«فطائر التفاح» جدلية فلسفية للخروج من الجنة

«فطائر التفاح»  جدلية فلسفية للخروج من الجنة

العدد 652 صدر بتاريخ 24فبراير2020

ماذا لو انتبه آدم لزلة قضم تلك التفاحة التي تسببت في هبوطه إلى الأرض ومن بعده بني جنسه؟ فهل كان سيقرر عدم تناولها؟ أم أنه لا اختيار له وهو مسير نحو السكنى في الأرض وترك الجنة؟ أم أنه ترك الجنة باختياره؟ إن مجرد استسلامه لغواية حواء يضعه في مرتبة صاحب الاختيار. من هنا يمكن أن يبقى العمر كله يندب حظه متأسيا على حياته التي بدأ يشعر باقتراب نهايتها بعد هبوطه من الجنة. جدلية فلسفية لا تنتهي قد تبحث عن إجابات, لكن تلك الإجابات إنما تكمن في داخل كل شخص بجواب مختلف عن الآخر. فرضية فكرية فلسفية بني عليها النص لإثارة ذهن المتلقي ومحاولة إحداث تأثير التطهير النفسي بمشاعره.
من هنا تنطلق أسئلة ومحاور العرض المسرحي (فطائر التفاح) للبيت الفني للمسرح والذي عرض بمسرح الغد برئاسة الفنان سامح مجاهد, من تأليف الكاتب السوداني أمجد أبو العلاء,  ومن إخراج محمد متولي. وهذا النص هو الحائز على جائزة مسابقة الهيئة العربية للمسرح عام 2013. يقدم العرض وجبة نصية دسمة تدور في جدل فكري وصراع نفسي بين زوجين حول أسباب السعادة والشقاء من خلال تلك العلاقة الأبدية بين الرجل والمرأة والتي قد تسمو أحيانا وقد تتدهور أحيانا أخرى باختلاف الظروف.
يبدأ العرض بجلوس كل منهما (الزوج والزوجة) منفردا في عزلته في مكانه الذي يعبر عن حياته وأفكاره ومشاعره, فالزوجة في غرفة نومها وعلى سريرها في إظلام تام حيث يغلب على حياتها التفكير في إطفاء المشاعر الحسية والجسدية في هذا الموقع المعبر عن لب العلاقة مع الرجل وهي دائما في حالة شبق وانتظار لإشباع الطرف القوي لحبها (جسدك أينما ذهب يبقى معي. جزء لا ينفصل عن جسدي). أما الزوج فهو يجلس في صومعته أو كما تسميها الزوجة قبوه مع كتبه وأوراقه التي تعبر عن مسيرة حياته ككاتب قضى حياته كلها بين الكتب والأوراق منهمكا في القراءة وإنماء الفكر والبحث عن المعرفة والحكمة (كنت اسماً. كنت كاتباً مقنعاً لأني مقتنع بما كنت أكتب. كنت رجلاً مؤمناً برجولتي. وعرفتها. عرفت معها الشك في كل الحقائق). منذ البداية يضعنا العرض أمام طرفين متناقضين فكرا وسلوكا. من هنا كان على المرأة الزوجة استكشاف الدوافع المجهولة داخل الرجل واستخراجها ومحاولة تنشيطها للاستفادة بها فيما يخص الجانب الشعوري الخاص بها. فهي إذن تعلم جيدا أن الزوج لا يملك فقط الظاهر الذي يبدو عليه بل إنه لديه احتياجات يقوم بإخفائها وكبتها من باب التنزه والترفع عنها لصالح الجانب الخاص بإعلاء القيمة الفكرية لديه.
مع تطور الحوار يتضح أنه يعيش تلك الحالة منذ سنوات متنزها عن لقاءها بعد أن انحسرت عنه الأضواء وأصابه الوهن في عمله ككاتب وفقد بريقه وشهرته, مما أدى به إلى تلك العزلة (الزوجة: خمس سنوات وتلك الغرفة المعلقة تشنقني. وأنت تزهد الصعود. معجب بقبوك وبقايا كتب وحب وذنوب. خمس سنوات وأنا أجر ذيول الهزيمة والندم). فالزوجة هنا صار عليها أن تعمل على إحياء مشاعره لأنها في طريقها إلى الذبول. المهمة قد تبدو صعبة. يجلس الزوج يشاهد من خلال شاشة عرض لقطات تعبر عن  الحياة وصيرورتها وتطورها وتدل على أن  الزمن يتقدم دون توقف (قطار ينطلق, سيارات مسرعة, ساعة زمنية تتحرك, وهكذا...). وبينما يرى المتلقي كل هذا على شاشة العرض فإن هذا هو ما يدور بذهن الزوج في عزلته. حتى تبدأ الزوجة أولى محاولاتها باختراق تلك العزلة لتستعمل استراتيجيتها الأنثوية لاقتحام قوقعة الزوج واستخراجه منها. فتبدأ الخطط واحدة تلو الأخرى.
