التجريبيون العرب والدراما في الغرب والشرق

التجريبيون العرب والدراما في الغرب والشرق

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021

ما زال التجريبيون العرب يقترضون من أصول الدراما الغربية ليجعلوها عربية السمات، ومازال هؤلاء المسرحيون المتمردون العرب متأثرين بتمردات المسرحيين الأجانب وهم كثيرون مند بداية القرن العشرين من أمثال: أنطونين أرتو، وبريخت، وجروتوفسكى واريان مونشكين، ومسرح المقهورين وغيرهم.. وذلك رغم محاولات بعض التجريبين العرب العودة إلى التراث كشكل من أشكال العرض المسرحى.. كى يضفوا عليه محليته وأصالته، ولكن دون جدوى. كما حدث لحركات التمرد السابقة مند ستينيات القرن العشرين والتى بدأت بـ«يوسف أدريس، وتوفيق الحكيم، وعلى الراعى، وعبدالكريم برشيد، وعزالدين المدنى، وسعد الله ونوس، وسلمان قطايا، وفرحان بلبل، وروجية عساف، وعبد الفتاح قلعجي، ومحمد عزيزة، ووليد إخلاصي، وشريق خذندار، وأدونيس، وعبد الله السعداوي  وغيرهم..
ولكنهم للأسف وقعوا أسرى النمط الغربى فى التجريب في محاولة تأصيل المسرح العربي.. نظر للأوضاع السياسية والاجتماعية فى العالم العربى والتى لم تسعفهم.. فبدا الأمر الواقع داعيا لليأس .
فماذا حدث للمسرح العربى فى مثل هذا المناخ الذى أشرنا إليه..؟ ستجد تسيد ما يسمى (بالتجريب) فى المسرح العربى الذى يُعد قمة الحداثة إلا أنه عجز عن استيلاد أنواع جديدة من المسرح - كما كان الشأن فى بقية المدارس والمذاهب التى سبقته، وكأنه - حداثة العجز البشرى - حيث صارت السينوغرافيا والكوريوجرافيا جزءا أساسيا من العرض، وصار (الجسد) فى المسرح (كرديف) أو كبديل عن النص وعن الحركة اللازمة للكلمة، رغم أن السابقين من (أرتو) حتى (بريخت) وجروتوفسكى) لم يرفضوا اللجوء إلى (ألنص)، وجاءت (ما بعد الحداثة) التى تأثر بها بعض مسرحيينا لتنشر دعوى موت المؤلف، وأن النص لم يعد ملكا لكاتبه، ولا يلتقى بمعناه الأحادى المعروف، لأنه صار نصا مفتوحا، على كل الحساسيات والأفكار والتفسيرات وقابلا للتفكيك ولمختلف عمليات المقاربة والمشاركة فى إعادة صياغته، وترتيبه، وتوصيفه، وتفسيره، وتكسيره، وحتى تحطيمه. فلم يعد كاتب النص كاتبه فقط، وإنما المخرج، وكذلك الممثل والسينوغرافى والكريوجرافى، وأصبح النص ملكا لكل من يقرأ النص قراءة خاصة.. من هنا انتزع (المخرج) السيادة من الكاتب - الذى تراجع حضوره، وطغى الاستعراض والسينوغرافيا وتفتيت النص، واستخدام الاحتفاليات والطقوس الشعبية والدينية والفولكلورية، بل ووصل الأمر إلى تقديم أعمال كثيرة بلا نصوص، ويتم التعويض عنها بالرقص - سواء كان باليه أو رقص حديث، أو التمثيل والبانتوميم.. وهو ما جعل مسرحنا أسيرا للمسرح الغربى.. مهددا بفقدان استقلاليته من خلال الاستمرار فى تراجع دور (النص)، وتاليا لدور المخرج والممثل لصالح التقنيات والأكسسوارات والعروض (الإبهارية) المزخرفة، والجماليات المجانية، والإمعان فى إضعاف الدراما أمام طغيان الصورة المجانية والفنون التى تفترسها، والتقنيات التى تلغيها تحت مسمى الصورة وتجاوز المسرح القديم، وهى الموجة التى وصلتنا متأخرة عن أوروبا بخمسة عقود - لذا فإن التحول الجذرى الذى أصاب مضمون المسرح فى الغرب لم يرافقه تحول يذكر – عندما وصلنا بعد خمسة عقود فى (لغة المسرح) عندنا.. لذا جاءت كل عروض المسرح التجريبى العربى متشابهة وغير متمايزة، وافتقدت