هل الكوميديا مرآة الشعوب؟(2)

هل الكوميديا مرآة الشعوب؟(2)

العدد 818 صدر بتاريخ 1مايو2023

ج. الكوميديا الإيطالية
(جولدوني نموذجا)
«ليست الكوميديا ديلارتي دراسة عن الغريب المتنافر والظريف بل هي ايضا تصوير للشخصيات الحقيقية التي جرى اقتفاء أثرها من الماضي البعيد وجلبها الى الوقت الحاضر في تراث متواصل من الظرف الخيالي الذي هو في جوهره جاد، ويمكن القول إنه حزين مثل كل هجاء يعري فقر البشر الروحي .»1
تعتبر الكوميديا ديلارتي هي الكوميديا التي اشتهرت بشكل كبير في إيطاليا، «تعود أصول الكوميديا ديللارته إلى عروض الممثلين الجوالين Jongleurs الإيمانية التي كانت تقدم في إيطاليا في القرن الثالث عشر، وعلى الأخص ثنائيات الخادم والسيد - كما أن بعض الشخصيات فيها مثل الدكتور El Doctore مأخوذة من الكوميديا اللاتينية أما الأقنعة اشتهرت بها عروض الكوميديا ديللارته فتنحدر بأصولها أقنعة الكرنفال” 2
ويذكر أنه «كان يجري استخدام هارليكان وبنش وكولومبين وبانتالون، في أيامهم اشکال وهيئات مختلفة، مرة بعد أخرى. وكانت عروضهم مبتذلة في كثير من الأحيان حتى صارت الكوميديا الايطالية في النهاية نادرا ما تقدم أكثر من مزليات رخيصة كانت مسلية احيانا بسبب غرابتها السخيفة، ولكنها في الغالب سملة ومبتذلة . وكانت النتيجة اننا لا تعرف اليوم إلا القليل ، نسبيا ، عن الكوميديا الايطالية الحقيقية.»3
يمكن أن يكون ما سبق يفسر أن يعد تفسير لكون الكوميديا الأشهر عند الإيطاليين أو التي وصلت إلينا في عصرنا الحديث، «إن الكوميديا ديللارته نشأت في إيطاليا منذ القرن السادس عشر مع بداية تشكل الفرق المسرحية، إلا أن التسمية لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر حين بدأ هذا النوع بالانحسار. وقد كانت التسمية الأولى لها في كوميديا الارتجال.»4
تعكس الكوميديا ديلارتي الأحوال الأيطالية حيث كانت تعتمد «الكوميديا ديللارته على الإضحاك من خلال مواضيع تطرح غالبا قصة الزوج المخدوع الذي تضربه زوجته وتظل سعيدا، والعجوز الذي يقع في غرام صبية صغيرة، والمشعوذ الذي يخدع الناس وينال عقابه في النهاية إلخ. ومع أن هذه المواضيع مستقاة من الواقع، إلا أن معالجتها لا تتم بشكل واقعي، ومن الصعب أن يُستشف منها أية صورة عن المجتمع، لأن بنيتها تقوم على التجريد واللعب والمسرحة». وهي لا تهدف إلى المحاكاة أو إلى مشابهة الحقيقة»، وإنما إلى الإضحاك عبر عناصر عدة أهمها الالتباس والمبالغة في الحركة واختلاف اللهجات المستخدمة.»5
« يعتبر الكاتب المسرحي الإيطالي كارلو جولدوني (1707 - 1793) رائد الكوميديا الإيطالية المرتجلة، الذي ترك إرثاً غنياً متنوعاً ومتجدداً ألقى بظلاله على التيارات المسرحية التي جاءت بعده. ظلت تجربة جولدوني مثيرة للجدل على مدى أكثر من قرنين، ومع أن أعماله المسرحية تنتمي إلى الكوميديا المرتجلة فإنها كانت مختلفة وغنية بمفاهيم وأفكار وجدت طريقها إلى المسرح الحديث، ولم تكتمل إعادة اكتشاف هذا المبدع، الذي عاش في القرن الثامن عشر، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، مع أن صديقه الفيلسوف الفرنسي فولتير أطلق عليه لقب «موليير الإيطالي»، بينما أطلق عليه نقاد آخرون لقب «شكسبير إيطاليا». تشكل التجديدات التي وضعها جولدوني نقطة انطلاق للمسرح العالمي الحديث، ومنها حبه الفضولي للمراقبة، وترسيم الحالات النفسية لشخوصه واستقراء الدوافع الكامنة وراء سلوكهم، في واقعهم الاجتماعي والثقافي، والمستويات والاتجاهات الفكرية التي يعيشونها، وهذا يحتاج إلى المزاوجة بين المسرح والحياة، أو ما يمكن أن نسميه «فن الحياة مسرحياً»، أو الحياة في المسرح بمعنى «مسرحة الحياة».” 6

