التحليل الدراماتورجي(2-2)

التحليل الدراماتورجي(2-2)

العدد 840 صدر بتاريخ 2أكتوبر2023

المفاهيم السابقة للمنظور الدراماتورجي 
 كانت الفكرة الأساسية المتمثلة في قيام الناس بأداء أدوار أمام الجمهور الذي يأخذ تلك العروض في اعتباره ثم يعدل نصوصها لاحقا فكرة موجودة منذ عدة قرون . ويسجل افرينوف في كتابه « المسرح في الحياة Theater in Life « أنه على الأقل مند القرن السادس عشر، لاحظ شكسبير وآخرين التشابه بين المسرح والحياة . ورغم ذلك لم يكن المنظور الدراماتورجي مستخدما بشكل موسع حتى أصبح منتشرا من خلال جوفمان في الستينات . ولم يتضمن إصدار الفترة من 1930-1935 من موسوعة العلوم الاجتماعية التي أشرف على تحريرها سيلجمان و جونسنون أي تدوين حول المنظور الدراماتورجي، على الرغم من أن هناك مفتاحا للدراما، يغطي الفعالية في المسارح . ومدخل النزعة الدرامية عند بورك في الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية، والتي أشرف على تحريرها سيلز، تقدم مصطلحات بورك الخمسة : الفعل act، والمشهد scene، والوسيط agent، والواسطة agency، والهدف Purpose . وترتبط مجموعات من المفاهيم بنسب مثل نسبة المشهد إلى الفعل، حيث يتضمن المشهد المواقف والسلوكيات التي ستصبح واضحة خلال الفعل . ويضع بورك عمله بوضوح داخل تقاليد التفاعل الرمزي بالإشارة إلى مارجريت ميد . 
 ويؤكد برسيت وايدجلي، في مختلف إصدارات كتابهما « الحياة كمسرح Life as Theater “ أن الدراماتورجيا هي دراسة الكيفية التي يحقق من خلالها الناس المعنى في حياتهم من خلال التفاعل مع الآخرين . وبالنسبة لهما، “ المعنى هو الإنجاز الإشكالي المستمر للتفاعل الإنساني وهو محفوف بالتغيير التجديد والغموض. ويؤكد ايدجلي أن بساطة المبدأ الدراماتورجي – يمكن العثور على معنى سلوك الناس في الطريقة التي يعبرون بها عن أنفسهم في التفاعل مع الآخرين الذين يعبرون بشكل مماثل، وهذا يتناقض مع نطاق المنظور وقوته . ومثلما أن المعنى يتم ابداعه والتعبير عنه من خلال التجسيد، ويمكن احياءه من خلال إعادة التجسيد . وقد طور مورينو، الذي لاحظ أن « كل مرة ثانية هي تحرر من المرة الأولى «، الدراما النفسية كوسيلة للعلاج النفسي الجماعي الذي يقوم على إعادة التجسيد . 
 وفي إصدار عام 1992 لموسوعة علم الاجتماع التي اشرف علي تحريرها بورجاتا في مدخل الدراماتورجيا، يسجل وارنر أن الرؤية الفريدة للدراماتورجيا هي أن التفاعل الاجتماعي اليومي العادي يتكون من الأداء الذي يعرضه الأفراد والذي يقدمون أنفسهم فيه . وكما هو الحال عند بريسيت وايدجلي، فان التأكيد على أعمال جوفمان وتقاليد التفاعل الرمزي عند مارجريت ميد ومدرسة شيكاجو . ومن الغريب أن طبعة 2000 من موسوعة علم الاجتماع التي أشرف على إصدارها بورجاتا ومونتجومري ينقصها مدخل حول موضوع الدراماتورجيا . 

التطبيقات المعاصرة للتحليل الدراماتورجي 
 مر أكثر من نصف قرن منذ أن نشر جوفمان التحليل الدراماتورجي، ويستمر التناول في تحفيز وتشكيل البحث العلمي والتنظير عبر توافر الفروع العلمية والمجالات الموضوعية . وقد درس كل بحث قاده المنظور الدراماتورجي مجموعة متنوعة من المجالات المؤسسية والتنظيمية من بينهما الجنازات وإدارة الانطباعات السياسية، الخصوصية التي اكتسبتها الحركات الدينية الجديدة، والحشود الاحتفالية, وتقديم السجناء لأنفسهم، وقواعد الشعور والعمل العاطفي للخدم ومحصلي الفواتير، والبناء الاجتماعي للحركات الاجتماعية واتصالها بالسلطة، على سبيل المثال، فان الحجم يعكس النفوذ المستدام للدراماتورجيا والاهتمام بها . والتسعة عشرة صفحة في هذه المجموعة مقسمة بالتساوي بين التطورات المفاهيمية والبحوث التجريبية للأفكار تتضمن الحركات الاجتماعية والتأطير الدرامي وتفاعل الشرطة/المتظاهرين، وإدارة الانطباع السياسي ودراما الوسائط التي تحجم المخاوف العامة المتعلقة بالإرهاب الداخلي، والجسم الأدائي، وإدارة انطباعات الجسم، ودراما المتاحف، وعرض المشاعر من خلال رباعيات صالون الحلاقة، وعمل الهوية المتحولة جنسيا، واللعب السادي المازوخي، والترميز في دراما التطور الإنساني . وتشير هذه الدراسات مجتمعة إلى أن التحليل الدراماتورجي يظل منهجا نابضا بالحياة بالنسبة للدراسات الاجتماعية، ويبرز تنوع المجالات في الحياة اليومية والثقافية والتنظيمية والمؤسسية . 

