الثامنة مساء.. والمسرح الحالة

الثامنة مساء.. والمسرح الحالة

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018


يرتبط موعد الثامنة مساء في أذهاننا بميعاد افتتاح العروض المسرحية في البيت الفني للمسرح، ولكن مع العرض المسرحي “الثامنة مساء”، إنتاج البيت الفني للمسرح على مسرح الغد، أنت على موعد مختلف، فهو موعد مع مسرح مكتمل الأركان في كل عناصره إخراجيا وتمثيليا وديكورا وأزياء وموسيقى وغناء ودراما حركية وبانوراما سينمائية وفن تشكيلي بالرمال تمثل في شاشة العرض التي كانت تعرض لنا فن الرسم بالرمال، والتي لم أجد لها مبررا لوجودها أو أية دلالات عما يدور في العرض، فهي لم تؤثر سلبا أو إيجابا عليه كما أن صغر حجم الشاشة ووجودها إلى يسار المسرح أفقدها أي تأثير على المتلقي ولكنها في نفس الوقت لم تسبب أي ضرر للعرض سوى إضاعة بعض الوقت في زمن العرض كان من الممكن اختصاره لو استغنينا عنها، ولكن ربما أراد المخرج بها كما أخبرت من قبل أن يبرز في مسرحه كل أنواع الفنون لكي يجعله مسرحا مكتمل الأركان، جميعها عناصر جاءت موحية وموفقة تماما لحالة العرض المسرحي بذكاء وحرفية عالية تحسب لمخرج العرض الفنان هشام علي، إنه لم يكن مسرح بمعناه التقليدي ذي الحبكة الدرامية التي تقوم على ثلاثية البداية والوسط والنهاية، ولكنه هنا ما أسميه وأطلق عليه مسرح الحالة، الذي يأخذ عقل وقلب المتلقي ويدخله في حالة من نوع خاص تفصله عن الواقع وتجعله يتعايش ويذوب مع كل لحظة فيها يفقد فيها قيمة الوقت فتجده لا ينظر إلى ساعة يده كما يحدث في بعض العروض التي يرغب فيها المتلقي لنهاية المسرحية ليخرج منها وينطلق إلى منزله أو إلى أعماله الخاصة، كما أن مسرح الحالة يتميز بأنه يترك العنان للمتلقي ليبحر في رؤية وتفسير العرض وفقا لأهوائه وأفكاره، فقد كانت تيمة العرض المسرحي تتحدث عن فكرة الانتقام وتأثير الظلم على الناس وما قد يحدثه هذا التأثير من إيجابية لدى الشخص الواقع عليه الظلم فيرفض فكرة الانتقام وأن يسعى في الخير ويبقى على شاكلته وطبعه لا يغير الظلم الواقع عليه من صفاته موقنا أن حقه لن يغفل عنه الله سبحانه وتعالى وأن العدالة الإلهية سوف تأخذ مجراها عاجلا أو آجلا، كما نرى في الشخصية التي قام بأدائها الفنان نائل علي الذي يعمل لدى الرجل الذي قام بالاستيلاء على ثروة والده عندما كان صغيرا هو وأخته، ولكنه يتنازل في نهاية العرض عن فكرة الانتقام حيث يرى أنه يخون الأمانة بذلك لأنه يعمل عنده ويشفق عليه من مرضه ويترك الانتقام لله سبحانه وتعالى أو أن يؤثر الظلم عليه سلبيا وعلى صفاته وشخصيته، فيتحول إلى شخص شرير يكيد المكائد وينساق وراء فكرة الانتقام ساعيا بنفسه إلى أخذ حقه دون قناعة منه أو انتظار لفكرة العدالة الإلهية، فيصيبه البلاء ويهلك ويتساوى هنا الظالم والمظلوم في العقاب ونفس الضرر كما نرى في الشخصيتين اللتين قامت بأدائها كل من الفنانة وفاء الحكيم والفنانة لمياء كرم زوجات الرجل الظالم الذي قام بأدائه الفنان محمد عبد العظيم، هذا ما تراءى لي من خلال مشاهدتي للحالة المسرحية الثامنة مساء، جاء الديكور موحيا ومعبرا عن تلك الحالة فكان أول ما يلفت نظرك هي ساعة الحائط المعلقة عند واجهة الديكور والمتوقفة عند توقيت الثامنة مساء ولا تتحرك طوال العرض المسرحي وكأن المخرج أراد أن يقول إن ساعة الظلم تتوقف عند لحظة وقوع الظلم على المظلوم ولا تتحرك ولا ينساها أمد العمر ويتمنى أن تتوقف حياته عندها للأبد وينتهى أجله كما نرى في العرض.. كما جاء الشباك الذي تتدلى منه الساعة في واجهة المسرح، والذي اختاره المخرج ليكون مركزا تدور من خلفه كل المكائد والمؤامرات موفقا جدا في التعبير عن هذه الحالة وعندما قامت الفنانة القديرة وفاء الحكيم في نهاية العرض المسرحي بإسقاط كل حوائط الديكور وكأنها تعلن عن كشفها للعامة عن كل ما يدور في خلائجها من مؤامرات متشفية وشامتة في الحال التي استطاعت أن تجعل زوجها الظالم عليه من وقوع البلاء عليه أيضا، فجاءت هذه اللحظة المسرحية موفقة ومعبرة تماما عن هذه الحالة. كما جاءت لحظة التحطيب بين الفنان محمد عبد العظيم وصراعه مع الفنان المتميز نائل علي وكأنها صراع بين الخير والشر، كما وضح كم المجهود الكبير في التدريب المتقن على هذا المشهد بدون أية أخطاء رغم صعوبته وتعقيده، كما جاءت الموسيقى والأزياء والأغاني والإضاءة في قمة الإجادة للتعبير عن هذه الحالة المسرحية، وقد كان لي تحفظ على مشهد الافتتاحية الذي جاء بأغنية بالملابس الغربية واللغة الإنجليزية جسدتها ببراعة الفنانة المتألقة لمياء كرم التي أدت دور الزوجة الثانية والجنية أيضا، والتي من وجهة نظري لم أجد لها مبررا في عرض شعبي فولكوري يتسم بالأجواء واللهجة الصعيدية وينطبق هذا أيضا على فتاة الباليه الموهوبة التي استخدمت في التعبير الحركي في مناطق معينة في العرض المسرحي من خلال أدائها لدور الجنية.
