إشكاليات تأصيل المسرح العربي (1)

إشكاليات تأصيل المسرح العربي (1)

العدد 753 صدر بتاريخ 31يناير2022

يتعرض المسرحي التونسي الكبير (د. محمد المديوني) في كتابه الأكاديمي والتأسيسي الهام «إشكاليات تأصيل المسرح العربي» [المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون] بيت الحكمة 1993 – لكل من تصدي لتناول قضية تأصيل المسرح العربي بداية من الرائد (توفيق الحكيم) وكتابه «قالبنا المسرحي» 1967، والدكتور (على الراعي) «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» 1968 و(سلمان قطاية) وكتابه «المسرح العربي من أين وإلي أين» 1972، و(حسن المنيعي) «أبحاث في المسرح المغربي» 1974، و(فرحان بلبل) وكتاب «المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة» 1984، و(روجيه عساف) ، «المسرحية ، أقنعة المدينة» 1984، و(عبد الكريم برشيد) في «حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي» 1985، و(عبد الفتاح قلعجي رواس) في «مسرح الريادة» 1980، و(محمد عزيزة) بالعربية وكتابه «الأشكال التقليدية للفرجة» 1975، كذلك تعرض لمقالات (يوسف إدريس) «نحو مسرح مصري» ثلاث مقالات 1964، ود(عبد الحميد يونس) «مسرح الفولكور» 1969، و(وليد إخلاصي) ومقال «النص المسرحي بين التعريب والتجريب» 1977، و(فرحان بلبل) «شخصية المؤلف المسرحي العربي وتأثره بالتيارات المسرحية العالمية» 1977، و(شريف خزندار) «اتجاهات المسرح في العالم الثالث» 1977، و(أدونيس – على أحمد سعيد) «خواطر» 1977، وأعيد نشره بعنوان «فاتحة لنهايات القرن - بيانات من أجل ثقافةعربية جديدة» 1980، و(عبد الكريم برشيد) «ألف باء الواقعية الاحتفالية في المسرح» 1977، ومقال في التطور المستقبلي لتعريب المسرح العربي» 1980، و(سعد الله ونوس) في «ملاحظات حول الاقتباس والإعداد المسرحي» 1978، و(روجيه عساف) في «مسألة التمثيل في المجتمع» 1983، و(عبد الفتاح قلعجي) في «مشروع أخر في المسرح العربي» 1983، ومقال (شريف خزندار) بالفرنسية «من أجل إعادة ابتداع تعبير درامي عربي» وفي إدماج هذا التعبير ضمن الوسائل السمعية والبصرية.. 1969.
ويضيف إلى تلك الكتب والمقالات مجموعة من البيانات حول إشكاليات تأصيل المسرح العربي ، وهي بالعربية: «بيانات لمسرح عربي جديد» لسعد الله ونوس 1970، و»نحو كتابة مسرحية عربية حديثة» لعز الدين المدني 1978، وبيانات حول المسرح الاحتفالي (لعبد الكريم برشيد) وهي: البيان الأول 1979، البيان الثاني 1980، (البيان الثالث) 1981، و(البيان الرابع) لم ينشر قبل هذه الدراسة ، وبيان «الحكواتي» لروجيه عساف، وبيان أخر لروجيه عساف بالفرنسية وعنوانه «ملاحظات حول المسرح»، ومقدمة «يا طلاع الشجرة» لتوفيق الحكيم  1962، و(تزييل لمسرحية «الورطة» تحت عنوان (لغة المسرحية) – 1966، و(مقدمة) مسرحية «المهزلة الأرضية، و»الفرافير» ليوسف إدريس 1966، وبعض ملحوظات عن تمثيل رواية «الفرافير» 1966 و»رأس المملوك جابر» هوامش العرض والإخراج 1971، وتذييل مسرحية «الملك هو الملك» لسعد الله ونوس بعنوان (إيضاحات) 1983، مُقدمة مسرحية «سهرة مع أبي خليل القباني (لونوس) بعنوان (بعض الملاحظات الضرورية) 1978، و(مقدمة مسرحية وديوان الزنج) بعنوان (بيان حول استعمال الفضاء المسرحي في هذا الديوان) لعز الدين المدني 1983، مُقدمة مسرحية «عرس عربي في سفر برلك» لعبد الفتاح قلعجي، 1984.
