويأخذ كل منهم في الترنح – ثم ينفضح أمر السبع وتنكشف حيلته ويضبط في الدار مختبأ – ويريد الأمير الهندي أن يبطش به، غير أن شهامة كشكش المصري تأبى ذلك فيطلب من الأمير أن يعفو عنه ويكون الأمير له مجيباً. ولكن «السبع» يرفض العفو لأنه لا يستطيع أن يراه يتمتع بمن سلبت فؤاده وأخذت روحه وحياته فيقتل نفسه بواسطة ثعبان كان يخبئه في صدره فيسقط قتيلاً. ويقرر الجميع العودة إلى مصر ومعهم «الراجا» لكي يرى بلاد مصر الجميلة».
ثلاثينيات التألق
ابتداء من الموسم الصيفي لعام 1930 عاد التألق الفني لفرقة يوسف عز الدين في روض الفرج، وبدأت الصحف والمجلات الفنية تتابع عروضها، ومنها مجلة «المجلة الفنية» التي نشرت موضوعاً بعنوان «كازينو سان أستفانو»، قالت فيه: هو أول تياترو يصادفك بروض الفرج وتعمل به فرقة الأستاذ يوسف عز الدين ومطربة الفرقة هي السيدة فاطمة قدري. وقد شاهدنا في هذا الأسبوع رواية «أنا لك وأنت ليّه»، وهي رواية مصرية الحوادث من النوع الأخلاقي الراقي بقلم أحد كبار الأدباء، وضع أزجالها عباس أفندي محمود الممثل بالفرقة. وقد أعجبنا موضوع الرواية وجمال تمثيلها فقد أجاد الأستاذ عز الدين دور «المعلم دعبس»، والسيدة فاطمة قدري في دور «نعمات هانم»، والممثلة النابغة السيدة ماري منيب في دور «الأم» فقد أجادت فيه إجادة تستحق الإعجاب. والمطرب المحبوب محمد أفندي الصغير في دور مصطفى، وقد ألقى في ختام الفصل الثاني مقطوعة جميلة قوبلت بتصفيق حاد. وعباس محمود أفندي في دور فؤاد، والفريد أفندي حداد في دور القبطان فقد أبدع فيه، وشاهين أفندي في دور رفعت بك، وممدوح أفندي في دور «أم أحمد» وقد نجح فيه نجاحاً تاماً، والسيدة «أمينة رزق» في دور «قدم الخير». وجوقة الألحان نالت استحساناً عظيماً، وكان مدير المسرح رياض أفندي القصبجي. ويسرنا أن محمد أفندي حجازي الذي كان يعمل ريجيسيراً لفرقة رمسيس قد انضم إلى فرقة الأستاذ عز الدين.
وقبل أن نستكمل أخبار الفرقة، يجب أن نتوقف عند اسم «أمينة رزق»، لعل القارئ يظن وجود خطأ أو تشابه في الأسماء، لأن من غير المعقول أن الاسم يكون للفنانة الكبيرة «أمينة رزق» بطلة فرقة يوسف وهبي .. إلخ!! والحقيقة الصادمة أنها بالفعل أمينة رزق البطلة الكبيرة!! وتوضيحاً لهذا الأمر وإزالة تعجب القارئ أقول: إن الفنان «بني آدم» يحتاج إلى العمل لتستمر الحياة! وفرقة يوسف وهبي في أغلب سنوات تاريخها، كانت تسافر في الصيف إلى فلسطين وبلاد الشام والعراق وأحياناً إلى أوروبا أو البرازيل لتعرض هناك بوصفها من الفرق الكبرى، وليس في روض الفرج لأنها ليست من الفرق الصغرى! وكانت فرقة رمسيس تسافر بنصف قوتها العاملة توفيراً في النفقات، وتختار أيضاً مسرحيات معينة لا تحتاج إلى أدوار كثيرة العدد من أجل الاقتصاد في الإنفاق!! وفي بعض الحالات كانت الظروف تمنع بعض النجوم من السفر، مما يضطرها للإقامة في مصر دون عمل، لذلك يعمل هؤلاء في أية فرقة مهما كانت مكانتها أو مكان العرض من أجل «لقمة العيش» حتى ولو كانت نجمة كبيرة مثل «أمينة رزق»!! مع ملاحظة أن اسم أمينة رزق لم أجده كثيراً، وربما الإعلان السابق كان الوحيد الذي وجدته!!
