بعد آخر رصاصة أنصاف الرجال وبقايا النساء

بعد آخر رصاصة  أنصاف الرجال وبقايا النساء

العدد 810 صدر بتاريخ 6مارس2023

تأتي التجربة العبقرية «بعد آخر رصاصة»، التي يقدمها مسرح الغد الآن، تأتي كحالة إبداعية تجاوزت حدود المألوف، تشتبك مع وحشية الواقع وقسوة الحرب وانتهاك الإنسان، العرض يبدو استثنائيا نادرا، الخطايا تعانق الآثام، السقوط يهفو إلى الحضيض، والفن يرفع راية العصيان - -، التأليف للكاتب العراقي المتميز علي عبد النبي الزيدي، الذي أهدى المسرح المصري ثلاثة من نصوصه المدهشة « عودة الرجل، قمامة، جيل رابع «، تلك النصوص التي قام بإعدادها المخرج الكبير شريف صبحي، ليواجهنا بصرخة مدوية في وجه عالمنا المختل، يدين بها الحرب والموت والقتل واستباحة أرواح وأجساد الأبرياء، وفي هذا السياق كانت المسرحية مختلفة في طرح تساؤلاتها، مدهشة في أسلوب مواجهة الشخصيات للاختيارات الصعبة، القيم الإنسانية هشة وضعيفة، والوجود أقوى من البشر، العالم من حولنا غابت عنه إيقاعات الحس بالمأساة، وأصبح ذلك الغياب مفجرا لشراسة الوجود، بكل ما فيه من قسوة وتشويه وتناقضات دفعت الإنسان إلى السقوط في هاوية عذاب وحشي. 
كشفت المسرحية عن روح المخرج شريف صبحي، الذي امتلك وهج الفن وبريق العذاب، وتبلورت أبعاد التجربة عبر منظومة جمالية تجاوزت المفاهيم التقليدية، واتجهت إلى تقنيات ما بعد الحداثة، حيث الصورة المفككة، المعروضة بشكل غير منطقي، والمشاهد التي تتباعد عن مفاهيم التصاعد الخطية، لحظات القسوة تبدو مخيفة عنيفة ، فقد تمرد المخرج على هيمنة النص والحوار التقليدي، ومنحنا أفكار محسوسة تضم كل أبعاد الحركة والحدث، فلامسنا تلك الحالة التعبيرية العارمة، التي رسمت حدود وأشكال الفضاء المسرحي، ودفعتنا إلى قلب مسرح القسوة، الذي حرر القوى الكامنة داخل أعماق المتلقي المسكون بالقيود الاجتماعية والسياسية والنفسية، حيث العزف القاسي على أوتار الوعي، وتحطيم القوالب الجامدة، التي تكرس للقهر والاستبداد، واستلاب روح الإنسان وجسده، وإذا كانت لغة التزييف السياسي يتم تصميمها، لتجعل الكذب يبدو صادقا، والقتل محترما، فإن المسرحية تحولت إلى أيقونة إنسانية رفيعة المستوى، تدين انهيار القيم البشرية، وقتل أحلام الناس ومشاعرهم، ليصبحوا أطلالا حمقاء، يعبث بهم الموت والغياب . 
تتحول الكوريوجرافيا ولغة الجسد وتيار المشاعر وتفاصيل صورة المشهد المسرحي، إلى لغة جديدة تمثل أساسا للتجربة الدرامية، التي ارتكزت على تضافر الوسائل البصرية والسمعية في آن واحد، اللحظات الأولى تأخذنا إلى شاشة السينما، حيث إيقاعات الحياة، الموسيقى، السماء والنجوم البحر والشمس والأحلام، البشر وعقائدهم، الأرض والحرب، الضوء الأحمر يعانق الصرخات وسقوط المعنى والأجساد، النص الموسيقي الخلاب يشاغب الحركة، والتشكيل السينوغرافي يأخذنا إلى ذلك المكان الموحش، الذي كان في الماضي بيوتا دافئة تضم أزواجا وزوجات وعلاقات وأحلام، السلالم الحديدية العالية تشاغب الحبال القوية القاسية، الأحداث تدور في العمق و اليمين واليسار، وعلى المستوى المرتفع الذي يبعث دلالات شاهقة المعنى، وفي هذا السياق نتعرف على تفاصيل حياة ثلاث عائلات سقطت بقوة في حضيض مخيف، مفارقات الإبداع تأخذنا إلى اختصار بليغ لهزائم البشر وبشاعة الحرب والسقوط الكامل للمعنى، العازفة الصغيرة تبعث تيارات الشجن والأحزان، اسمها مظلومة - -، أبوها يتاجر في أطراف الموتى، أنجبت أمها طفلا، فقرر الأب أن يقطع ذراعه، كي يصبح شحاذا فيحميه من الحرب، الموسيقى تعانق الحركة والزوج القادم من الجحيم، يعود إلى بيته - - يجلس على كرسي متحرك فقد أصبح نصف رجل، التقى بأمه وزوجته وكان اللقاء يفوق حدود التصورات، أدرك أن البيت أصبح مكانا للدعارة الرخيصة، أشباه الرجال مع نساء  مشوهات الأعماق، الأم رفضته بشدة، والزوجة طردته وأرادت قتله، وتأتي العائلة الثالثة لنتعرف على العروس التي ظلت تنتظر زوجها بفستان الزفاف، عشرون عاما مضت، وهي الآن تسأله عن رجولته ؟ أخبرته ببساطة أن النساء خرجن عاريات، ودخل الرجال بيوتهن، بعد أن أصبحت الرذيلة سببا في ديمومة الإنسان، كلهم لا يعرفون لماذا دخلوا الحرب، أرادت أن تراقصه ويعزف لها - -، فلم يستطع، أخبرته أنها لا تزال تحلم بصدره ودفء أنفاسه وسحر أحضانه، لكن رجولته ضاعت في صناديق الذخيرة، بينما قتل الحرمان جمالها وجسدها، التقاطعات المخيفة تمتد والمفارقات تبعث تيار التساؤلات، وهكذا تنطلق صرخة المولود ويقطعوا ذراعه، لتشتبك الصرخة مع أغنية النهاية، التي تنادي ضمير الكون . 
شارك في المسرحية النجوم الكبار المتميزون محمد دياب، طارق شرف، إبراهيم الزهيري، وآسر علي، مع النجمات الجميلات مي رضا، وفاء عبده، إيناس المصري، إيمان مسامح، والجميلة الصاعدة مريم سعيد . 
كان الديكور لمحمد هاشم، والموسيقى لهشام طه، والأزياء لدينا زهير . 


وفاء كمالو