تحليل مقارن
يمكن اعتبار الكوميديا مرآة للشعوب وفقاً لما استنادا لما سبق ذكره سابقا، فحقيقة الأمر أن الكوميديا كانت حائط الصد الأول لكل ما هو عير منضبط أو مخالف لرؤية الناقد فدائما ما كان للكوميديا دورا هاما في تسليط الضوء علي كل به خلل او يشذ عن المنطق.
وفيما يلي نستعرض بعض النماذج من النصوص المسرحية التي استخدمها مؤلفوها لمواجهة المشكلة التي تواجههم في المجتمع سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية:

نص الضفادع «أرستوفانيس»
تكمن أهمية هذه المسرحية في أنها تصور لنا حال المأساة في اليونان بعد وفاة كتابها الكبار الثلاثة ( أيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس ) من تدنٍّ، وفيها أيضًا يذكر ارستوفانيس  عددًا كبيرًا من كتاب المأساة اليونانية ممن لم تصلنا مسرحياتهم، وهذه قيمة تاريخية مهمة لهذه المسرحية تضاف لمزاياها العديدة الأخرى.
يقوم ديونسيوس إله الخمر الوثني عند اليونان برحلة للعالم الآخر كما تخيله أرسطوفان من مفهومه لعقيدة اليونانيين الوثنية آنذاك، وقد أرشده لهذه الرحلة ودله على ما يجب عليه اتباعه فيها هيراكليس، وصحب معه فيها أحد العبيد، وكان الغرض من هذه الرحلة إعادة أحد الشاعرين الكبيرين من كتاب المأساة: أيسخيلوس أو يوربيديس للحياة؛ لأنه لم يعد هناك شعراء كبار يكتبون المأساة بعد موتهما.

نص البخيل “موليير”

 يعد النص دراسة سيكولوجية مبكرة في التهافت على المال، حيث يفترض من الناحية المبدئية، فقد حاول موليير ان يثير الحزن من خلال مسرحية كوميديا وإن كان الحزن قد  يشعر به المتفرج لاحقاً، و ربما يشعر به أيضاً مرات عدة خلال العرض، لا سيما في كل مرة يتهافت فيها هارباغون، بخيل المسرحية على أمواله، مصراً على ألا يعيش أي قسط من السعادة، على رغم ثرائه الفاحش. فقد صوره موليير: شخصاً يلتهمه ما يملك ويمضي كل وقته في خوف من أن يستولي عليه أحد،  والحال أن مسرحية موليير في هذا كله تبدو أشبه بلعبة القط والفأر، وفي هذا السياق بالتحديد تبدو دائماً على حبل مشدود كما حال بطلها الضائع بين ماله وحبه.  وذلك لأن الجانب الأكثر مأسوية في العمل، والأقل إنسانية هو الوقوع في الحب نفسه. فإذ يقع هارباغون ضحية لسهم كيوبيد وفي الوقت ذاته عاجزاً عن التخفيف من حدة بخله، وهو أمر لا بد من الإقرار بأنه جديد على السياق المسرحي، أو بالأحرى كان جديداً وربما مفاجئاً أيضاً في زمن موليير، وعلى الأقل في مجال التحليل السيكولوجي للشخصية. وذلك بالتحديد لأن هارباغون لا يتطور سيكولوجيا، على رغم كل ما يحدث خلال المسرحية. وفي هذا الإطار يبدو المشهد الأخير في «البخيل» شديد الفصاحة: بعد أن تنكشف كل الألاعيب المحاكة حول هارباغون، وبعدما يفشل حتى في حكاية غرامه مستسلماً إلى واقع أن المحبوبة إنما هي حبيبة ابنه لا حبيبته هو، لا يبدو هارباغون وقد أصابه أي تطهير... أو أدنى تغيير في شخصيته أو سلوكه ولو في ظاهر الأمور: إنه منكبّ من جديد على أمواله، يرضى بالنهايات السعيدة شرط ألا يدفع هو النفقات: لقد خسر حبه الوهمي، لكنه تمكن من الحفاظ على غرامه الأساسي: ماله. من هنا، سيكون واضحاً إلى أي مدى محزنه هي حال هذه الشخصية التي تكاد تكون الشخصية الوحيدة التي ينهزم لديها الحب والسعادة أمام جبروت المال.

