«المقام».. طقسية تفجر طاقات الممثل

«المقام».. طقسية تفجر طاقات الممثل

العدد 654 صدر بتاريخ 9مارس2020

يعد المخرج المسرحى المتميز «سعيد سليمان» واحدا من المخرجين القلائل الذين يمتلكون (مشروعا مسرحيا) خاص بهم, وبالإضافة الى أن «سعيد سليمان» واحد من هؤلاء القلائل, فهو أيضا يمتلك ناصية مشروعه, ويعمل عليه بجد ودأب, ويمثل كل عرض من عروضه المسرحية لبنة جديدة تساهم فى تطوير هذا المشروع الذى يعى صاحبه ملامحه وأبعاده بشكل جيد, وربما ذلك ما جعله يقوم بكتابة النصوص التى يقوم بإخراجها فى السنوات الأخيرة , وتعكس بعض ملامح مشروعه الذى يشى بغرامه بالطقوس على اختلافها, وكذلك باستخدامه للتعبير الجسدى للمثل كبديل مكثف ـ قدر الإمكان ـ عن الحوار الذى قد تتجاوزه اللغة الجسدية بقدرتها على التعبير, ومن ثم يحتاج الممثل الذى يعمل مع «سعيد سليمان» الى كثير من التدريب ليس فقط على النص, بل على فنون الآداء واللياقة البدنية أيضا, ويجعل الممثل يعيد اكتشاف قدراته الذاتية من جديد.
وفى تجربته الأخيرة التى خاضها مع الثقافة الجماهيرية عبر «فرقة الفيوم « المسرحية قدم عرض «المقام» من تأليفه وإخراجه, وشارك به فى المهرجان المسرحى لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيدِ, وفيه يواصل مشروعه القائم على عدة محاور ترتكز على التجريب الذى اتخذ منه نهجا مغايرا لمشروعه الذى جعل من الطقوس المختلفة مادة له, بما تتيحه تلك الطقوس من الإعتماد على اللغة الجسدية للممثل للبوح بأسرار ودلالات ورموز الطقس الذى لا يبوح بكل أسراره عبر اللغة الصوتية, ومن ثم يظل كل طقس يحتمل التأويلات المختلفة التى لا يبوح بها الا لمن جاهد فى تفسيره وحاول سبر أغوار إشاراته, ومن هنا كانت أعمال «سعيد سليمان» فى غالبيتها لا تعتمد على نصوص تقليدية تلعب فيها الكلمة الدور الأكبر, بل تعتمد على نصوص تلعب فيها لغة الإشارة الرمزية دورا محوريا, ومن ثم أيضا يبرز دور الإرتجال فى تلك الأعمال, وقد لاحظنا ذلك من قبل فى كل أعماله وآخرها عرض «شامان» الذى قدمه بمسرح الغد.
وفى عمله الأخير «المقام» يسير بثقة على نفس نهجه داخل مشروعه الذى يعتمد على تفجير أقصى طاقة إبداعية لدى الممثل, وكما فى أعماله السابقة التى يحاول فيها جعل المتفرج جزء من الحالة المسرحية التى يقدمها فى حدود ما يتيحه مكان العرض, فهو فى تجربته الأخيرة يمزج بين الممثلين والجمهور خارج المسرح , فالكل يستعد للمشاركة فى الإحتفال بمولد صاحب الضريح الرابض فى منتصف خشبة المسرح, واختيار المؤلف/ المخرج للمولد يحقق له تواجد فئات مختلفة من البشر, ويحقق الطقسية الترميزية وهى الخامة التى يفضل المخرج تشكيل نسيج عروضه منها. ومن هذا الحضور الممتزج من المتفرجين, وصانعى المولد / الممثلون, يعاد تقسيمه الى فئتين رئيسيتين داخل المسرح, تجلس إحداها فى صالة العرض وهو الجمهور الحقيقى, بينما تتناثر الفئة الأخرى بين المتفرجين قبل أن تصعدخشبة المسرح حيث يربض المقام, إن تلك الفئة هى التى تشارك فى إحياء المولد, وكل مولد, وتتألف من ( الغازية, المهرجة, النشالة, والمجذوب, المتحرش, العبيط,ضاربة الودع, الفتوة, المثقف الذى تفصله عن الجنون شعرة واهية, والقادم ليرمى بحمل همومه لصاحب الضريح, وغير ذلك من البشر المنهكين من حمولهم), وما إن تبدأ طقوس