انتقادات التحليل الدراماتورجي والدفاع عنه 
 يقدم بريست وايدجلي ومانينج قوائم لمختلف أنواع الذي تم توجيهخ للدراماتورجيا . فبالنسبة لبعض النقاد، فان الدراماتورجيا هي شكل عابر غير منهجي في الاستفسار لا يملك خصائص النظرية المنهجية . ويتفق بريسيت وادجلي على أنه بالنسبة لأولئك الذين يفضلون التحليل التتابعي للسلوك الإنساني والذين يرغبون في استخدام الدراماتورجيا في اختبار الفرضيات، فان الافتقار إلى الافتراضات الأساسية يعد عيبا، ولكنهم يقترحون أن المرونة النظرية للدراماتورجيا نقاط قوتها : 
 في الواقع، نعتقد أن الأمر كذلك لأن الدراماتورجيا ليست موقفا نظريا مغلقا، بل هي بالأحرى طريقة لوصف السلوك الإنساني، وأنها سلوك فكري وإرشادي وإعلامي . 
ويلاحظوا أيضا أن الدراماتورجيا مرتبطة افتراضيا بأشكال الفكر الاجتماعي الأخرى، مثل التفاعلية الرمزية symbolic interactionism، والمنهجية العرقية ethnomethodology، وعلم الاجتماع الوجودي، وعلم النفس بين الشخصي interpersonal psychology، ومختلف النماذج الانسانية في العلوم الاجتماعية . ويقوم ايدجلي بمزيد من التحريف لهذا لهذا النقد بتوضيح أن الدراماتورجيا أداة، ومنظور، ووجهة نظر، وليست نموذجا . 
 والنقد الثاني هو أن الدراماتورجيا لا تقدم مقولات عامة عن السلوك الإنساني. ويقال أنها أداة لدراسة السلوك الظرفي في الثقافة . واستجابة لذلك، لاحظ بريسيت وايدجلي أولا أن فهم الكيفية التي يتفاعل بها الناس في المجتمع ليست إنجازا بسيطا, ولكنها تستمر لكي تشير إلى حقيقة أن السلوك التعبيري للأفراد يتم توثيقه جيدا في الأدبيات الأنثروبولوجية . 
 فالدراماتورجيا، أو على الأقل صياغة جوفمان لها قد تم انتقادها من أجل منهجيتها . ويقال أنها تفتقد إلى الوسيلة المنهجية لاختبار المقترحات عن العالم . ويتفق هانت وبنفورد أنه لم تحدث محاولة للتقديم المنهجي للدراماتورجيا وحددا منهج دراماتورجي نوعي لدراسة الفعل الجماعي والحركات الاجتماعية، ولكن كتابتهما لم تقنع الذين يرغبون في تطبيق التقنيات الكمية على دراسة هذه الظواهر . وقد رد بريسيت وايدجلي على النقاد بأنه لا يوجد شيء مميز في ممارسة الدراماتورجيا . ولا يتطلب كونها حساسة للجانب التعبيري في السلوك أي منهج خاص أو مهارات رقابية . ولكن ينبغي أن يوجد التزام أحادي ومثير للأعصاب في مراقبة أفعال الناس . 
 والانتقاد الرابع هو أن الدراماتورجيا تقلل من تأثير الوحدات الاجتماعية الأكبر على السلوك الإنساني، مثل المؤسسات . واستجابة لذلك، يؤكد بريسيت وايدجلي أنه لا يمكن أن يكون هناك شك في أن سياقات تفاعل الناس مقيدة بترتيبات بنيوية . ورغم ذلك، من خلال الخوض في هذه القيود، تركز الدراماتورجيا على ما يفعله الناس حقيقة ضمن السياقات المتاحة لهم، ويفسر ايدجلي : 
 اهتمام علماء الاجتماع الكلي ليس سوى مجرد خلفية لعلماء الدراماتورجيا الذين يعتبرون أن العمل على خشبة المسـرح أمرا أساسيا بكل الوسائل . فقد تؤثر مسائل الخلفية أو تضغط أو تشجع أو تشترط، ولكنها في التحليل الأخير لا تحدد مسار التفاعل الذي يكون فيه التجديد المفاجأة ممكنين دائما . 
 علاوة علي ذلك يستخدم المفهوم الرئيسي للدراماتورجيا كوسيلة لتفسير ارتباطات الناس ببعضهم البعض علاوة على ارتباطاتهم بالبنيات والمؤسسات التي يتم تعريفهم من خلالها. 
 وقد انتقد مجموعة من العلماء المنظور الدراماتورجي بسبب رؤيته المنهكة ضمنا للطبيعة البشرية، وتصوير الناس على أنهم متلاعبون ومحتالون وكاذبون وشخصيات مخادعة . وقد رد ايدجلي بأن هؤلاء النقاد قد فشلوا في أن يضعوا في اعتبارهم التمييز البسيط بأن البشر ليسوا معبرين فقط، بل واعين غالبا بتعبيريتهم . ويشرح قائلا : 
