مذكرات عام 1937 هي الأساس

مذكرات عام 1937 هي الأساس

العدد 818 صدر بتاريخ 1مايو2023

عزيزي القارئ.. حانت اللحظة الحاسمة! إنها لحظة الحقيقة والمكاشفة، وأستطيع أن أصدمك بها منذ البداية وأقول: إن «جميع» المذكرات المنشورة بعد وفاة الريحاني أعاد صياغتها آخرون –وفي مقدمتهم بديع خيري– وتحديدا جميع الأحداث والوقائع التي مرّت على الريحاني بعد عام 1937! وبمعنى آخر أقول: «كل» الأحداث المنشورة عن الريحاني في مذكراته من عام 1938 إلى وفاته عام 1949 لم يكتبها الريحاني «نهائيا» رغم وجودها في مذكراته المنشورة بعد وفاته، لأن هناك من كتبها! أما أغلب ما هو منشور في مذكرات الريحاني منذ بداياته عام 1908 وحتى عام 1937 فالريحاني هو أساسها وكتب عنها بالفعل في مذكراته التي اكتشفتها، وللأسف هذه الفترة –من 1908 إلى 1937– أُعيدت صياغتها والتلاعب بها بالحذف أكثر من الإضافة، لأسباب يعلمها الله وحده، وسأجتهد في اكتشافها لأن من فعلوا ذلك –وهم كُثر وعلى رأسهم بديع خيري– تناقضوا فيما فعلوه! لأن إعادة صياغة المذكرات والتلاعب بها بالحذف والإضافة، جاء تارة في صالح الريحاني، وتارة أخرى ضد الريحاني!
وصف المذكرات
عندما أقول -في هذه الحلقة والحلقات القادمة- «مذكرات 1937» فأقصد بها مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة التي اكتشفتها! واختياري لعام 1937 سببه أن المذكرات منشورة في سلسلة مقالات أسبوعية بمجلة «الاثنين والدنيا»، بدأ ظهورها في أواخر أيام عام 1936 وانتهت في الأيام الأولى من عام 1938، مما يعني أن أغلبها تم نشره طوال عام 1937. وكان عنوانها الرئيسي: «مذكرات كشكش بك.. بقلم نابغة التمثيل الكوميدي الأستاذ نجيب الريحاني»! وفي كل حلقة نجد صورة فوتوغرافية وعدة صور «كاريكاتيرية»!
وللأسف هناك صعوبة في تجميع «جميع» الحلقات المنشورة في مجلة «الاثنين والدنيا» لسببين: الأول وجود بعض الأسابيع خالية من المذكرات، والأخرى وجود صعوبة في تتابع الأحداث، حيث إن الريحاني لم يكتب المذكرات بصورة مسلسلة وفقا لتاريخ حياته، بل كان يكتب ما يأتي على ذهنه! وقد أشارت المجلة إلى هذين السببين، فنشرت ملحوظة في أحد الأعداد الخالية من المذكرات قائلة -عن السبب الأول- تحت عنوان «مذكرات كشكش بك»: «لم يتمكن الأستاذ النابغة نجيب الريحاني من كتابة مذكراته في هذا الأسبوع نظرا لتراكم الأعمال في أيام العيد المبارك واضطراره لإحياء حفلتين في كل يوم من أيامه. لذلك نعتذر إلى القراء الأعزاء ونستمهلهم إلى الأسبوع القادم كي يعود إلى مولاة سرد حوادثه الطريفة التي احتلت مكان الصدارة من اهتمام الجمهور، وإن غدا لناظره قريب». أما السبب الآخر، فنشرت المجلة حوله ملاحظة، قالت فيها تحت عنوان «إلى قراء المذكرات»: «ولو أن هذه المذكرات مسلسلة إلا أن كل واحدة منها مستقلة عن غيرها بحيث يستمتع القارئ بلذة حوادثها من غير رجوع إلى ما نُشـر قبلها»!