وعلى مدى (529) صفحة يتناول المسرحي الكبير (د. محمد المديوني) إشكاليات تأصيل المسرح العربي، في استفاضة وتعمق ودقة مُعتمدا على كثير من المراجع والمعاجم، والمراجع باللغة الفرنسية، والكتب العربية لأعلام الثقافة في الوطن العربي، وكذا المترجمة التي تدور حول نفس القضية (103 مرجع)، وكذا الكتب باللغة الفرنسية (43) كتابا، ومقالات حول نفس الموضوع (61) مقالاـ ومقالات باللغة الفرنسية (29) مقالاـ وثمانية (8) من النشرات والندوات والمحاضرات (المقرونات)، وكذا (7) بالفرنسية، ومشيرا إلى (338) من (الأعلام) الذين جاء ذكرهم في الكتاب.
وقد قسم (المؤلف) كتابه إلى أكثر من عنوان يبدأه (بمثابة مقدمة) وخمسة (5) فصول ذات عناوين مختلفة يبدأها بالفصل الأول وعنوانه (المسألة والطريق إليها) أو (مسألة تأصيل المسرح العربي) يتناول فيها طبيعة المسألة وثلاث عناوين داخلية بعناوين (تأصيل المسرح العربي ظاهرة، وتأصيل المسرح العربي مطلب عام، والطابع الإشكالي للمسألة، والطريق إلى المسألة، وأهداف البحث والصعوبات المعترضة، وطبيعة المراجع، وطبيعة المدونة النصية وتضم (طبيعة المدونة النصية والمصادر الرئيسية، وكيفية معالجة النصوص).
و(الفصل الثاني) بعنوان (الأرضية الفكرية للمسألة ويضم (لماذا هذا المفهوم، لماذا تأصيل دون غيره؟، دلالات المفهوم وأبعاده، في خطاب النقاد والمبدعين، ومداخلاتهم في الخطاب الفكري، والأصالة والتأصيل والعلاقة بالغرب، والأصالة بمعني الخصوصية، والخصوصية والمثاقفة، الخصوصية والثقافة الشعبية، وكذا الثقافة العضوية، والخصوصية بين المحلية والقومية في كافة الأقطار العربية، وبين المشروعية والتعلة، وموقع تأصيل المسرح العربي من حيث المفهوم وأبعاده)، ويتضمن (الفصل الثالث) وعنوانه (المعُبر عنه من دواعي التأصيل ومن المنطلقات، وموقع الخصوصية من نصوص الخطاب، والدواعي المعُبر عنها، وعن الطابع الغربي للممارسة العربية للمسرح، وعن أهمية الفن المسرحي بالنسبة للعرب، وعدم الرضا بالممارسة العربية للمسرح، ومظاهر الردادة الداعية إلى التأصيل، ومنطلقات الدعوة إلى التأصيلية، وتوضيح صور الاختلاف في منطلقات الدعوة إلى التأصيل ودلالاتها، وحد جوهر هذا الفن، ومواصفات الهوية العربية، وما وراء المعبر عنه من الدواعي ومن المنطلقات؟
ويتناول (الفصل الرابع) موضوعات (غير المعُبر عنه من الدواعي إلى التأصيل ومن المنطلقات) ويتناول عمق الشاغل وعراقة الهاجس، وهاجس السبق، ومظاهر العراقة في شاغل التأصيل، والنقلة النوعية في خطاب المعاصرين التأصيلي، والتيار القومي وأبعاده الثقافية، وتجذر الأنساق الفكرية القوية ومكانة المدى الثقافي فيها، وتزامن الخطاب التأصيلي المعاصر مع تجذر الفكر القومي، وسمات التفاعل وطبيعته، مع المسرح الغربي وطبيعته وواقع المسرح الغربي وطبيعة خطابه، والخطاب المسرحي الغربي المعاصر، وصور التفاعل مع الخطاب المسرحي الغربي المعاصر وقنوات هذا التفاعل، وسمات التحول إلى الخطاب المسرحي العربي المعاصر وأسبابه، الخطاب (اليونسكوي) نسبة إلى منظمة (اليونسكو) قناة بين خطابين،  وأخيرا ماذا وراء الدواعي إلى التأصيل ومنطلقاتها وفكره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحق انتفاع كل البشر من الانجازات العلمية والمعرفية ، وحقهم في المشاركة في الحياة الثقافية.
