العدد 628 صدر بتاريخ 9سبتمبر2019
“شباك مكسور” هو العرض الذي يقدم الآن على خشبة مسرح الطليعة من إنتاج البيت الفني للمسرح، تأليف رشا عبد المنعم، وإخراج شادي الدالي، وهو صياغة مسرحية - تعتمد - بالأساس - على ما يمكن أن نطلق عليه محاكاة ساخرة لبعض مفردات هذا الواقع الذي نعيشه، وذلك عبر تصوير أسرة مصرية، وما تواجهه هذه الأسرة من مشكلات ذات طابع يومي بسيط، يخص أسلوب حياتها اليومية من مأكل ومشرب، والصعوبات التي تواجه هذه الأسرة، في ظل مواضعات المجتمع المصري الآن وهنا.
يتجسد هذا الجانب الساخر الذي يقترب كثيرًا مما نطلق عليه «البيرلسك» عبر تفضيلات تخص الثيمة الدرامية، كأن يقدم شخصية الجدة العجوز القعيدة، وهي تتحدث في هاتفها المحمول، ثم تكتشف - عبر الحوار - أن العنصر الساخر الذي يضخم صفات معينة - تتحول لشابة وقد غادرت هذا الكرسي، وبنفس المنطق يقدم النص، شخصية الجار، الذي يتدخل في حياة هذه الأسرة، ويتم التعامل معه وكأنه أحد أفراد هذه الأسرة. في هذا السياق التهكمي، يصبح الرابط بين هذه الأحداث التي تبدأها هو واقعي وبين مجاوزة هذا الواقع، بما هو ساخر وتهكمي ليصل للبيرلسك، عبر عنصر التضخيم، الذي له طابع كاريكاتيري، أن النص الذي يرى هذا الواقع غريب وربما المجنون وفاقد للمنطق في كثير من الأحيان، هنا يصبح الرابط بين الواقع ومجاوزته، هو عنوان النص المسرحي، أن ثمة شباكا مكسورا، يحتاج لإصلاح، كذلك هذا الواقع يحتاج لإصلاح، درامي يصبح هذا الشباك المكسور، هو المسئول عن تلك الروائح الكريهة، التي تنتقل للبيت المستقر، فتفسد أرجاؤه وتؤذي ساكنيه، وهو - أيضا - المسئول عن تسلل الغرباء، الذين يتطفلون على هذه الأسرة، قد يصل لحد التدخل في حياتهم وإفسادها، يمثل هذا النمط - نصيا - شخصية الجار.
للوهلة الأولى للعرض المسرحي، يختار النص تقنية مكررة وهي لفرط استخدامها، تحولت لحيلة جاهزة، وهي شخصية الأب الذي يقوم بتعريف أفراد أسرته لجمهور المتلقين، وهي الشخصية الوحيدة التي تندرج بهذا المنطق الذي يجافي ما يسمى بالإيهام المسرحي (1).
أما بقية الشخوص فهي شخصيات تقع في منطقة الإيهام، فهذه شخصية الأم التي لا يحمل لها الابن (الأب) من ذكرى، سوى أنها كانت تصفه بالفاشل، ثم شخصية الزوجة التي تعمل مدرسة أو معلمة وقد أسنت وغادرت مرحلة الشباب، لذا فهي تواظب على الصلاة وتُكثر من قراءة الأوراد، هذا هو الجانب الساخر والتهكمي، الذي يبرزه النص المسرحي، على هذا القطاع من البشر الآن وهنا.
هل هي رؤية، تُشير لأوضاع مقلوبة وشائنه في هذا المجتمع؟ المؤكد أنها تشير لهذه الأوضاع المقلوبة أو هي تتماس مع هذه الأوضاع، وهي أيضا تواسي إنسان هذا العصر، وتمازح أفكاره وقضاياه، عبر عرض هذه القضايا بشكل عام، وغبر طمع، طرق في التماس مع هذا الواقع، عبر مسخرته وتركيز بؤرة الضوء على ما ينطوي عليه من خلل وخراب.