المولد حتى يكتشفون عدم وجود صاب الضريح فى مرقده, مما يجعلهم فى ورطة التهديد بإلغاء تلك الإحتفالية التى يحقق منها الجميع مأربه, ومن ثم كان لابد الخروج من تلك الأزمة بالبحث عن ولى يشغل الضريح مؤقتا لتتم إحتفالية هذه الليلة, ويقع الإختيار على أحد المتفرجين, ويتم استدعائه لصعود خشبة المسرح, ليتم التأكيد مرة أخرى ـ بعد الإمتزاج الذى حدث خارج المسرح ـ على أن الجمهور هو جزء لايتجزء من الحدث بما يتضمنه ذلك من دلالة. وفى النهاية يقع الإختيارعلى المثقف/ المجنون ليحل محل الولى, ويتم تنصيبه, يتجمع حوله المريدون من طالبى البركة الذين يأنف منهم جميعا ويصفهم بالتفاهة والحقارة, ويطرح عليهم لعبة تتلخص فى تحويلهم ـ عبر بركاته ـ الى شخصيات أخرى من التراث العربى والإسلامى, لتصبح الغازية / رابعة العدوية, النشالة/الأميرة ذات الهمة, المهرجة/ ملاك, المتدين المرعوب/ الشيطان, العبيط/ الحلاج, المداح/ ابن عربى , والمتحرش / مجنون ليلى قيس ابن الملوح, وآخر أبو زيد الهلالى, وآخر أبى القاسم, لتصبح الشخصيات مختارة بعناية بل ومن أعلام العرب, وأصحاب المقامات الرفيعة, وحين يرغب المثقف / المجنون فى استكمال اللعبة الوهمية وقيادتها تنقلب عليه الشخصيات الجديدة, بل وتحتقره ولا تمتثل لأوامره, وحين ترغب تلك الشخصيات فى ممارسة ذاتيتها فى أثوابها الجديدة يأتى رجل الأمن صارخا فيهم منهيا اللعبة, ويكنس خشبة المسرح من آثارهم, آمرا بإعادة تركيب أجزاء الضريح التى سبق وتم تفكيكها, وهنا يطل علينا «سعيد سليمان» المؤلف / المخرج بأطروحته الفكرية المضمنة داخل عرضه المصاغ ببساطة السهل الممتنع, لتتضح شفرات رسالته متعددة الأوجه داخل تلك اللعبة الشعبية البسيطة.
إن ضلوع المثقف بدور صاحب المقام يشى برؤية المؤلف/ المخرج لدور المثقف ـ رغم جنونه البادى ـ فى ضرورة قيادة المجتمع من حوله, فهو الوحيد ـ وفقا لتلك الرؤيةـ القادر على تحويل هوامش المجتمع من الناس ـ عبر الثقافة ـ الى شخصيات مؤثرة فى الواقع كالشخصيات المستدعاة من التراث, وإذا كان المؤلف / المخرج يعى المقاومة التى سيواجهها ذلك التحول إلا أنه سينجح فى النهاية, ويتبدى وعى «سعيد سليمان» لحقيقة واقعه فى عدم سماحه باستكمال تلك اللعبة حتى على مستوى الحلم داخل العرض, لأن استكمالها يعنى وجود مجتمع يوتوبى, وهو ما لن يسمح به النظام الأمنى فى أى مجتمع لأن ذلك سيؤثر على دور ذلك النظمة والأنظمة المشابهة فى أى مكان, بل سيؤثر على وجوده فتلك اليوتوبية لاتحتاج لأى دور أمنى, ومن هنا جاء دخول رجل الأمن الى خشبة المسرح آمرا بإنهاء اللعبة التى تهدد وجوده المستمد من وجود الهوامش والحرافيش الذين تسهل قيادنهم, بل وقام بنفسه (رجل الأمن) بكنس أى أثر للشحصيات الجديدة من على ارض الواقع الجديد, وبكل حمية طلب عودة كل شيئ الى ماكان عليه وإعادة نصب الضريح حتى ولو لم يكن تحته سوى الوهم, ولتعد الشخصيات الى هامشيتها الأولى بكل مساوئها حيث أن مثل تلك الشخصيات من السهل السيطرة عليها وحكمها وفرض سطوته عليها إذ لاقبل له فى مواجهة الشخصيات الأخرى وستسبب له المتاعب لو تواجدت حتى كحلم فى رؤوس الناس, وها هى قد رفضت الإنصياع للمثقف الذى استدعاها, لتعكس تلك الرؤية وعى «سعيد سليمان» وامتلاكه لرؤية تجاه واقعه وهى رؤية تفرض احترامها حتى لمن يختلفت معها.