وأخيرا يتناول (مسالك التأصيل) في (الفصل الخامس) من هذا الكتاب فيبحث في موقع هذه المسالك من خطاب التأصيل وسماتها، إذ يرى الباحث الكبير (د. محمد المديوني) (المنطلق الثاني)  في نص (يوسف إدريس) التأصيلي هو الأساس الذي تواترت أهم مقولاته - بحكم اسبقيته- فبعد أن ألح على إبراز مظاهر التناقض بين المسرح الأوروبي ونتاجاته مع طبيعة الفكر والحس العربيين ، بُعد أن أكد في مقالاته الثلاث أن المسرح بشكله أن هناك ثلاثة مظاهر تجسدت في إطار تأصيل المسرح العربي، ويتبني المظهر الأول (شريف خزندار) في نصه «من أجل إعادة خلق تعبير درامي عربي، وإمكانيات توفيق، الشكل الدرامي العربي المرتقب في إطار الإذاعة والتليفزيون والسينما وكذا (سلمان قطاية) في كتابه «المسرح العربي من أين وإلى أين»، وكذا (عبد الفتاح قلعجي) الذي يتناول مسائل التأصيل العملية في شكل جمل تناثرت على امتداد متن نصه ذاك، وأن (ادونيس) و(فرحان بلبل) لم يخرجا من هذا المسلك على ما بين رؤاهما من التعارض المزعوم، حسب تعبيره وأنه هو الذي قضي على مسرحنا الخاص بنا، والذي كان محتما أن يظهر إلى الوجود يوما، وأن الخلاص من هذا الوضع إنما هو القطع مع هذا المسرح الأوروبي سواء منه المنتشر بين العرب عبر الترجمة والاقتباس أو من خلال ما ألف الكتاب العرب ويؤلفون، أو ما أنجزة مسرحيوهم وينجزون من أعمال فنية تسير على منوال النماذج الغربية  أما (المظهر الثالث) فيتمثل في ثقل وزن مسالك التأصيل التنظيري وأولويته فيها قياسا على مسالك التأصيل المرتبطة بالممارسة الإبداعية لهذا الفن فلقد ذهب البعض منهم - شأن (يوسف إدريس) مثلا إلى اعتبار معالجة مسألة تأصيل المسرح العربي، وضعا لألف باء مفهومنا ليس فقط لمسرحنا على حد تعبيره، وإنما لفنوننا عامة]، واعتبر أخرون أن الأمر الأهم في عملية التأصيل متمثل في الوقوف على ضوابط خصوصية، وبها يحد هذا الفن وعلى أساسها تقوم نتاجاته في حين بدت الوجهة الانجح في جهد تأصيل هذا الفن عند أخرين منهم  متمثلة في بناء نظرية عربية تكون السند الفكري-  كما يشير (عبد الكريم برشيد) للإبداع المسرحي العربي.. بل يري بعضهم إنجاز مسرح عربي مشروطا ببناء نظرية لهذا المسرح ، ويري [أنه من الطبيعي أن يعمد المُقدم على  فعل التأصيل/ التأسيس هذا إلى (حد) لمقولات التي عليها ينبني فعله ذاك، وحسبها تتوجه رؤاه واختياراته فيه تجاوز للعقبات الفكرية التي تقف دون تطلعاته تلك، وأهم ما يعترض سبيل الساعي إلى تأصيل المسرح العربي إنما هي مسألة العمق المفقود للممارسة العربية لهذا الفن، فلا يكاد ينظر كتاب من الكتب المتداولة للممارسة العربية بالدرس أو التأريخ من الإلحاح على [حداثه الفن المسرحي عند العربي وعلى غياب التقاليد عندهم مما جعل أسباب الغياب مجالا خصبا لبحث