ونشرت مجلة «المجلة الفنية» أيضاً في مايو 1930 خبراً بعنوان «فرقة عز الدين بروض الفرج»، قالت فيه: مثلت فرقة الأستاذ عز الدين في يوم الأحد 27 أبريل الرواية الشهيرة «قنصل الوز» للكاتب الكبير الأستاذ أمين صدقي. وهذه الرواية من نوع الكوميدي الراقي، وقد مثل دور القنصل الأستاذ عز الدين فأبدع فيه إبداعاً لا مثيل له. وقامت السيدة فاطمة قدري المطربة المحبوبة بدور «مانولا» فأجادت، وقام عباس محمود بدور «البارون».
أما جريدة «المضمار الرياضي» فقد تحدثت عن فرقة يوسف عز الدين بما هو معروف لنا ولا نريد تكراره، لكن الأهم أنها ذكرت أسماء أغلب أفراد الفرقة، وهم: رياض القصبجي، فاطمة قدري، عباس محمود الدالي، محمد حجازي، ممدوح النمر، صادق علي، حسن الدويني، حسن فياض، زكي الفلكي، محمد سليمان، والمطرب محمد الصغير، ماري منيب، فتحية رشدي، سلمى القصبجي، بهيه حجازي، مرجريت صغير، أمينة محمد.
وفي أواخر صيف 1930 نشرت مجلة «الصباح» خبراً حول مسرحية «صباح» التي مثلتها فرقة يوسف عز الدين بروض الفرج بطولة: فاطمة قدري، محمد الصغير، ماري منيب، عباس محمود الدالي، محمد فؤاد. وهي المسرحية نفسها التي مثلتها فرقة عبد الله عكاشة في مسرح حديقة الأزبكية منذ عدة سنوات! وهذه الملاحظة ستتكرر كثيراً عند يوسف عز الدين وعند أغلب فرق مسارح روض الفرج - التي سنتحدث عنها فيما بعد - حيث إنها كانت تمثل مسرحيات الفرق الكبرى، والتي كانت تعرضها على المسارح المشهورة ومسارح شارع عماد الدين.
وإذا نظرنا إلى موسم صيف 1931 سنجده بدأ مبكراً – وفي الشتاء - بخبر قضائي صادم، نقلته لنا جريدة «أبو الهول» في فبراير قائلة تحت عنوان «قضية ممثل»: «قدمت النيابة العمومية يوسف أفندي عز الدين مدير إحدى الفرق التمثيلية إلى المحاكمة، لأنه في 9 أبريل الماضي بجهة روض الفرج عرض بمسرحه مناظر مخلة بالنظام، وبإظهار رجال البوليس في أثناء التمثيل بمظهر يحط من كرامتهم ويحقر من شأنهم، فقضت المحكمة بتغريمه مائة قرش!! فاستأنف هذا الحكم، وكان أمس الأول موعد نظر هذا الاستئناف، فقضت المحكمة بعدم جواز الاستئناف. وكانت النيابة قد قدمته إلى المحاكمة في قضيتين أخريين، وقضى عليه في كل منهما بغرامة مائة قرش فاستأنف ونظر الاستئناف أمس فحكم فيهما بمثل ما تقدم».