أما أهم ملاحظة نشرتها المجلة -أثناء نشرها لحلقات المذكرات– فهذا نصها: «... نما إلى الأستاذ الريحاني أن هناك من يعملون على جمع هذه المذكرات لطبعها في كتاب على حدة. وقد أبلغنا أنه يحتفظ بجميع حقوقه قبل هؤلاء ويحذرهم من إتيان أمر كهذا [توقيع] المحرر». وهذه الملاحظة تُفسر كثيرا من الهواجس والظنون التي انتابتني عندما قارنت بين مذكرات 1937 وبين «جميع» المذكرات التي نُشرت بعد وفاة الريحاني، وادعى كل من أعاد صياغتها أو استكمالها أو الحذف منها، أنها مذكرات الريحاني المنشورة في «كتاب»، دون أن يُشير بعضهم –أو أغلبهم– إلى أنها نُشرت من قبل في حلقات! ومن اعترف منهم بذلك لم يعترف بأنه تلاعب بها وأعاد صياغتها وقام بالحذف منها أو الإضافة إليها، ومثال على ذلك مجلة «الكواكب» التي نشرت مذكرات الريحاني في حلقات أيضا عام 1952، وقدمتها بمقدمة قالت فيها: «منذ 15 عاما كانت مجلة «الاثنين» قد فازت بمذكرات فقيد الفن المرحوم نجيب الريحاني، فنشرتها تباعا على قُرائها الذين وجدوا فيها صورا رائعة من حياة الفقيد قدمها بأسلوبه الطريف الذي اشتهر به في مسرحياته.. وقد رأت «الكواكب» في مناسبة الذكرى الثالثة لوفاته، أن تعيد نشر هذه المذكرات». وللأسف الشديد لم تكن المجلة صادقة، لأنها لم تنشر مذكرات مجلة «الاثنين» بنصها، بل نشرتها بعد إعادة صياغتها والتلاعب بها بالحذف والإضافة، والموجودة ضمن مذكرات الهلال، التي نشرها بيع خيري! وهذا الأمر حدث من قبل عام 1949 في مذكرات الريحاني المنشورة في دار الجيب في كُتيب عنوانه «مذكرات زعيم المسرح الفكاهي نجيب الريحاني»، وهو تجميع لبعض حلقات مذكرات الريحاني المنشورة قبل وفاته بقليل في مجلة «الاستوديو» التي هي أيضا إعادة صياغة للمذكرات الحقيقية المنشورة عام 1937.
ورغم كثرة المذكرات المنشورة عن الريحاني بعد وفاته، تظل «مذكرات الهلال» هي الأشهر والأهم حتى الآن، عندما نشرها «بديع خيري» عام 1959 بمناسبة مرور عشرة أعوام على وفاة الريحاني «زاعما» أنها مذكرات الريحاني! والحقيقة أنها مذكرات غير كاملة. ورغم ذلك يجب أن أعترف أن «مذكرات 1937» هي أساس جميع المذكرات بعد ذلك.. والكل أخذها وتلاعب بها وعلى رأسهم «بديع خيري»، لذلك سأخصص مجهودي في بقية المقالات للمقارنة بين المذكرات الحقيقية والمجهولة والمكتشفة «مذكرات 1937» وبين المذكرات المشهورة والمنتشرة منذ عام 1959 وهي «مذكرات الهلال».
المذكرات في حلقات
المسئول الأول عن عدم نشر مذكرات الريحاني الحقيقية والمجهولة والمكتشفة في كتاب مستقل هو «بديع خيري»، وبديع هو أيضا المسئول عن إيهامنا بأن مذكرات الريحاني هي مذكرات حقيقية تُنشر لأول مرة عام 1959، ولم يُقرّ بأن أساسها الحقيقي –قبل أن يتلاعب بها– كان منشورا عام 1937 في مجلة «الاثنين». أما لماذا فعل ذلك بديع، فهذا ما سوف نُشير إليه في موضعه، لأن من المؤكد أن بديعا فعل ذلك بحُسن نيّة تجاه صديقه ورفيق دربه بعد وفاته.
فعلى سبيل المثال، نشر بديع في مذكرات الهلال مقدمة بقلم الريحاني، ووضع لها عنوانا هو «مقدمة صاحب المذكرات». أما ما جاء في هذه المقدمة بقلم الريحاني، هو منقول من مذكرات الريحاني عام 1937، ولم يكن كلاما في المقدمة، بل كان كلاما منشورا ضمن الحلقات وعنوانه «على هامش المذكرات». وربما هذا الأمر يُعدّ عاديا ولا يستحق لوم بديع عليه، ولكن بديعا لم يُغيّر في العنوان فقط، بل حذف مواضع كثيرة وأعاد صياغة أخرى، رغم أنها مجرد مقدمة، والمحذوف كان مهما لأنه يثبت أن هذه المذكرات أساسها منشور عام 1937 في مجلة الاثنين، وهو الأمر الذي أخفاه بديع وحذفه عامدا متعمدا، فالريحاني في مقدمة بديع قال: «قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الأمر كثيرا». أما في مذكرات 1937، فقال الريحاني العبارة نفسها هكذا: «قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي في «الاثنين»، فكرت في الأمر كثيرا»؛ أي أن بديعا حذف مكان نشر المذكرات «في الاثنين». وتكرر الأمر مرة أخرى –في المقدمة أيضا– عندما غيّر بديع وصف الريحاني لممثلتين كونهما «كوكبين لامعين» إلى صيغة الجمع «كواكب لامعة» حتى يحذف بديع تعليق الريحاني المنشور في مذكرات 1937 والمحذوف من مذكرات الهلال، لأن به إشارة إلى أن المذكرات تُنشر في «الاثنين»، ناهيك عن أسلوب الريحاني الصريح، الذي يجعلني على قناعة بأن مذكرات الريحاني عام 1937 هي «اعترافات» أكثر منها مذكرات. أما العبارة التي حذفها بديع من مذكرات الهلال، وذكرها الريحاني في مذكرات 1937، فهي: «... كوكبين لامعين.. التعبير ده مسروق من محرر مجلة (الاثنين). والحق أحق أن يُتبع.. شايف يا عم علشان تعرف إني صريح.. حتى في السرقة!».
