العدد 629 صدر بتاريخ 16سبتمبر2019
حين يصبح الواقع المتأزم في سوريا روتينا نعيشه ونتقبله كجزء من حياتنا اليومية، يصبح من الطبيعي للفنون بكافة أشكالها تلفزيون وسينما ومسرح أن تتخذه مادة درامية تستند لها ، لكن يبقى المسرح العالمي بحبكته الدرامية ورغم محلية أي عرض سوري، هو المحرك الرئيسي لكتابنا حتى لو بانت تلك النصوص محلية الإنتاج.
نسعد كثيرا حين يقدم عرضاً مسرحياً في سوريا، يخوض في البنية الاجتماعية للشعب السوري أثناء الأزمة خاصة بعد أن بات جزءاً كبيراً من شبابه خارج سوريا لأسباب عديدة من أهمها الخوف من خدمة العلم أو ما يسمى (الخدمة العسكرية)، التي أجبرت المئات منهم للاختفاء القصري سواء داخل منازلهم في سوريا، أو المغادرة كلياً لخارجها، وهذه القضية بات لها تبعاتها على السوريين وعلى علاقاتهم العائلية والاجتماعية وعلى رأسها متلازمة (الخوف والحب والزواج)، من هذه النقطة بالذات يبدو عرض عروة العربي (طميمة) الذي يقدم حاليا على مسرح القباني بإشراف مديرية المسارح والموسيقى عن نص كتبه شادي كيوان، عرضاً هاماً بالنسبة للجمهور السوري وخاصة الشباب منهم، رغم أنه عرض لا يقدم حلولاً بقدر ما يطرح اشكاليات، والطميمة كلمة تركية تعني لعبة الغميضة أو لعبة الحرب ..
ولكن النص الذي قد يبدو للبعض مفرطاً في محليته حين قدم قصة أصدقاء العمر الثلاثة الذين تجمعهم مئات الذكريات، والذين فرقتهم الأحداث بينما سيجمّعهم القدر مرة أخرى في منزل سيف الثلاثيني المختبىء داخل منزله يلعب دوره يزن الخليل، وصديق العمر طارق الذي غادر سوريا منذ عامين في زورق من زوارق الموت إلى ألمانيا يلعب دوره كفاح الخوص، والصديق الثالث حسام الذي بات اليوم واحداً من ملوك الحرب يلعب دوره كرم الشعراني، سيعتمد في تيمته الأساسية على قضية التصارح فيمن هو (العاشق والمعشوق، التارك والمتروك) وهي تيمة قديمة جدا سبق للمسرح العالمي وأن قدمها بل أكثر من ذلك سبق للمسرح السوري وأن عرضها تحديدا في العام 2002 من خلال العرض المسرحي الأشهر للمخرج والفنان بسام كوسا بعنوان (عشاء الوداع) عن نص لكاتب ألماني، قام بترجمته إلى العربية الدكتور نبيل حفار وحول لاحقاً إلى العامية لضرورات العرض ..
يدور العملين (طميمة وعشاء الوداع) كنص حول فكرة مشتركة، ألا وهي الرغبة بالاعتراف بعلاقة حب جديدة في مقابل إنهاء علاقة سابقة، على أن يتم هذا الاعتراف بشكل لا يؤذي أحد من الأطراف، في مسرحية طميمة، سيف أحب ليلى خطيبة صديقه طارق الهارب منذ عامين خارج سوريا، لكنه لم ولن يتمكن من الاعتراف بحبه لها لأن ذلك الاعتراف قد يؤذي صديقه ويدمر علاقته به، بينما حسام الذي تربطه علاقات هامة بشخصيات سورية تمنحه القدرة على الحركة داخل سوريا، يستغل غياب طارق ويحاول أن يستميل ليلى التي ترفضه والتي يتهمها لاحقاً بأوصاف سيئة، وبين هؤلاء جميعا تأتي نايا التي تلعب دورها مرح حجار الحبيبة السابقة لحسام والتي سبق وأن تخلت عنه، كل الثنائيات في العمل تريد أن تتخلى عن بعضها البعض، هكذا هي الطميمية ليس فقط مجرد لعبة أختفاء صغيرة، بل هي لعبة الاختباء الكبيرة لهؤلاء الشباب الثلاثة ليس فقط داخل أنفسهم بل أيضاً داخل هذا العالم الواسع وهمياً الضيق جدا آنياً، وتأتي لحظة التحول الدرامي في هذا العشاء الاخير عشاء الوداع أو عشاء ليلة ميلاد سيف الذي خططت له نايا برفقة كل من طارق وحسام، وتحدياً أثناء المكاشفة التي تبدأ حين يعترف طارق العمود الفقري للعمل والذي يتجنب الجميع خسارته، بأنه تزوج في ألمانيا وينتظر مولودته الجديدة هناك .
صحيح أن الخط الدرامي للشخصيات وخاصة (العاشق والمعشوق) يختلف تفصيلياُ عن عشاء الوداع، لكن تبقى فكرة المكاشفة والمصارحة خلال هذا العشاء واحدة، و يحسب لشادي كيوان انه كتب نصاً واعياً ومحبوكاً يغوص في قلب الوجع السوري وتفاصيلة بطريقة كوميدية وربما عبثية بحيث يظهر للجمهور وحتى ممن لديهم اطلاع بالمسرح العالمي على أنه نص محلي أصيل.
الفرق الأكبر بين العملين يأتي إخراجيا، ففي حين أحتفظ بسام كوسا بتفاصيل النص فقسم العرض إلى قسمين منفصلين بحيث وضعت طاولة العشاء في مقدمه كل قسم منه، اختار عروة العربي جمع شخصياته الثلاثة على طاولة واحدة، كما أنه استعان بسينوغرافيا رغم أنها تبدو بسيطة للغاية (غرفة متواضعه تطل على جبل قاسيون المختبىء خلفه الخزانة الخشبية التي ستختبىء بداخلها ليلى طيلة فترة العشاء)، إلا أنها جعلت من حركة الممثلين خارج الخشبة محسوباً تماماً ولا تسمح بمغادرتهم وعودتهم إلا من خلال باب جانبي على إعتباره باباً لتلك الشقة، كما يحسب للمخرج قدرته على جعل إيقاع العمل متناسباً جدا مع الأحداث، بحيث ظهر العرض مترابطا ومحسوباً زمنياً بدقة، مما يجعله عرضاً نموذجياً لطريقة ضبط الايقاع المسرحي والتحكم في لحظاته المجانية، ولكن يؤخذ على العرض ربط احداثه بفصل الشتاء، فهل اختار صنّاع العرض فصل الشتاء ليقولا للجمهور في الخارج ان السوريون يعيشون أزمة مازوت خانقة تمنعهم من الدفء، الا تكفي مثلا أزمة الكهرباء القاتله التي نوه لها العرض مراراً وتكراراً، أوليكتشف أحد أبطال المسرحية أن حبيبته قد نسيت مظلتها في المكان، أو لينفعل الممثل ويرمي بالمدفأه القديمة .
وبعيدا عن النص والإخراج أظهر العرض المسرحي مواهباً فنية نفتخر بها، بعضها معروفاً سابقا بالنسبة للجمهور السوري مثل كفاح الخوص وكرم شعراني، وبعضها الأخر مازال جديدا مثل الممثل الموهوب يزن الخليل والجميلتين مرح حسن ومرح حجار، وربما تكون تلك العروض فسحة حقيقية للجمهور السوري ليتنفس الصعداء خاصة حين يرى نفسه في تلك العروض .