 بالنسبة لهؤلاء النقاد، فان الصورة الدراماتورجية للبشـر  كمخلوقات معبرة وواعية أيضا بقدرتها على التعبير, تعني أنهم أشخاص مهتمون دائما بالتلاعب بهذا الوعي من أجل التأثير على كيفية رؤية الآخرين لهم . فالإمكانيات تصبـح احتمالات، والاحتمالات تصبح تأكيدات . لذا، إذا كان لدى الناس مصالح ذاتية في أذهانهم عندما يتصرفون بناء على وعيهم الدراماتورجي، فهذا دليل ايجابي أنهم يفعلون ذلك ...ولكن ببساطة لأن الناس ربما تكون لديهم دوافع شريرة في ممارسة الوعي الدراماتورجي، فان هذا لا يعني أنهــم  يفعلون ذلك . فليس كل تقديم هو اساءة تقديم. 
 ويقترح ايدجلي كذلك أن بعض النقاد يبيعون الجنس البشري علانية ويقللون من قيمة هدف التحليل الدراماتورجي . ويعترف بأن ألعاب الخداع والألعاب السحرية والغدر يتم تنفيذها أيضا بطريقة دراماتورجية، وكذلك أيضا الحب والحقيقة والإخلاص والأصالة . 
 في النهاية، النقد الذي يجب أن يسود له علاقة بالمجاز المسرحي . اذ يقول النقاد أن المسرح هو التظاهر وأن الحياة اليومية هي الحقيقية . وقد رد ايدجلي وبريسيت على ذلك بأن الحياة ليست هي المسرح ولا تختلف عن المسرح . انها أشبه بالمسرح . ويوصيا بأن الدراماتورجيا والعلوم الاجتماعية يسقطا عموما كل مزاعم الأنطولوجيا لأن : 
 كل المعرفة المتعلقة بالحياة الاجتماعية هي بالضرورة معرفة تفسيرية . وباعتبارنا كائنات رمزية، فان لدينا القدرة على تفسير ملاحظاتنا والتعبير عنها .. . ولكن معرفتنا محدودة بالرموز الموجودة تحت تصرفنا. حيث ربما يكون هناك عالم حقيقي، فان هذا الادعاء بأن أي نظرية أو نموذج يعكس العالم أو يدركه أو يلتقطه، هو مسألة أخرى تماما . 
 ويقترحا أنه من الأفضل لعلماء الاجتماع أن يتبعوا توصيات جامسون بالتخلي عن هذه القضية المحيرة حول ماهية الواقع ويستبدلونه بالسؤال الذي يمكن التحكم فيه : في ظل أي ظروف نعتقد أن الأشياء حقيقية ؟ . 
الاتجاهات المستقبلية للنظرية والبحث 
 يقدم المشهد الرقمي المتغير بسرعة تحديات وفرص جديدة للتحليل الدراماتورجي . فالحجم الهائل للاتصالات والتفاعلات التي تنطلق في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، الخاصة والعامة، يعني تقريبا أن هناك عدد لا يحصى من الأماكن الجديدة التي يقوم فيها المؤدون والجمهور ببناء المعاني وتفسير الرسائل والانطباعات والتفاعل معها . وسوف يجد الباحثون الذين يستخدمون المنهج الدراماتورجي في دراسة المواجهات والتفاعلات، رقميا، أنه من الضروري تطوير مناهج لمواكبة تضمينات هذه التطورات التقنية . وكا يلاحظ ويتمار وجوتشاك “ لأن ما يحدث بشكل مباشر لن يبقى بشكل مباشر، فاننا يجب أن نحل باستمرار التوترات بين لانهائية الفرص التفاعلية التي توفرها لنا الحياة المباشرة، والنتائج غير المباشرة في الاستمتاع بها «وبالنسبة للمؤدين، فان العالم الرقمي يقدم تحديات جديدة للسيطرة على المعلومات والجمهور الذي يصل إلى العروض . وبالتالي هناك المزيد من الفرص لتشويه سمعتنا من خلال معلومات متناقضة مقصودة أو غير مقصودة . ويملك التحليل الدراماتورجي بيانات غير محدودة، والتي توضح ديناميات وهشاشة الحياة اليومية العادية . وسوف يكون لزاما علهيم مواجهة المأزق الأخلاقي الجديد بعد أن أصبحت الذات العامة والخاصة أكثر ضمنية في العصر الرقمي . 
.................................................
روبرت بنفورد يعمل استاذا في جامعة جنوب فلوريدا . 
نشرت هذه المقالة في موسوعة Interactional Encyclopedia  العدد الثاني عام 2015 – في الصفحات 646-650 


ترجمة أحمد عبد الفتاح