الخصوصية وراء طبقات التشابهات لأنها اعتمدت على (التقنية) كركن أساسى فى المسرح (من أدوات وتجهيزات وملابس) بما يؤدى إلى (تشيء) العناصر الدرامية وهى الممثل والمخرج عبر غلبة (الشكلانية) السينوغرافية المجانية.. هذا الشىء الذى عزز المنحنى الشكلانى الذى يذيب ألمسرح فى أنواع أخرى، أى يطمس خصوصيته، وبنيته، وآلياته، وحالاته المميزة مما يجعله فنا مائعا لا هوية له، ولا دور ولا فكر، ولا بنية، ولا سيرورة ـ فنا يشبه التليفزيون أو عرض الأزياء أو مكان للإضاءة أو الإنارة - وبمعنى آخر وجود انفصال فى حيوياته ومكوناته، والذى تتسلط عليه السينوغرافيا والكريوجرافيا والمسرح الراقص، أو مسرح الإيقاع والحركة واستخدام الرقص، واللغة التليفزيونية التى أصبح يُعد أعماله على منوالها، فوقع فى حبائل استخدام الشاشة التليفزيونية، وفى حبائل البعد الواحد للصورة التليفزيونية، ومما أدى إلى هجرة كتاب المسرح إلى التليفزيون، ومما أدى أيضا إلى اختزال مفهوم المتفرج المسرحى حتى انفصل الجمهور عنه وانصرف لأن المخرجين والممثلين اعتمدوا على علمهم أكثر من اعتمادهم على موهبتهم، ومن جانب آخر ظلت الفضاءات والأمكنة المسرحية لدينا - أى دور العرض المسرحى - تفتقر إلى التجهيزات المتطورة، والتقنيات الحساسة، وإنها - فى معظمها - تعانى قدما ورثاثة وإهمالا.. بل وحربا من الإقطاع البيرقراطى ضد أى تجديد وأي تغيير، وتكون النتيجة إنتاج أعمال تنكفىء على ذاتها، وتعيد إنتاج وتكرار مفاهيم وتصورات - على أنها ثوابت مطلقة - لذا تتجمد وتنعزل، ويجتر شكله القديم وتقاليده القديمة، ويظل المسرح العربى ثابتا فى مكانه، بينما العالم الغربى والشرقى من حوله يمور ويموج بالمتغيرات الكبرى، لذا أصبح عاجزا عن التعبير عن واقعنا أو تغييره - فقد مضى زمان مسرح الترويج والتبرير الذى تبنته النظم الحاكمة التى أنشأت مسارحها لغاية محددة هى التأييد والترويج لانقلاباتها ودعم طموحاتها الوطنية، وأطلقت على مسارحها أسماء متعددة تنصب على تحقيق هذه الغاية مثل مسرح الشعب والمسرح الاشتراكي والحر. 
من هنا علينا أن نهيئ المجتمع لقبول أشكال التمرد فى المسرح - لأن التيارات المتمردة هى الأكثر صدقا فى التعبير فى مواجهة قضايا اليوم - وذلك لأن فكرة التمرد نفسها فكرة صالحة للتخلص من أدواء حركتنا المسرحية - التى ولدت للأسف من رحم المسرح الغربى فنعمل على تطعيم مسرحنا بعناصر من ثقافاتنا الأصلية تجعله قادراً على تجديد نفسه على الدوام، وذلك بالدعم المادى والأدبى للفرق، وبناء صالات العرض المسرحى، وإقامة المهرجانات التى تتيح الفرصة لتنافس الأعمال، والذى تقدمه مؤسسات المجتمع المدنى قبل المؤسسات الحكومية، وذلك بشرط أن نستغنى عن كل ما قذفت به (الموضات) الأجنبية أو حتى التيارات والمناهج الحداثية على خشبات مسارحنا، وتجريدها من كل ما هو دخيل على هذا الفن، والعودة به إلى ينابيعه الأصيلة.. أى إلى الكاتب المسرحى الجاد والممثل كبؤرة أساسية تتمحور حولها كل العناصر، وتمتص كل العناصر، والانتماء إلى الاتجاهات - النابعة من داخلنا والمتجادلة مع ما يدور حولنا فى العالم - والتى تحاول أن توازن بين المكونات الفيزيائية السينوغرافية وبين دورى النص والممثل كبؤرتين أساسيتين للعمل المسرحى.. من هنا يأتى رفض التقليد والسلطة بقصد تغليب السببية والعلوم الطبيعية، وأن تكون حرية الفرد هى المصدر الوحيد للبحث عن الحقيقة، وأن