وقد صيغت تلك الرؤية ببساطة أدت الى تفاعل جمهور العرض معها, وقد كانت فرقة الفيوم المسرحية فى آدائها على مستوى الوعى بحمل تلك الرؤية وتجسيدها حية عبر قدرات آدائية كبيرة تؤكد على رسوخ أصحابها فى مجال التمثيل, وجاء الفنان الكبير «محمود عبدالمعطى» متلبسا شخصية المثقف المجنون منذ اللحظات الأولى خارج المسرح ومع اندماجه وامتزاجه وسط الجمهور وتفاعله معهم بصورة تجعل من المستحيل معرفة شخصيته الحقيقية, إن هذا الفنان معجون بالموهبة, ومنحه الله منها (من وسع) فمن يراه فى شخصيته تلك لا يمكن له أن يصدق أنه هو نفسه صاحب دور المفتى فى عرض الموسم الفائت «طقوس الإشاراتوالتحولات» لقد وصل بنضجه الفنى الى القدرة على القيام بأى الأدوار وبنفس الكفاءة, والفنان الكبير «محمد طرفاية» أحد أعمدة الفرقة الكبار جاء فى دور الشحات القعيد وكأنه خلق هكذا, إن «طرفاية» مع الخبرة لم يعد يقوم بالتمثيل بل يقوم بالتجسيد الفنى وأصبحت لديه المهارة الكافية لإستدعاء الشخصية عبر الذاكرة الإنفعالية بكل يسر, ولم تتح مساحة شخصية الغازية للموهوبة للغاية «جيهان رجب» لإظهار قدراتها التمثيلية المتوهجة دائما, والتى ألهبت بتوهجها شخصية «مؤمنة» فى «طقوش الإشارات» من قبل, كما تألق فى حدود الدور المرسوم له كل من (مجدى محمود, هاجر نعمان, منة الله بدوى, عادل عويس, أمير عبدالمنعم, مراد مروان, سهى أبو القاسم, أميرة فتحى قطب, محمود حربى, هارون على أحمد, حسام مجدى, أحمد أشرف, مصطفى محمد, رانيا مصطفى, جلال رضوان) كما جاءت أشعار «محمد حسنى ابراهيم» كجزء من نسيج الحدث, أضفى عليها «محمد الوريث» بألحانه الشعبية الملائمة لجو الحدث بعدا جماليا رائعا, وحرص مصمم الديكور»محمود الغريب» على أن يكون تصميمه للمقام غير معوق لحركة الممثلين سواء قبل أو بعد تفكيك أجزائه , كمان كان اختياره للون الأبيض معمقا للبعد الروحانى للمولد الشعبى.
إن «سعيد سليمان» كمخرج صاحب مشروع مسرحى مغاير هو مكسب بلا شك لمسرح الثقافة الجماهيرية نتمنى ألا يبخل على جمهور الأقاليم بإبداعه المتميز هذا بعد تلك التجربة.


أحمد هاشم