علي الراعى.. الناقد المنحاز للشعب

علي الراعى.. الناقد المنحاز للشعب

العدد 769 صدر بتاريخ 23مايو2022

على الراعي الناقد الذي يلم بحقول معرفية متعددة ليجمع في أعماله بين البساطة والعمق منحازا للشعب ومحاولا توسيع دائرة الثقافة حتى لا تقتصر على النخب فقط ..

 نشأ في أحضان جيل كان همه التأسيس والبناء ، حيث أمن هؤلاء بفن المسرح، وآمن هو بضرورة وصوله للشـعب الـذي اعتبره مصدرا لإبـداع الفنان، لم يكتفى بدراسة النظريات والاتجاهات المسرحية قديمها وحديثها وتطبيقها، بل راح يبحث عن أصل الظاهرة المسرحية في مصر والعالم العربي ، وأخذ على عاتقه مهمة أن يربط بين الكتاب المثقفين وبين تراث الناس في المسرح ، لكى يحقق هذا الهدف قطع أرض المسرح المصري مسافرا عبر الزمان والمكان مع الأراجواز وخيال الظل والمحبظين والمقامات التي رأى فيها ظواهر مسرحية وليدة - اجهضها الواقع الذي - يحرم التمثيل في عصور الاضمحلال، مرورا بيعقوب صنوع رائد المسرح المصري في العصر الحديث ، ثم نجيب الريحاني وعلى الكسـار ويوسف وهبي ، وصولا إلى نعمان عاشور و الأجيال المعاصرة . 

قطع أرض المسرح العربي من المحيط إلى الخليج مترجلا ومتجولا هنا وهناك، من الأصول والتراث والمسرح الشعبي في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وتقصى المسرح في دول الخليج وكذلـك المغرب العربي، وعاد إلي الـوراء، فدخل قصور الخلفاء وشاهد الألعاب والمسليات والرقص والموسيقي، وقدم الطقوس الاجتماعية والدينية التي عرفها العرب قبل الإسلام والتي لم تتطور إلي فن مسرحي، وشاهد مسرح خيال الظل الذي عرفه العرب ايام الخلافة العباسية، وفي خطوة أولى ومبكرة قطع أرض المسرح العالمي حين سـافر إلي

 إنجلترا من خلال بحثه حول( برنارد شو ) ليقرأ ويدرس "روافع الأدب العالمي". 

يتعمد الراعي ان يقدم للقارئ المصري والعربي لمحة عن المسرح العالمي، منذ كلاسيكيات المسرح اليوناني وحتى الاتجاهات المسرحية الحديثة في القرن العشرين. بعد عودته من البعثـة قدم للقارئ كتاب "فن المسرحية" عـام 1959 وفيه يعلن عن منهجه وعن شخصيته في الكتابة فهو يتوجه للقارئ بأسلوب بسيط وكأنه يلقي درسا على القارئ في فن المسرحية، 

يبدأ من أرسطو وتعريفه للقصة الممسـرحة ذات الهدف، أي القصة التي ترمي إلى تقديم الحدث تقديما فنيا خاصا، ويأخذ بيد القارئ ليرشده إلي هذا الفن ويخبره بأن المسرحية قصة وحركة وشخصيات ثم يتناول بالشرح والتحليل هذه العناصر واحدا واحدا.

حين أطلقت وزارة الثقافة والإرشـارد القومي سلسلة روائع المسرح العالمي جاء العدد الأول بتوقيع علي الراعي الذي ترجم مسرحية "الشقيقات الثلاث" لأنطوان تشيخوف مع دراسة شاملة عن هذا الكاتب ومسرحه، أبرز فيها تشكك تشيخوف في مسرحه ! وفاجأ قارئه بأن هذا الكاتب العظيم أبدى مجموعة من الملاحظات على مسرحياته حين قال عن "2الشقيقات الثلاث" بأنها ليست مسرحية وإنما شلة من الخيوط أما "بسـتان الكرز" ففيها شيء من التطويـل "وخالف الراعي تشيخوف ونقاده ورأى أن الكاتب نفسه لا يدرك مبلغ الأصالة والطرافة اللتين يقدمهما في مسرحياته، فشلة الخيوط التي يتوه فيها قلمه والتطويل الذي يشكو منه هي العناصر الفنية التي ابتكرها الكاتب لكي يعبر تعبيراً مجسداً عن شيء ثمين بالنسبة لمسرحة، وجاءت الدراسة لتضع القارئ ليس فقط في عالم تشيخوف بل بمثابة نافذة على المسرح العالمي المعاصر. 

تولى الراعي مسئولية مؤسسة المسرح عام 1959 وحتى 1967، ليقود الحركة المسرحية في أزهى حقبها، ساهم في بناء ما يعرف الآن بمؤسسـة مسـرح الدولة ، له الفضل في تأسيس جزء كبير من البنية الأساسية لهـذا الكيان، مثل فرقة لمسرح العرائس، وفي أوائل الستينيات أنشأ الإدارة الثقافية ، لتاريخ المسرح ووثائقه والتي كانت نواة لما يعرف الآن بالمركز القومي للمسرح والموسيقي، كما أنشأ الفرع المصري للمعهد الدولي للمسرح برئاسة توفيق الحكيم، 

اصبحت مصر أول دولة عربية تفتح فرعا لهذا الكيان على أرضها، له الفضل أيضا في تأسيس الفرقة القومية للفنون الشعبية التي انبثقت منها فرقة رضا، في عهده أقيم أول مهرجان لمسرح الأقاليم، وكما عايش وساهم في سنوات الازدهار، عاش فترات التراجع والنزاعات والخلافات والمؤمرات وأكتوى بنارها، ليترك القيادة العملية ويتفرغ للقيادة النظرية والفكرية، فما قدمه الراعي في مؤسسة المسرح هو مشروعه الثقافي وإيمانه بالمسرح، بعد عام واحد أصدر كتاب الكوميديا المرتجلة، ثم فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني، ثم دراسة لمسرح الدم والدموع . 