نص صاحبة اللوكاندة جولدوني
تضم المسرحية عددا من الشخصيات من مختلف الطبقات الاجتماعية، فالماركيز والكونت من الطبقة الأرستقراطية والفارس من الطبقة البرجوازية الصغيرة والخادم من الطبقة الشعبية. وتكمن اهمية هذه الشخصيات في انها نماذج تاريخية تمثل عصر جولدونى الذي شهد تغيرات فكرية واجتماعية كبيرة خاصة تدهور أحوال الطبقة الارستقراطية وظهور طبقة التجار والحرفين او الأغنياء الجدد الذين سعى بعضهم لشراء الإقطاعيات كالماركيزية أو الكونتية للحصول على ألقبها والتمتع بمزاياها ومظاهرها. زمن الطبيعي ان يكون هناك اختلاف في المصالح و القيم بين هذه الطبقات بعضها البعض ،وأن يظهر أثر هذه التغيرات في مجال التعامل بينها. ويتضح هذا بجلاء من خلال التنافس والمشاحنات العديدة بين الماركيز والكونت. فالماركيز والكونت شخصيتان تعكسان ما لحق من تطورات اجتماعية و اقتصادية بطبقة النبلاء و التدهور الذي حاق بها.
قد صور جولدونى شخصية الماركيز في صورة هزلية ليعبر عن إدانته لهذه الطبقة،  وجائت شخصية الكونت التي تحفها مظاهر الثراء الحديث و البذخ و الإسراف فإنها تبلور القيم الأخلاقية المستحدثة التي تعتمد على سطوة المال و الجاه في الوصول إلى أهدافها . وشخصية الفارس أيضا نموذج من نماذج العصر تجسد شخصية الرجل الذي يعلن بغضه للمرأة وعداءه لها وإن كان في الواقع عداء غير قائم على تجارب عمليه أو فهم دقيق لحقيقة المرأة وقدرتها على الوقوف أمام الرجل وتحديه والتغلب عليه بأساليبها الخاصة. والشخصية المحورية التي تدور حولها الأحداث وهي شخصية ميراندولينا صاحبة اللوكانده هي بدورها أيضا نموذج للمرأة المتطلعة المفتونة بنفسها والتي تجيد استخدام فنون المرأة في السيطرة على الرجل في عقلانية ودهاء وقدره فائقة على التصنيع. ورغم أن هذه الشخصيات كلها نماذج تاريخية إلا أنها تحمل في طياتها سمات المعاصرة والدوام فهي تعكس طبائع النفس البشرية ودوافعها الكامنة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة والأنانية والخداع وحب التملك والادعاء والتطلع وخيبة الرجاء وأيضا تقلب الاحوال وتغير الأوضاع الاجتماعية كلها عناصر متجددة ومتكررة عبر العصور ولذا فإن هذه الشخصيات وإن بدت في ظاهرها متسمة بخصائص عصرها، إلا أنها في جوهرها شخصيات تنبض بالحياة في عالمنا بكل مقوماتها النفسية والأخلاقية.
وهكذا نجد أنفسنا أمما ثلاث نماذج للكوميديا مختلفة الأزمنة واللغات متفقه في الأسلوب النقدي لكل ما هو غير منضبط في المجتمع علي الأصعدة المختلفة، فبداية مع ارستوفانيس الذين انتقد التدهور والتدن الادبي في الكتابة المسرحية، مرورا بموليير الذي جسد المشكلة النفسية والمعاناة التي تصيب البخيل في محاولة لتقويم النفس البشرية ختاما بجولدوني الذي سلط الضوء علي المشكلات الطبقية في المجتمعات الأرستقراطية. نجد أن استخدام الكوميديا في عرض كل هذه المشكلات ساهم بشكل كبير في وصولها للمتلقي، فدائما ما كان إدراك المشكلة عند السخرية منها أسهل للمتلقي وأخف علي نفسه من تجسيدها من خلال المأساة.   