الباحثين، ويؤكده رأي الغربيين من أنه منذ سنوات العشرين الأولى من القرن العشرين بأنه إلي يومنا هذا (1993) لا يوجد في رأيهم ، دراما عربية.. بل يوجد فقط (دراما باللغة العربية) لأن جميع المسرحيات التي ظهرت في لغة  سيدنا محمد ليست إلا ترجمات وعلى أحسن الفروض، تقليدات تحاكي الأعمال الأوروبية.. لذا فقد اعتمد (محمد عزيزة) مثلا على صيغة هذا التعبير حرفيا في رسالته «الإسلام والمسرح» ، وعمد (شريف خزندار) إلى استعمال عناصر التعبير عينها ونصه التأصيلي الرئيسي «اتجاهات المسرح في العالم الثالث» واستعمل (عبد الكريم برشيد) مكونات هذا التعبير ذاتها في مناسبات عدة، وقد ذهب أصحاب نصوص الخطاب التأصيلي في تلك المعالجة مذاهب فمنهم المقر بأسبقية المسرح الغربي والمعتبر إياه ولمقولاته نموذجا تجريديا يقوم على شروط محددة لا يمكن أن تستقيم للإبداع سمته المسرحية دون توفرها ولا يمكن أن تتم لهذا الإبداع المسرحي أصالته ما لم تنغرس تلك الشروط في الواقع الحضاري والفكري الذي إليه ينتمي المبدع، كما يشير (أدونيس) و(محمد عزيزة) منهم  المشكك ثمة السبق التي رُسم فها المسرح اليوناني  الرافض لمبدأ سلالات الفنون كما يقول (روجيه عساف) ومنهم المؤكد معرفة العرب الشرقيين عامة لصور من هذا الفن والمعتبر جهلهم به في صورته اليونانية تلك (إن كان لا يعني بالضرورة نقصا في ذواتهم، ويضيف (المؤلف) أن الكاتب المسرحي التونسي (عز الدين المدني) قد ذهب إلى اعتبار الخوض في هذا الموضوع بالنسبة إلى المبدع، من باب الخوض في مجال هذا الفن، وإلى نفي احتكارهم لبداياته وأصوله.. وذلك دون تعليل للأمر من لدنه ولا تحليل، فطرح سؤالا في فقرة من نصه التأصيلي الثاني (نحو كتابه مسرحية عربية حديثة)، وأجاب عليه فيها يسأل بشكل بدا معه المبدع، في رأيه غير معني يمثل هذه المسائل فقال: (هل وجد المسرح في العصور العربية الإسلامية الماضية؟) ويقول: إن المسرح لم يبدأ في أصله بالمأساة، من ناحية وأنه بين المأساة الغربية أو المأساة الشرقية تباينا جذريا كبيرا من ناحية أخرى ..مما يؤكد المكانة التي تحتلها مسألة العمق المفقود في ذهنية الداعين إلى التأصيل وفي منطق خطابهم ويقرر (المؤلف) أنه إذا استثنيا وقف (أدونيس) ، و(فرحان بلبل) فلا ناكد نعثر على رأي واحد يرفض المؤلف رفضا قطعيا البحث عن (العمق المفقود) في إطار هذا الفن في أن عبر عن الأمر بشكل تقريري في مقدمة مسرحية (ديوان الزنج) ومسرحية (الغفران) إذ قال: ... لأنهم بتقاليدهم وبالفنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثلا ، جعلوا من الفن المسرحي فيها مقصورا على الحضارة الأوروبية في حين أن الشرق القديم قد عرفه حق المعرفة بتقنيات وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح الغربي وأشكاله].