 يستلهم المؤلف فكرة تفاحة آدم التي تسببت في خروجه من الجنة  كموروث رئيس لنسج خيوط فكرته, حيث تعلن الزوجة عن استعانتها بالعرافة كي تحل قضيتها وأن العرافة قد أخبرتها أنه حينما تصنع فطائر التفاح ويلتهمها الزوج سوف يحدث تغيرا كبيرا في حياتهما (تقول العرافة إن اليوم الذي سأصنع فيه هذا التفاح فطائر سيحدث في حياتنا شيئاً ما). بينما أن الزوج في خضم الاعتراف أن التفاح لم يدخل بيتهما منذ خمس سنوات, هي سنوات عزلته واعتزاله الزوجة, (ما رأيك بتفاحة ؟ منذ سنوات لم يدخل بيتنا تفاح أحمر ومذاقه حلو) يتولد لديه شعور قوي بأن تلك الليلة إنما ستكون ليلته الأخيرة فيوافق الزوجة على صنع فطائر التفاح, في حين يعمل على تأنيب نفسه على ما قضاه من حياته بين الكتب والأقلام والأوراق متوهما أن حياته كلها كانت هباء بسبب تلك الأنثى. ولا يجد لنفسه سوى اجترار الذكريات (الجدران, الصور المعلقة, كتبي التي كرهتها. رائحتها الفرنسية الغالية، رائحة التفاح الذي تملأ به مسامات المنزل، رائحة الحياة والحب), إنما يفصح بهذا عكس رغبته الحقيقية وإنما يعمل على محاسبة نفسه لتطهيرها في ليلته الأخيرة قبل نهاية حياته, التي عمد المؤلف على التناص هنا بين آخر لحظات آدم في الجنة مشبها خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض وبين تناول الزوج فطائر التفاح لتأتي بعدها وفاته التي هي بمثابة خروج من الجنة.
 وتتصاعد الصراعات بينهما حتى يتجسد الصراع ما بين كلمات الكراهية من الزوجة والتي تخفي في طياتها العشق المجنون بالزوج والهيام به وما بين ردود الزوج التي تحتوي الزوجة وغضبها بكلمات الحب والحنين والاحتواء وتجسيد هذا الصرع في ذروته بتبادل التقاذف بينهما بالتفاح من ناحية وبالكتب من ناحية أخرة فهو صراع بين الغواية والفكر, ورغم إبداء الزوج سعادته باحتراق فطائر التفاح كنوع من التشفي من  تلك التفاحة التي هي المرأة سبب خروجه من جنته وشهرته وكتبه, لكن الزوج مع جدليته المستمرة مع الزوجة وتعدد محاولاتها وتنوعها ما بين التدلل مرة والغضب مرة أخرة ثم الرقص في محاولة ثالثة والتحاور والتفاهم العقلي في مرة أخرى ثم الغواية, والتي استسلم لها في  النهاية ( خمس سنوات أيها البوهيمي المجنون وأنا أرقص لأعاقب نفسي على كل شيء), (أمقرفة أنا لهذه الدرجة ؟ رائحتي مقززة لهذا الحد يا آدم؟), (أحبك كما لم تحب امرأة رجلاً من قبل).
 وهكذا تغيرت لغة الخطاب كل مرة وتنوعت حتى نجحت خططها فصعد معها إلى غرفة نومهما لتناول فطائر التفاح حتى لو كانت محترقة لبيان انتفاء أهميتها عنده لسبق التهامها من قبل وما يحدث إنما هو تكرار يؤدي إلى أن غواية العاطفة والتفاح أقوى تأثيرا من جمود العقل, فيعمل على كسر حاجز العزلة وقضاء ليلتهما معا.