وأخيرا نتحدث عن المباراة التمثيلية في التنافس الشريف بين الممثلين في تقمصهم وبراعتهم التمثيلية كل في دوره، فكانت الفنانة القديرة وفاء الحكيم في أوج تألقها وتقمصها في شخصية المرأة المتسلطة الماكرة واستخدمت كل أدواتها صوتيا وحركيا في إتقان التعبير عن روح الشخصية والتعبير الفائق الجودة عن أعماق وخلجات الشخصية باحترافيتها وخبرتها المسرحية الكبيرة وهذا ليس بغريب أو مثير للدهشة من نجمة مسرحية كبيرة لها باع وتاريخ كبير في مجال المسرح، كما جاء الفنان محمد عبد العظيم في قمة وأوج تألقه في إجادة تقمص تلك الشخصية الصعيدية وإتقان التعبير عن الشخص الظالم كما أجاد ببراعة التعبير عن ما يدور في داخل أعماقه من شعور بالنقص والحقد لعجزه ومرضه الذي جعله قعيدا لا يستطيع ممارسة ظلمه كما اعتاد سابقا وجعله تحت رحمة وحوجة ورعاية الآخرين ورغبته وأحلامه في الحركة والشفاء التي ظهرت في مشهد الحلم وتخلصه من الكرسي المتحرك ورغبته في الانتقام من خلال مشهد التحطيب، فقد نجح في التعبير عن روح الشخصية التي يقوم بأدائها مستخدما كل أدواته التمثيلية صوتيا وحركيا وجسديا، كما أنه أجاد التعبير عن حقده الدفين وعصبيته من خلال نظرات عينيه بقيامه برعشة عصبية معينة بعينيه تدل على كل ما يدور في أعماقه من شر دون كلمة واحدة مما يدل على أنه قد قام باستذكار دوره جيدا والعمل والتدريب عليه كما ساعده كثيرا في ذلك جودة النص المسرحي وحسن الكتابة المسرحية للشخصية، كما جاءت الفنانة المتألقة والجميلة لمياء كرم في قمة تألقها في دورها المركب الذي أدته ببراعة منقطعة النظير خاصة عندما جسدت الفتاة البلهاء والعرجاء ببراعة تقمصها ودون خطأ واحد لدرجة أنني أشفقت عليها خوفا على حفاظها على هذا العرج طوال العرض المسرحي بحركة صعبة ملتوية لمشط قدميها طوال ليالي العرض؛ مما كان قد يعرضها لأضرار جسديه، ليتضح في النهاية أنها فتاة سليمة وذكية لا تعاني من أي شيء وفقط كانت تقوم بخداع كل من حولها من خلال إثارة الشفقة حولها، كما أجادت التعبير عن نظرية الكيد والمؤامرة من خلال الحوار الذي كان يدور دوما مع أخيها الذي كان يعمل عند زوجها وإظهار الاتفاق معه على الانتقام من الزوج، وكان الفنان نائل علي هو من قام بدور أخيها ذاك الفتى الذي تعشقه النساء والذي يحمل الكثير من المشاعر المتناقضة لكل من حوله وبحنكته ودهائه في خداع كل من حوله وقد أجاد إلى حد ما التعبير عن تلك الشخصية المتناقضة في مشاعرها ولكن تحفظي هنا جاء على أنه لم يستطع أن يشعرنا من خلال أدائه على لحظة تحوله في دوره المركب من فكرة الانتقام من سيده الذي يعمل عنده إلى فكرة الاستغناء عن الانتقام بل والتعاطف معه فقد كان أداؤه طوال العرض يسير بوتيرة شعورية وصوتية نمطية واحدة رغم إجادته للدور من الناحية الشكلية والتعبيرية ولكنني صدقا وحقا لم أشعر بحبه واجتهاده للدور من خلال أدائه كما لمست هذا الحب والاجتهاد لدى زملائه من الممثلين بالعرض المسرحي فجاء أدائه أقلهم في المستوى، كما جاءت اللهجة الصعيدية قمة في الإتقان والمثالية تحسب لصالح مصحح اللهجة المتمكن.
كل هذا السرد المطول مني يعتبر ملخصا لعرض مسرحي مكتمل الأركان كحالة مسرحية يراها المتلقي بوجهة نظره هو لا بوجهة نظر المخرج أو أبطال العرض، فهي حدوتة مسرحية مكتملة الأركان في عناصرها من ممثلين وديكور وأزياء وموسيقى وأشعار، جاءت جميعها مكملة لبعضها البعض وتشبه السير الشعبية، يفسرها كل منا حسبما تقوده أهواؤه وحالته الشعورية وأفكاره ومبادئه. “الثامنة مساء” يعد تجربة مسرحية موفقة لمخرج العرض وتحسب له لا عليه، وتعلن عن مولد مخرج مسرحي أكاديمي ومتميز له رؤية فنية ورسالة مسرحية.


أشرف فؤاد