وفي إطار تأصيل هذا الفن، وذلك على اختلاف المجالات المبحوث فيها عن هذا (العمق المفقود) يرى المؤلف أن الهدف المعلن الجامع فيتمثل في العمل على الخروج من مسالك التقليد في ممارسة هذا الفن والسعي إلى رسم الطريق المناسب لإبداع نتاجات مسرحية أصيلة تتناغنم مع هوية العرب وتترجم عن شواغلهم ترجمة حقيقية لكن العائق الأساسي يتمثل في الجهاز الفكري والجمالي الذي يتركز عليه المسرح الغربي السائد، والذي يؤدي إلى الإقرار بما يعتمد فيه من ضوابط ومقاييس، وبما يحيل  من رؤى ومراجع وإلى اتصال أثر (المثاقفة) في النتاجات المسرحية ليزداد تأييد وصلة التقليد والتبعية ويرى: أنه يكاد يسير أغلب الداعين إلى التأصيل على خطي (يوسف إدريس) فلقد أنتج (شريف خزندار) مثلا نص مداخلته بتحديد مقدمتين على أساسهما انبنت دعوته التأصيلية تمثلت أولاهما في اعتبار معرفة العرب، منذ قديم الزمان بالتعبير الدرامي بشكل مخصوص أمرا لا مجال للشك فيه، وعلل (خزاندر) اعتماد تعبير (إعادة خلق) لتعبير درامي عربي في نصه هذا، بدلا من عبارة (خلق..) أما ثانيتهما فتتمثل في اعتبار الفن المسرحي ظاهرة شعبية كونية لا قواعد ولا قوانين مضبوطة تحدده إلا ضرورة توفر عنصري (الباث والمستقبل) الذين قد يندمجان إندماجا في عنصر أوحد وأن المهمة فتتجلي في إعادة تأريخ الممارسة العربية لهذا الفن ورفض أغلب ما ذهب إليه المؤرخون للمسرح العربي في اعتبار (مارون النقاش) وأبي خليل القباني) وتابعيهم روادا للمسرح العربي (ونشير هنا إلي اسقاطه لدور (يعقوب صنوع) في رياده للمسرح المصري)؟ وذلك بإدخالهم الشكل الغربي للمسرح ففتحوا المجال في رأيه إليى رجال المسرح الجدد حتى يهدموا المسرح العربي، وعلى نفس المنهج سار (سلمان قطاية) عندما اعتبر هؤلاء الرواد يمثلون البداية الخاطئة التي أسست المنحي التقليدي، وعطلت المدى الإبداعي الشعبي كما جاء في كتابه «المسرح العربي من أين وإلي أين» فقد خصص القسم الأكبر من نصه التأصيلي استعراض مختلف الأشكال والمظاهر التي عرفها لتعبير (الدرامي العربي) سواء منها ما تعلق بالطقوس قبل الإسلامية أو بالمظاهرات الدينية الإسلامية أو المنسوبة إليها أو بالاحتفالات والتقاليد والأساطير الشعبية، أو بملاهي الملوك أو بمسرح الظل وصندوق الدنيا، أو بالشعر والموسيقي إضافة إلى الممارسات المسرحية التي عرفها منذ عصر النهضة القريبة من الشكل الغربي، وخص شكلي (التعازي الشيعية) و(مسرح الظل) بمزيد من الاهتمام كما فعل (سلمان قطاية) في نصه التأصيلي على (التعازي) القادرة على أن تحقق (العمق المفقود) والصورة الممكنة للمسرح التراجيدي العربي وكذا شخصية إلى (يزيد الإسكندري) في (مقاماته) صورة للمثل الكوميدي العربي الممكن، ويشترك (روجيه عساف) مع (شريف خزندار) في التطلع إلى إحداث قطيعة مع المسرح الغربي وأسسه من ناحية، وفي سعة الإطلاع على المسرح الغربي من ناحية أخرى .. ليكون أقدر على التفطن إلى حقيقة العراقيل والفخاخ التي تقف أمام من يروم تحقيق القطيعة الفعلية بحكم تعمقه في دراسته، وقد ألح (عز الدين المدني) على محدودية مساعي النظرة الفولكلورية لهذا الموروث فرأي أنه: (لا يمكن بالنسبة لرجل (وهكذا المسرح سواء كان مؤلفا أو مخرجا أن يستعمل (المداح) مثلا في عمله المسرحي، حتى يكون عمله هذا عربي المشاغل والإطار لأن (المداح والكراكوز إسماعيل باشا) ليسوا إلا ظاهرة فولكلورية ذات أصباغ زاهية يرتاح إليها الصبي وينتعش بها الشيخ، وتزهو في عين الزائر كفولكلورية الأماكن السياحية.