وحتى يَحبُك بديع مذكرات الهلال –المبنيّة على أساس مذكرات 1937– حذف أغلب العبارات الدالة على أنها كانت مذكرات منشورة في حلقات مسلسلة بمجلة أسبوعية! ومن هذه العبارات المنشورة في مذكرات 1937، قول الريحاني: «إنني نوهت في إحدى المذكرات السابقة»، و»لعل السادة القراء لم ينسوا بعد ما أبديته في إحدى المذكرات السابقة من أن هناك حادثا... إلخ»، و»قلت في الأسبوع الماضي بأن روايتنا الثانية في مسرحنا الجديد الإجبسيانة كانت «دقة بدقة»»، و»تركت القارئ في الأسبوع الماضي عند أول اجتماع لي بالأستاذ بديع خيري في غرفتي بمسرح الإجيبسيانة»، و»لوسي فرناي الفتاة الفرنسية التي قدمتها في إحدى المذكرات السابقة»، و»حنجل بوبو أولى روايات الأستاذ يوسف وهبي كما بينت في العدد الماضي»، و»وقفت بالقارئ العزيز في الأسبوع الماضي عند اتفاقنا مع شركة سجاير ماتوسيان»، و»هذا ما سأحدثك عنه أيها القارئ العزيز في العدد المقبل فانتظرني -بالله عليك- وإن غدا لناظره قريب».
التعديل والحذف
عزيزي القارئ.. أكيد بدأت تشعر بأنني خدعتك بهذه المذكرات الحقيقية والمجهولة والمكتشفة، لأنك حتى الآن لم تجد جديدا فيها، وما قام به بديع يُعدّ أمرا عاديا لصديق تجاه ذكرى صديقه المتوفى! وكونه أخفى أنها مذكرات منشورة من قبل! فهذا أمر لا يدينه طالما أنه حافظ عليها، وجمع حلقاتها ونشرها في كتاب أصبح هو الكتاب المعتمد لمذكرات الريحاني الشهيرة والمنشرة حتى الآن! وربما أيضا تظن بي السوء وتقول إنني قصدت من مقالاتي هذه الهجوم على «بديع خيري» وتشويهه والإساءة إليه بزعمي أنه أعاد صياغة المذكرات بالحذف والإضافة.. إلخ، وهذا الأمر لا يدينه أيضا، لأنه حق من حقوق بديع خيري بحكم الصداقة والوفاء تجاه صديقه.. وربما فعل بديع كل هذا لصالح الريحاني. عزيزي القارئ.. أنا أتفق معك تماما في كل هذه الاتهامات الآن.. وكل ما أرجوه أن تتمهل حتى انتهي من نشر بقية الحلقات، وإليك هذه البداية:
قال الريحاني في مقدمة مذكرات الهلال: «... ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسوءهن أن أكشف عن حقيقة رابطتهن الأولى بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة». وهذه العبارة منشورة هكذا في المذكرات الأصلية عام 1937: «ولعل الزميلتين العزيزتين زينب صدقي وفاطمة رشدي قد ساءهما أن أكشف عن حقيقة رابطتهما الأولى بالمسرح بعد أن أصبحتا في سمائه كوكبين لامعين». وإعادة الصياغة التي قام بها بديع ربما كانت في صالح الريحاني وقتذاك عام 1959، حفاظا على صورته أمام الفنانين، كونه متوفيا ومن أساء إليهما كانتا من النجوم المتألقة. ومن جانب آخر، أساء بديع للريحاني بحذفه اسم النجمتين «زينب صدقي وفاطمة رشدي» كون ما ذكره الريحاني عنهما في مذكرات عام 1937 شهادة للتاريخ، لا يحق لأحد حذفها من المذكرات.. أي حذفها من التاريخ.