ننتبه لخطورة الإنسياق الكامل لفنون ثقافة الجماهير بما يهدد المسرح بخطر الاستهلاكية والغوغائية الفلكلورية، والتحرر من الرقيب الداخلى والرقابة، ومن سلوكيات الرفض والتعتيم والفوارق الطبقية بين الكتاب وغيرهم من المسرحيين، والسعى الدائم إلى كسر المألوف والسائد، والبحث فى أشكال وأساليب اشتغال حديثه فى التعامل مع الظاهرة المسرحية، وأن ننفتح على المسارح الأخرى - ليس فى الغرب وحده - بل فى الشرق وفنونه أساسا وعلى وجه الخصوص، وأن نتعاون معها للبحث عن صياغات جديدة - وعلى قدم المساواة - لمقاومة مساوئ العولمة وشرورها.. فمسرحنا الحداثى لا يحيا ولا يتجدد إلا بالاتصال بالمسرح فى الشرق والغرب والاستفادة بالتقنيات المتطورة التى تطبق فوق خشبات هذه المسارح، والتى قد  تتبدى فى تطور عناصر العرض المسرحي، والعمل على تأليف وترجمة الكتب فى علم المسرحية، وإقامة الورش المسرحية والدورات التنشيطية، والاستفادة من زيادة المعلومات وتطور تكنولوجيا الاتصال وسيطرة (الميديا) على الثقافة. للعمل على تشكيل ذوق ووعى المتلقى، والعودة إلى التراث ودراسته والتعامل معه من منظور حداثى أى علمى وعقلانى ووفقاً لخصوصية المجتمع العربى. ووفقا لهمومه والتحديات التى يواجهها من جهل وفقر ومرض وتخلف - بالإضافة إلى صراعاته السياسية والمصيرية. لذا يتطلب الأمر إعادة النظر فى مفهوم (الفرجة) بعد أن اكتشفنا أن المشاريع المسرحية التى أرادت تقديس الماضى واستعادة التراث قد سقطت للأسف فى (الهوية الماضوية) الخالصةـ كما سقطت مشاريع أخرى ذات منحى تغريبى فى المركزية الغربية وغيرها متأرجح بين الهوية والاختلاف، والآنية والغيرية، كما يشير (د. خالد أمين - المغرب فى ورقة بحثه بمهرجان القاهرة التجريبى - 2004). فمسرحنا الآن يحتاج إلى العمل المبدع الخلاق الذى تبدعه ذوات متمردة تسعى لإثبات حضورها الثقافى  والفنى فى تعاملها مع فن المسرح.. بغض النظر عن كونه كان وافدا علينا منذ القرن التاسع عشر أو أصيلا - لكى تظل حركة المسرح العربى متنوعة ومتواصلة مع عالم الإبداع الغامض والساحر، وذلك لكى يصبح لهذا المسرح خطابا أكثر فاعلية وأكثر رقيا فى تأسيس مفاهيم مختلفة - وكى تأخد الموضوعات المقترحة فى العروض مسارا أكثر حرية فى التناول وعمق الطرح، وتوظيف التقنيات الأكثر حرفية فى صنع الفرجة ليصبح مسرحا عربيا متجددا فى صيغة الجمالية وفى أبعاده الفكرية، ومختلفا عن القديم الموروث، وفى نفس الوقت نسعى إلى التخلص من تقاليد المسرح الغربى، وإيجاد سبل أخرى قد تنبع من الموروث ومن غيره من المنابع لكى يصبح لمسرحنا مكانا احتجاجيا وفكريا، ملتزما بالتعبير عن الإنسان العربى وقضاياه وصراعاته.. وذلك بإنتاج النصوص المسرحية القوية التى ستخلصنا من النصوص الهزيلة الوافدة. التى يؤلفها المخرجون وبتقنيات مصطنعة، ومن خلال هذه النصوص القوية نسعى إلى إيجاد (مسرح بديل) يأتى بعد دراسة جذور المجتمعات العربية مع دراسة الاتجاهات المختلفة فى مسرح الغرب بعد التخلص من تبعيته والشعور بالدونية تجاهة، وكذلك دراسة مسرح الشرق للتواصل مع ما يناسبنا من أساليب تم تجريبها وأثبتت وجودها فى كل من الشرق والغرب، فلا مفر من أن يصبح المسرح  القلب المشترك للانسانية، ولكى لا تحاصرنا الشوفنية والشعور بالدونية والبحث عن هويتنا المسرحية الاصيلة تجاوبا مع هؤلاء السابقين الذين سعوا الي تأصيل هذه الهوية...


عبد الغنى داوود