 اكتشف الزوج أن جنته الحقيقية طوال حياته هي المرأة هي زوجته فاعترف بذلك (ها أنا بين التفاح الذي قطفته معها وخسرت وبين آلام المرض والأفكار المبعثرة أقف وحيداً), وكان ذهابه للتطهر بالماء إنما هو تطهر من كل ما شاب حياته مع زوجته في محاولة للتخلص من همومه وأحزانه قبل قضاء نحبه كما يظن (أعترف بأني كنت أعمى. أعترف بأن نكساتي الأدبية وهمجيتي التي كتبتها على الورق انعكست على حياتنا), حتى أنه كثيرا ما ينهكه المرض ويأخذه الدوار ويكاد يقع على الأرض من شدة المرض لكن الزوجة دوما هي التي تقف بجانيه لتسانده من هذا الوقوع حتى أثناء  التطهر تحت الماء, فهي دائما جنته التي كان يعيش فيها وينشدها لكنه لم يكن يشعر بها لسيطرة أفكاره ومرضه وانزواء مكانته (لا أريد وجوهاً أخرى غير وجهك. اغسليني من كل الذنوب). ومع ذلك يعترف ويقر بما كان بعدما فات وقت الندم وتصحيح الأوضاع وهنا كان تصل بنا الدراما إلى كونها دراما تحفيزية للمتلقي تثير ذهنه ومشاعره نحو التفكير وإعادة النظر وفعل ما لم يدرك البطل فعله لمراجعة خطوات حياته وتصحيح أوضاعه والاعتراف بحقيقة جنته وعدم التفريط فيها.
حاول المخرج بناء رؤيته على أساس تكوين لغة جمالية بصرية سينمائية من خلال تعبيرات الوجه والنظرة والإيماءة والإشارة وحركة الممثلين على المستويين تناسقا مع تشكيلات الديكور, مع إبراز لحظات الصمت  كمعبر أساسي يصل إلى حس المتفرج بشكل أقوى واسرع لكنها انفرط عقدها منه وزادت عن الحد لدرجة أنها تحولت إلى فترات طويلة من الملل, فكانت تحتاج إلى ترشيد حيث أنها أدت إلى هبوط الإيقاع العام بشكل كبير فكان مؤداه تسرب الملل إلى المتفرج. كما أنه لم يكن هناك تنويعا في الإيقاع بالحدة والبطء على مدار العرض لخلق هارموني متكامل يجذب المتلقي فكان الإيقاع يسير على وتيرة واحدة طوال العرض. كما ازدادت لحظات الملل تأثيرا بالانخفاض الشديد في مستوى صوت الزوج الذي افتقد أهم أداة من أدوات الممثل وهي الصوت. بشكل عام فإن العرض قدم قراءة حركية للنص الدرامي برؤية شبه كلاسيكية كانت بحاجة إلى مزيد من عناصر المتعة لتبرز روح النص وتجذب حواس المتلقي. لكن الرؤية الإخراجية بشكل عام تميل إلى البساطة في التناول والرقي في طرح الفكرة دون مبالغة أو افتعال.
رسم فادي فوكيه رؤية تشكيلية بسيطة التزم فيها  بتقسيم الفراغ المسرحي إلى مستويين كما جاء في النص. حمل المستوى الأعلى غرفة النوم واحتل السرير فيها حيزا كبيرا مع تغليف الحجرة بجدار وهمي مكون من شرائط قماشية طويلة ممتدة من أعلى المسرح حتى أرضيته وهي ذات لون أبيض كي يتم استغلالها في تغيير الألوان بالإضاءة. أما المستوى الأسفل فاحتوى مدخلاً للاستقبال على يمينه مطبخ على طراز أمريكي مفتوح حيث تطهو فيه الزوجة فطائر التفاح وتعد الماء والمشروبات, أما في اليسار توجد صومعة الزوج مكونة من مكتبة كبيرة للكتب وكرسي هزاز يجلس عليه كثيرا ويواجه ذلك في منتصف اليسار شاشة عرض يتم استخدامها بثلاثة طرق: الأول كشاشة عرض لبعض مشاهد مصورة وهي لم تضف شيئا للعرض ولم يكن لها أي داعي. والثاني سلويت أثناء وجود الزوج بالحمام فكان مناسب في ظلاله ودلالاته حيث تحول الرجل إلى مجرد ظل بلا حقيقة بعد تناوله الفطائر المحترقة واكتشافه تلاشي ما سبق من حياته وارتفاع نبرة الندم نحو الاستسلام لحقيقة الخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض كأمر حتمي. أما التوظيف الثالث للشاشة كمؤثر ظلال للإضاءة حيث ارتسمت عليه بالظلال في لحظات درامية عديدة شجرة جرداء أضفت أولا تشكيلا جماليا متداخلا مع حركة الممثلين ومتمازجا مع الحدث الدرامي معبرا عنه جماليا فعبرت تلك الشجرة عن الخواء العاطفي الذي يعيشه الزوجان كما إنها إشارة تثير التساؤل: هل تلك هي شجرة الخلد وقد تعرت من كل أوراقها التي كان عليها أن توفر لهما الأمان والحماية طوال حياتهما معا وتعرت تماما بعد أن قطفت منها التفاحة؟ وهل كانت تلك هي التفاحة الأخيرة على الشجرة أم أنها الوحيدة لتجذبهما إلى الغواية والهبوط إلى الأرض لأداء آدم رسالته المكتوبة عليه على الأرض والتي عنت بالنسبة له نهاية سعادته؟ وهكذا كان الديكور بسيطا جدا وكان بحاجة لمزيد من الجهد والاهتمام لطرح رؤية أكثر عمقا وتفاصيل ذات دلالات أقوى توازي قوة النص المكتوب.