ويرى (الباحث) أن الإشكال الأساسي الذي عنه تولدت أهم العراقيل التي أربكت الداعين إلى التأصيل والتي تمثلت في محاولات تغطية مرتكزات الإستراتيجية المحورية إنما هو كيفية تحقيق التطابق بين هويتين تنتميان - من ناحية - وإلي مجالين مختلفين هما الهوية القومية وهوية جنس من التعبير الفني، وتتسم العناصر المكونة لكل واحدة منهما من ناحية أخرى إلى رؤى للعالم متناقضة تحيل إلي مراجع فكرية متنافرة سبق أن وقفنا بشكل بين على صور من تضاربها وتنافرها من بحثنا هذا إلا أن العراقيل والفخاخ التي تعترض المتطلعين إلى التأصيل التنظيري تتجلي بشكل أوضح في مسعى هؤلاء إلى الإقناع بمصداقية فعلهم ذلك،  وضمان هذه المصداقية رهين القدرة على الإقناع بأن بناء السند الفكري والجمال العربي - من خلال المزاوجة بين الوقوف على (العمق المفقود) لهذه الممارسة وبين كسر الجهاز الفكري والجمالي للمسرح الغربي السائد.. لا يعني التفريط في ما يمكن أن يضمن لنتاجات فعال التأصيل ما به يتحقق انتماؤها إلى الفن المسرحي ، وما به تتميز هذه النتاجات عن نتاجات أجناس التعبير الفني الأخرى.
ويشير (المؤلف) إلي غياب النظرة التاريخية عند (روجيه عساف) لأنه ربط بين ظهور المسرح وبين نشأة المدينة الغربية بعكس نص (سعد الله ونوس) الذي يترجم بوضوح عن شاغل (التاريخية) هذا ، والذي يتمثل في مقاربته النظرية من (اعتبار الجمهور المدخل الأساسي والصحيح للحديث عن المسرح، وأنه يربطه بالجمهور .ويتجلي المسرح أولا وقبل كل شيء فناً من فنون الفرجة، وهو (ثانيا) حدث اجتماعي باعتباره فنا من فنون الفرجة، ويري أن المجال الذي حدده للبحث عن (العمق المفقود) للمسرح العربي لم يكن في التراث الفرجوي والسردي العربي، وإنما في ممارسة الرواد من أمثال (مارون النقاش ,أبو خليل القباني ويعقوب صنوع) وتابعيهم، وفي هذا قرار ضمني بحصول تراكم في مجال الممارسة للمسرحية العربية، بالإضافة إلى الحس السليم واقتباس المسرحيات العالمية بدلا من تقديمها ومعرفتها، ويتجلي دور العمق المفقود من خلال القول إننا نفتقر كثيرا للعودة إلى تلك الفترة، ودراستها جيدا حتى نكتشف الي أي حد كانت البدايات طافحة بالحركة، هو رأي يتعارض مع آراء أغلب المؤرخين في المسرح العربي ونقاده، وإنما هي لفت الانتباه من ناحية إلى أن عمق الممارسة المسرحية الحالية الذي يمكن أن يبحث عنه من داخلها شريطة توفر النظرة السليمة للأعمال المتراكمة فيها.
ويقول (المؤلف): ولعل أهم ما كان موضوعا للاختلاف في هذا الخطاب التأصيلي قد تعلق بالمعنى الذي تحدد لمفهوم (الأصالة) وبالمقصد من تأصيل المسرح ذاته  -  فقد تجلت لنا فيه من خلال تحليلنا لنصوص الخطاب التأصيلي ثلاث وجهات نظر أساسية تتضمن كل واحدة منها مسارا محددا وتعتمد جهازا من المقدمات فريدا.. أما (الوجهة الأولى) فنرى أن (العراقة) هي المعنى الأساسي للأصالة ورفض إتباع (الوجهة الثانية) وهي تنزيل العراقة هذه المنزلة، ومرده الخوف من الانسياق إلى الإنكفاء إلى الماضي والميل عن المقصد من التأصيل الذي تجلي في منظورهم انغراسا في الراهن وجهدا للتعبير عنه وفيه، قبل كل شيء.. أما (ثالث الوجهات) فلا يعتبر أتباعها أي (العراقة) مرادفة للأصالة تماما مثل ما ذهب إليه أتباع (الثانية) فإنهم لا يرون