ونقرأ في مذكرات الهلال قول الريحاني: «ولما اقترب الأسبوع الأول من نهايته، كنت قد أعددت رواية جديدة بالريالات الثلاثة التي ارتفعت إليها ماهيتي اليومية». هذه العبارة أعاد بديع صياغتها من الأصل المنشور في مذكرات 1937 وجاء فيه: «قد أعددت الرواية الثانية وأطلقت عليها اسم «بستة ريال» تيمنا بالريالات الثلاثة التي ارتفعت إليها ماهيتي اليومية». وهذا التغيير حرم قُراء مذكرات الهلال من معرفة اسم المسرحية «بستة ريال» كونه الاسم الوحيد المذكور لهذه المسرحية في المذكرات، ناهيك عن حرمان التوثيق التاريخي من كونها المسرحية الثانية في تاريخ الريحاني، كما جاءت في الأصل الذي تلاعب به بديع.
أمور سياسية
من خلال المقارنة بين المذكرات المكتشفة «مذكرات 1937» ومذكرات الهلال، لاحظت أن المذكرات الأصلية بها عناوين قليلة، مقابل عناوين كثيرة في مذكرات الهلال، حيث كان بديع يضع كثيرا من العناوين ويغير أخرى ويحذف ثالثة... إلخ، ونادرا ما كنت أجد عنوانا ثابتا في مذكرات 1937 ومذكرات الهلال! وكانت مفاجأة وجود عنوان في مذكرات 1937 يقول: «كشكش في قصر الزعفران»، وبالبحث لم أجده في مذكرات الهلال، ورغم ذلك وجدت الكلام المتعلق بالعنوان. ففي مذكرات الهلال، قال الريحاني: «ومما زاد في اغتباطي إلى جانب ذلك ما لمسته من رقي الطبقات التي كانت تقصد إلى مسرحنا، وفي مقدمتهم شباب الهاي لايف وفتياته، وأكرم الأسر في مصر، وأعلاها مكانة، وقد كان صاحب السمو الأمير إسماعيل داود في مقدمة الذين أعجبوا بي، فتفضل وأبرز هذا الإعجاب في إطار من التكريم لست أنساه، إذ كان يتفضل بدعوة الفرقة بجميع أفرادها إلى مسكنه العامر حيث تحيي حفلات خاصة ما كان أحلاها وأبهاها». هذا الكلام موجود بنصه في مذكرات 1937 ما عدا خاتمته التي حذفها بديع، وهذا نصها: «فهل تدري يا عزيزي القارئ، أين كنا نقيم هذه الحفلات الخاصة؟ في قصر الزعفران حيث جرت المفاوضات بين مصر وبريطانيا، وحيث وضع أساس المعاهدة العتيدة بين الحليفتين العظيمتين».
حقيقة، لا أعلم السبب الذي جعل بديع خيري يحذف هذه العبارة ويحذف العنوان، إلا لأنهما يحملان اسم «قصر الزعفران»! وربما السبب الذي جعل بديع يحذف أي شيء يتعلق بقصر الزعفران، كونه قصرا من العهد الملكي عندما نُشرت المذكرات عام 1937، أما الآن فبديع يعيد صياغة المذكرات في العهد الجمهوري عام 1959! وعلى الرغم من ذلك التبرير غير المقنع لي، لم أجد مبررا لبديع لقيامه بحذف كلام الريحاني في مذكرات 1937، وفيه قال: «وبذلك اتجه مسرحنا اتجاها سياسيا محضا وأخذت الموضوعات تعالج كل ما يدور في البلاد من حوادث ذات شأن في تاريخها أو في تغيير مجرى حياتها. وقد كان من نتيجة ذلك أن وزارة الداخلية تنبهت إلى ما كنا نسير فيه وخشيت عاقبة امتداد حركتنا فوضعت على مسرحنا رقابة شديدة.. وما زلت أذكر أنها اختارت اثنين من موظفيها ليكونا رقيبين دائمين يشهدان التمثيل في كل مساء، وهما الأستاذان «عطية شلبي» و«سليم نخلة»، وأظن أن أولهما ما يزال إلى اليوم موظفا في محافظة القاهرة والثاني في شركة مصر لحلج الأقطان أو للملاحة.. لست أذكر تماما. على أن الذي لا أنساه هو أن هذين الرقيبين العزيزين جرفهما تيار الوطنية الذي اجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها فكانا يتغاضيان عن مؤاخذتنا بل ويعملان على معاونتنا بدل الوقوف في سبيلنا ومن ثم أخذت جذوة الوطنية تلهب حواس الناس وتستحث شعورهم وتحيي فيهم أمتع الآمال».
صدق أو لا تصدق.. أن هذا كلام نجيب الريحاني في مذكراته عام 1937!.. وصدق أو لا تصدق أن هذا الكلام حذفه بديع خيري من مذكرات الريحاني عام 1959!


سيد علي إسماعيل