وأظن أن علاقة المشابهة التي يقوم عليها النص، بين الشباك المكسور وما يحيل إليه من معانٍ تخص الواقع، هي المقولة الأساسية التي تطمح التجربة الفنية للإشارة إليها، وهي - أيضا - التي رسخت لنوع من الأداء الفني، التي عبرت من خلالها هذه التجربة. يأتي في هذا السياق استخدام تقنية نفي الإيهام، فمنذ بداية العرض حين يقدم الأب وهو غير متعين باسم للدلالة على أي أب، وهو ما ينسحب إلى بقية الشخوص، هذا هو ما يحدد هويتها بوصفها شخصية درامية وهو منحى يتبانه النص، أقصد عنصر التجريد، أن النص المسرحي، عبر هذه التقنية، يعرض لنا - نحن المتلقين - حكاية هذه الأسرة، وهو ما يتوافق تماما مع طبيعة التجربة الفنية برمتها، دع عنك أن هذه التقنية من فرط استخدامها وكأنها تميمة أو شارة تحدد انتماء العرض لأسلوب محدد من الفكر المسرحي، أقول إن هذه التقنية - تقنية كسر الإيهام - من فرط استخدامها - لم تعد قادرة على الإدهاش الفني، أثمن ما يمتلكه هذا الإبداع العجيب، الذي يسمى فن المسرح، المؤكد أن الأفكار والمضامين والطموحات، التي تخص الشخصية الدرامية هي التي تنتج قالبها الخاص، وقد تتحول هذه التقنية سالفة الذكر في كثير من الأحيان، حين تصبح حيلة درامية جاهزة سلفا، قد تتحول لتقنية تُغري بالهروب من الجهد التشكيلي والبنائي فيما يخص رسم الشخصية وأن يكون لها ملامح تميزها، عن بقية الشخوص، بحيث تصبح قادرة على التعبير الفني عن ماهية الإنسان، الرجل أو المرأة.. إلخ.
إن النص المسرحي يقوم في الأساس على علاقة التشابه بين الشباك المكسور وما يمور به هذا المجتمع من كسور في كثير من جوانبه وهو الطرح الفني الأساسي للنص، أو هو ما ينهض عليه النص، ورغم أنه تشبيه بسيط ودارج فإنه أيضا معبر عن الحالة التي يبغي طرحها لكنه أيضا ينتج نوعا من التناقض والاختلاف مع العنوان الفرعي للنص (نظرية النوافذ المحطمة) فهو على العكس ليس دارجا أو عاميا، لكنه - ربما - يندرج في منظومة تقنية السخرية والتهكم، وإن كان يطرح نوعا من التثاقف، يستدعي في الذاكرة حين أراد المخرج السينمائي الراحل رشوان الكاشف، أن يطلق على فيلمه «الساحر» اسم نظرية البهجة (!).
إن الضحك ينبغي أن يصدر من السخرية التي تقوم على الاكتشاف، اكتشاف المظهر الخارجي للوجود الإنساني، إنها سخرية ينبغي أن تكون مفكرة، تدفع إلى الابتسام، ابتسام الكشف والفهم وليس إلى قهقة الغائبين عن الوعي، أو الباحثين عن طرق لقتل الوقت، هي الفن الذي يعالج المشكلات، التي ترتبط ارتباطا مباشرا بواقعه الاجتماعي، يبدو هذا صحيحا بعد أن كتب كل المؤلفين المحدثين، بدءا من بريخت الذي ينقل عنه النص، مرورا بدورينمات إلى بيكيت ويونيسكو وبيتر فايس وآخرين.
لذلك جاءت إبداعاتهم معبرة عن السخط، الذي ينشأ من أوضاع لا إنسانية، محبطة، يفرضها ظلم أو فساد اجتماعي، أقول إن هذا السخط هو الذي يبعث نوعا من السخرية المريرة، لكنها - أيضا - ينبغي أن تخلق وعيا اجتماعيا يخص الإنسان في عمومه، لا أن تكون مجرد تنبيه وقتي عارض، وكأن المتلقي لا يعيش هذه المتناقضات أو يعايشها بشكل يومي.
وأخيرا:
ثمة فارق أساسي بين الكوميديا، التي تسخر بكل شيء، وتنتهي برفض كل شيء، وتعلي من قيم اللامبالاة بكل شيء، وبين الكوميديا التي تتبنى موقفا ناقدا ومفكرا من قضايا الإنسان، أن روح السخرية من الممكن أن تقدم معالجة كوميدية نقدا للواقع الاجتماعي على سبيل المثال، أو أن تهتم بقضايا أكثر جدية من السخرية من مجرد عرض بعض تفصيلات من هذا الواقع، قضايا أكثر كلية، كالكراهية، الحرب، أو التعصب دون أن تفقد القدرة على بعث المرح والسرور والاحتفاء بالحياة.