في الانغراس في حاضر الناس الراهن والمعيشي وفي البحث عن شواغلهم السياسية والاجتماعية المباشرة أولوية خاصة للوصول إليه، وإنما يتمثل أساس الأصالة حسبها في توفير (مشكلية درامية) مخصوصة، هي الأساس.. في عُرف أصحاب هذا التوجه ، لنشأة أي المسرح والطريق إلى ذلك تمثل حسبهم في مسرحه شرط الإنسان ومصيره، وهذه المسرحة سؤال – في رأيهم – ليس جوابا، وهذا يعني بصورة من الصور ضرورة التأصل في القضايا التي تثيرها المشكلة الحضارية العامة كما يشير (أدونيس) على سبيل المثال في كتابه «نقائض في المسرح العربي»، وقد لاحظ (المؤلف) إجماعا، على مستوي الخطاب، حول الوظيفة التغييرية للمسرح المنشود هذا، وحول ضرورة تحقيق التميز عن المسرح الغربي، وأن على مسرحنا ألا يربح المتفرج أو ينفس عنه كربه.. بل على العكس - المسرح الذي يعلق ويزيد المتفرج احتقانا، وفي المدى البعيد يُهيئه هكذا لمباشرة تغيير (القدر)، ويري أن السر في الأمر كامن في مفارقة أساسية تتمثل في سعي أغلب أصحاب النصوص التأصيلية إلى التنظير على غير أساس يسمح بفعل التنظير ذاك، إذ لا يمكن أن يستقيم فعل التنظير في أي مجال مهما كان، ما لم يتوفر فيه حد من التراكم الكمي والنوعي على مستوي الممارسة غير أن استعصاء تحقيق نظرية عربية تخرج عن طول جهاز المسرح الغربي ليس أمرا غريبا إذا ما قدر المرء حق قدره طابعي التنوع والاختلاف في الممارسة الغربية للمسرح، من ناحية،وسمات هذا الفن وجوهره في نظر أهل الغرب من ناحية أخرى، لأن غياب التراكم في الممارسة العربية للمسرح وغياب الوعي به، إضافة إلى انعدام التراكم التنظيري لهذا الفن وفنون الفرجة والعرض عند العرب، والتي تفسر كلها لماذا كانت أكثر النصوص التأصيلية العربية الساعية إلى التنظير تماسكا هي تلك النصوص التي اتكأت على أيديولوجية ذات مرتكزات مرجعية محددة.. تحولت فيها نقطة الارتكاز في التحليل والمراجعة والتقويم من المسرح إلى مقولات هذه الأيديولوجيات، وطرق إنجاز تطلعاتها في المسرح.. فكذا كان الأمر بالنسبة إلى (روجيه عساف) – مثلا – الذي استعمل نصه «المسرحية من قناع المدينة» إلى محضر إدانة للغرب.. كل الغرب باعتباره قامعا للشعوب لأنه كافر بالله، وجاهل، وأصبح نصه أقرب ما يكون إلى التبشير بتعاليم الإسلام من وجهة نظر سلفية لا تُخفي تشيعها العلوي، ولا تتواني طبعا عن تكفير كل من خرج ويخرج من وجهة النظر هذه، فكاد يستحيل المسرح في هذا الكتاب إلى مجرد نقلة، وكذا كان الأمر بالنسبة إلى (سعد الله ونوس) الذي أعلن انحيازه إلى الطبقات الكادحة، وأعتبره دور الفنان الأوحد هو خدمة الجماهير والعمل على تغيير واقعها، فكانت صورة هذا الفنان أقرب ما تكون إلى المناضل السياسي المتشبع بمقولات القومية الدينية، ذات المنحي الاشتراكي وبدت من وراء ذلك صورة المسرح المنشود أحادية التوجه رغم ما أدخل على نصه بين الحين والآخر من تدقيقات وتعديلات تبرز جوانب في الممارسة المسرحية أخرى ..على عكس (فرحان بلبل) الذي بدت توجهاته الأيديولوجية في مستوي الخطاب، قاطعة باتة.. فلقد حدد مثلا (الهوية) الواجب تحقيقها في المسرح المنشود بناءًا على اختزال الفروق بين شتي المدارس المسرحية بشكل بدت فيه هذه الأخيرة منتمية إلى نوعين اثنين لا ثالث لهما:


عبد الغنى داوود