والكتب الثلاث صدرت بعد ذلك فى كتاب جامع الثلاث كتب بعنوان(( مسىرح الشعب)) ، . 

تبحث الكتب الثلاثة في أصول الظواهر المسرحية في مصر، وتؤكد هدف صاحبها وقناعته بالشعب صاحب الحق ، فيقدم بانوراما وافية ودراسة تحليلية لظواهر المسرح المصري، وصولا إلي القرن العشرين. 

في كتابه الأول "الكوميديا المرتجلة"، ينفض الغبار عن فناني مسرح الارتجال، ويؤكد على قيمته وقيمة الممثـل، ويعرض مجموعة من النصوص التي حفظها التاريـخ لفناني الارتجال، 

ونادى الراعي بقوة إلى عودة المسرح المرتجل في مصر ، ورأى فيها مغنماً كبيراً للمسرح المصرى بفنانيه المختلفين، ما بين ممثلين، ومخرجين ومؤلفين.

إن المسرح القائم على فكرة نص مكتـوب مـعـد من قبل، أخرجه مؤلف عبقرى أو موهوب وأصبح وثيقة مقدسة لا يمكن – حذر الموت أو ارتكاب جريمة فنية – أن يتطرق إليه تعديل ؛ لأنه شي، ثابت أزلى لا يـتـغـيـر، هذه الفكرة ستسـلم مـسـرحنا المصري إلى الجمود الشديد ، المهـدد بالموت مثلما حدث فى بلاد أخرى كثيرة . 

أنها مسئولة عن تجمد مسرحنا المصرى على الصيغة التي استوردناها من الغرب والتي ظللنا منذ أواسط القرن الماضي نستخدمها ما بين اقتباس وترجمة. 

وفي كتابه الثاني ( فنون الكوميديا ) يبدأ من مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري "فبعد طول تسكع في الطرقات والمجتمعات وقاعات الدرس دخلت المقامة المسرح" بل ويعود إلي جذور المقامة في أصلها أدب تمثيلي، وأنها من القيام في دار الندوة إبان العصر الجاهلي، يذكر في مقدمة الكتاب قبل أن يقطع أرض - الكوميديا المسرحية من صحراء المماليك وحتى سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأ من الكوميديا الشعبية بكل تجلياتها، وصولا للكوميديا الانتقادية وممثلها نعمان عاشور، أنه أخذ على عاتقه مهمة أن يصل بين الكتاب المثقفين وبين تراث الناس في المسرح و"أنه لا شيء يبرر انعزال كتاب الكوميديا المثقفين عن كوميديا الشـعب، فالكوميديا عندنا بعيدة الجذور واسعة الرقعة ، موفورة الحظ في الوجدان القومي،

 

 فلا مستقبل حقيقيا للكوميديا ما لم تتصل بالكوميديا الشعبية بل بجذورها ". ويتعرض بالدراسة والتحليل لنموذجين كان لهما التأثير الأكبر في بداية القرن العشرين في المسرح المصري وبالتحديد الكوميديا، وهما نجيب الريحاني وعلي الكسار، وكيف استفادا من الكوميديا الشعبية. 

 

الكتاب الثالث ( مسرح الدم والدموع ) دراسة فى الميلودراما المصرية والعالمية . 

يفتح الراعي ملف الميلودراما المسكوت عنه، حيث تمت مناقشتها علي استحياء من قبل، ولكن دون دراسة عميقة لهـذه الظاهرة التي وجدت قبولا لدى المصريين، فسـر ذلك الدكتـور محمد مندور أن الناس في مصر كانوا حزاني مثقلين بالهموم فوجدوا في الميلودراما تنفيسـا عن أحزانهم، لدرجة أن المسرحيين استخدموها في النقد الاجتماعي بدلا من الكوميديـا. وفي هذا الكتاب لم يرفـض الميلودراما أو ينحاز إليها بل طلب من دارسى المسرح أن يعملوا النظر في دراستها بعيداً عن الرفض المسبق ، ففيها من الإمكانات ما يمكن أن يستفاد به لو حسن استخدامها. وبدأ من تراث الميلودراما حين خلصتها الثورة الفرنسية من قبضة النبلاء وإصرارهم الزائف على الفضيلة، ويلاحظ قدرتها على تبني القضايا الاجتماعيـة الملتهبة وإبرازها والتعبير عنها تعبيرا واضحا وملتزما، ويتنقل بين آراء المسرحيين في الغرب تجاه هذا النوع المثير الذي يجذب الجمهور وينحاز إليه بقوة، حيث أنصف الأردايس نيكولا الميلودراما على أنها حاجة نفسية وفنية لدى الجماهير العريضة .. 

لقـد كتب علـى الراعي نقدا مسرحيا من دم ولحم ، يسير فيه الفكر والصنعـة جنبا إلى جنب، ليظل طيلة حياته في رحلة شاقة، واصل فيها البحث عن مسرح عربي يكون أكثر التصاقاً .. 

 

_____________ 

 

 المصدر 

كتاب مسرح الشعب : د على الراعي : الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2020

 


هاجر سلامة