ارتقت الإضاءة التي صممها عز حلمي بالرؤية التشكيلية معبرة بشكل جمالي عن الحدث الدرامي فتنوعت الاستخدامات والدلالات بالتنويع في استخدام الألوان بمساقط رأسية بالأخص على المستوى العلوي الذي يحتوى غرفة النوم بما يشمل الجدار القماشي الوهمي أضفت سحرا خاصا لتلك الغرفة مع تغيير الألوان بين الأحمر والأزرق والوردي طبقا للحوار والحدث. كما كان للإضاءة دور جيد في توضيح ظلال الشجرة العارية على شاشة العرض والتي ذكرناها فيما سبق وكذلك في توظيف السلويت. كما أضفت الإضاءة جوا بسيطا متميزا ذو خصوصية لصومعة الزوج على الأخص عند عزلته حيث أعطت التأثير المطلوب للمتلقي نحو انحسار حياة هذا الكاتب في تلك البقعة الصغيرة بجوار كتبه.
أما الملابس فكانت ملابس منزلية ارتدت فيها الزوجة قميص النوم الأحمر كباعث لغواية الزوج باستمرار حتى تنجح الزوجة في غرضها. أما الزوج فارتدي بيجامة عادية كلاسيكية واضعا فوقها روب شتوي كلاسيكي ثقيل معبرا عن كلاسيكيته وتقليدية حياته ورتابتها طوال سنوات العزلة والمرض.
الموسيقى لأحمد الناصر رقيقة ومعبرة وحملت بداخلها التنوع في المشاعر الحسية وأضفت سحرا خاصا لأحداث العرض من خلال توزيع موسيقي جيد ومعبر فكانت الموسيقى من أهم عناصر العرض التي لا يمكن أن ينفصل عنها.
كل تلك العناصر لاسيما النص العميق تضع الممثل أمام اختبار صعب وحاجة إلى مزيد من  الجهد والتوجيه والاهتمام بكافة تفاصيل الشخصية وأبعادها مع تركيز الممثل على كل أدواته وتدريبها لصعوبة توصيل الحوار الفلسفي لذهن ومشاعر المتلقي. قام بدور الزوج أحمد الرافعي وقد حاول توظيف أدواته لأداء الشخصية واجتهد في تفسيرها, وأجاد التعبير عن مختلف انفعالات الزوج  ورغباته ومرضه وصمته وتفكيره وغضبه وندمه وسعادته بالتقاء زوجته, لكنه كان بحاجة إلى مزيد من الاهتمام ببعض المناطق التمثيلية أو إلى مزيد من البروفات, إضافة لانخفاض صوته حتى أنه لم يصل إلى الصالة كثيرا مما هبط بمستوى العرض والإيقاع بنسبة خمسين بالمائة مسببا قدر من الملل. أما دور الزوجة قدمته تيسير عبد العزيز فكانت معبرة بصدق عن الزوجة بكل نوازعها ورغباتها ومكرها ومحاولاتها الوصول إلى قلب الزوج واختراق انعزاله  فكانت مناسبة رغم أنها قدمت كل ذلك بشكل تقليدي كلاسيكي لا جديد فيه كما لو كان قالبا متكررا من قبل. ومع ذلك فلهما التقدير للجهد المبذول طوال العرض ولهيئة تنفيذ الإخراج داليا حافظ وأحمد  نبيل.
العرض في مجمله مقبول مع مراعاة الملاحظات الخاصة برتابة الإيقاع. لكنه يثير تساؤلا حول النصوص التي تفوز بمسابقات التأليف المسرحي المكتوب. فمع كثرتها لماذا لا يتناولها المخرجون في أعمالهم؟ هل هو تكاسل من المخرجين؟ أم عدم اقتناع لصعوبة تحقيقها على إخراجا المسرح لكونها نصوصا درامية بحتة لا تحتوي ما يثير خيال المخرج؟ حيث يشير ذلك إلى وجود مشكلة في لجان تحكيم تلك المسابقات لأنها دائما تتشكل من أساتذة الدراما والنقد أو بعض المؤلفين دون وجود أي مخرج بلجان التحكيم للحكم على النص المكتوب من وجهة نظر فنية ورؤية بصرية قابلة للتشكيل على المسرح, وذلك حتى لا تظل تلك النصوص حبيسة أدراج مؤلفيها والقائمين على تنظيم المسابقات.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