رغم هذه الظروف إلا أن يوسف عز الدين بدأ موسمه في كازينو سان أستفانو منذ أبريل، وحاول أن يصمد – بعض الشيء - أمام منافسة الفرق الأخرى، لا سيما بعد أن ضمّ لفرقة المطرب «حسن سلامة». وقد نشر ناقد مجلة «الصباح» الفني كلمة مهمة عن الفرقة في نهاية الموسم – أواخر شهر سبتمبر – تبين مدى تألق الفرقة واهتمامها بأمور خاصة، وتفاني أفرادها في تقدمها، قال فيها: «كازينو سان أستفانو هو الكازينو الذي يعمل به الأستاذ يوسف عز الدين وفرقته، وأستطيع أن أقرر أن الفرقة تقدمت هذا العام عن العام الماضي فأصبحت لها بعض روايات خاصة بها، وكانت كل رواياتها من قبل هي نفس روايات الأستاذين الريحاني أو الكسار!! والنقص الذي تشترك فيه جميع فرق روض الفرج، هو إهمالها التام وعدم عنايتها المطلقة بموبيليا المسرح، فهم يعنون بالمناظر والملابس ولكنهم يتجاهلون تماماً العناية بالموبيليا، فيظهر مثلاً صالون في قصر ملك أو أمير أو بك أو باشا، فلا تكون محتويات هذا الصالون سوى مائدة خشبية مغطاة وبعض كراسٍ من القش، وأرضية المسرح عارية أو مفروشة بقطعة بساط صغيرة بينما يكون المنظر فخماً لا يتفق مع هذه الموبيليا المتواضعة جداً. وطقم واحد كان يكفي لسد هذا النقص المعيب. وأحب أن أقول شيئاً عن الأستاذ يوسف عز الدين كممثل، وكل ما أود قوله ينحصر في كلمتين «ممثل طبيعي»! فهو يمثل ويلقي النكتة دون تكلف ولا إجهاد في انتزاع ضحك الجمهور، بل هو يعطي النكتة حقها في غير مغالاة ولا تهويل، فيضحك لها الجمهور حينها ضحكاً حقيقياً لا ضحك مجاملة. وفي رأيي أن السيدة «فاطمة قدري» لا أستطيع أن أكتم إعجابي بها بالمنولوج الوطني الذي تنشده ومطلعه:
يا مصري قوم إدِي وقتك
قوم وشد العزم قوم
قوم بقى شجع صناعتك
شُغل بره مالوش لزوم
وحبذا لو اختارت المنولوجات من هذا النوع الوطني. أما «ثومة وطعمة» فثومة كمغنية منولوجات خفيفة الدم إلى أبعد حد، رشيقة جداً، لها صوت جميل. فهي تجذب الجمهور بخفتها ورشاقتها وصوتها. أما طعمة فليس لها ما لثومة من المميزات السالفة فهي تريد أن تجذب الجمهور بالحركات الداعرة كالرقص المبتذل في مناسبة وغير مناسبة. فلتقلع عن ذلك فإن الجمهور يسأم الظرف المصطنع إذا طال تكراره. وهمسة في إذني الاثنتين: مغنيات المنولوجات يجب أن يكن مثالاً لحسن الذوق في ملابسهن وتنسيق شعرهن، وفساتين طعمة وثومة في حاجة إلى التجديد واستبدال «الخياطة» بأخرى أحسن ذوقاً. أما «ماري منيب» فهي ممثلة قديرة، لكن في نوع التراجيدي، فجسمها الروماني وصوتها الجهوري الرنان، ودقتها في مخارج الألفاظ، كل هذه مميزات لممثلة تراجيدية قديرة. و«الراقصة سنية» هل تعرف سنية أن رقص البطن ممنوع؟ وهل يعرف ذلك رجال البوليس؟ إن كانت سنية تعرفه، فلماذا ترقصه وتتحدى القانون؟ وإن كان رجال البوليس يعرفونه فكيف يسكتون عنها في تحدي القانون على هذه الصورة العلنية، ونقطة البوليس لا تبعد عن الكازينو مائة متر؟ هو لفت نظر لا أكثر ولا أقل. «ملاحظات»: المرجو من مدير المسرح ألا يخاطب ولا يسمح لغيره أن يخاطب بهذا الصوت المسموع رجال الأوركستر من المسرح ومن أمام الستار، وأن يريحنا من هذه الصفارة المزعجة التي ينفخ فيها لتنبيه رجال الأوركستر بالبدء في اللحن. جرس كهربائي يوصل من المسرح للأوركستر يغني عن هذا وذاك. ثم هو لا يكلف أكثر من قروش معدودة!

 


سيد علي إسماعيل