هوامش
1- بيرلو دوشارتر، الكوميديا الإيطالية، ممدوح عدوان، علي كنعان، منشورات وزارة الثقافة- المعهد العالي للفنون المسرحية – دمشق، 1991،ص 6
2- د. ماري ألياس – د. حنان قصاب، «المعجم المسرحي»، مرجع سابق، ص 389
3- بيرلو دوشارتر، الكوميديا الإيطالية، ممدوح عدوان، مرجع سابق، ص 5
4- د. ماري ألياس – د. حنان قصاب، « المعجم المسرحي»، مرجع سابق، ص 288
5- د. ماري ألياس – د. حنان قصاب، « المعجم المسرحي»، مرجع سابق، ص 389
6- محسن النصار، [ كارلو جولدوني رائد الكوميديا الإيطالية المرتجلة
المصادر، مدونة مجلة الفنون المسرحية،  
[https://theaterars.blogspot.com/2014/07/blog-post_21.html#.ZCX5XHZBzDc ]

المراجع
الارديسس نيكول، المسرحية العالمية ج1، عثمان نويه، هلا للنشر والتوزيع-مصر، 2000
الارديسس نيكول، المسرحية العالمية ج2، عثمان نويه، هلا للنشر والتوزيع-مصر، 2000
ارسطو، فن الشعر، د. إبراهيم حمادة، مكتبة الانجلو المصرية،1983
باتريس بافي، معجم المسرح، ميشال ف. خطار، المنظمة العربية للترجمة- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، 2015
بيرلو دوشارتر، الكوميديا الأيطالية، ممدوح عدوان، علي كنعان، منشورات وزارة الثقافة- المعهد العالي للفنون المسرحية – دمشق، 1991
د. ابراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، 1985
د. احمد عتمان، الادب الأغريقي-تراثاً إنسانيا عاملياً، الهيئة المصرية العامة للكتاب – أدب-  الموسوعة الكلاسيكية، 2013
د. حمادة إبراهيم، بانوراما المسرح الفرنسي 1- الكلاسيكية، الهيئة العامة للكتاب – مكتبة الاسرة- مهرجان القراءة للجميع، 2005
د. رشاد رشدي، نظرية الدراما من أرسطو إلى الأن، هلا للنشر والتوزيع – مصر، 2000
د. لطفي قام، المسرح الفرنسي المعاصر، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964
   د. ماري ألياس – د. حنان قصاب، « المعجم المسرحي»، كتبة لبنان ناشرون، لبنان،1997
د. محمد حمدى ابراهيم، نظرية الدراما الأغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان- ادبيات، 1994
عصام الدين حسن ابو العلا، نظرية أرسطوطاليس عن الكوميديا، مكتبة مدبولي-مصر،1993
فرنان روبير، الأدب اليوناني، هنري زغيبب منهورات عويدات بيروت – باريس، 1983
مولين مرشنت،كليفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا، د. علي أحمد محمود، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب-الكويت، 1978
هنرى بيرجسون، الضحك، د. علي مقلد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2007

مقالات
جون وود، [ موليير والمسرح الفرنسي – عدد 2 ] مجلة الأديب، يوسف عبد المسيح ثروة، [  https://archive.alsharekh.org/Articles144/14721/330918 ]، 1 فبراير 1965
هبة الله الغلاييني، [ كارلو جولدوني شكسبير إيطاليا – عدد 526 )، مجلة أفاق المعرفة
  [https://archive.alsharekh.org/Articles/64/2372/310620 ] ،1 يوليو 2007
عبد الفتاح البارودي،[ الفن الكوميدي من موليير إلى يونيسكو-  عدد 75]، مجلة الثقافة- لأبو حديد
[https://archive.alsharekh.org/Articles/100/4987/124361 ]، 22 ديسمبر 1964
 خليل صابات، [المسرح الفرنسي –عدد 26 ]، مجلة الثقافة - لأبو حديد
[https://archive.alsharekh.org/Articles/100/5015/125006 ]،  14 يناير 1964
محسن النصار، [ كارلو جولدوني رائد الكوميديا الإيطالية المرتجلة، مدونة مجلة الفنون المسرحية،  
[ https://theaterars.blogspot.com/2014/07/blog-post_21.html#.ZCX5XHZBzDc ]

المصادر
أرستوفانيس، الضفادع، د. عبد المعطي شرقاوي، المجلس الوطني للثقافة والفنون- الكويت – من المسرح العالمي، 2012
كارل جولدوني، صاحبة اللوكانده، سلامة محمد سليمان، المجلس الأعلى للثقافة -المشروع القومي للترجمة، 2000
موليير، أعمال موليير الكاملة ج1، أنطوان ميشاطي، دار نظير عبود، 1994


محمد أحمد كامل