العدد 551 صدر بتاريخ 19مارس2018
(اسمعوا مني بتأمل يا أحبائى، سأصحبكم اليوم في وليمة ملوكية، سأطعمكم طعامًا جبليًا
لم يعهده سكان المدن بينما أحرك أرغن لسانى الضعيف وأحكى لكم سيرة ذلك المأساوى.. نيكولا.. هذا العجوز الذي أعطته أمه اسم قديس قديم حين ولدته في ذلك الزمن البعيد.. في بلدة لم يعد يستطيع أن يتذكرها....)
بهذه الكلمات بدأ أديبنا الكبير صبري موسى رائعته (فساد الأمكنة).
أما طائر الشوك فهو طائر يطير مرة واحده تاركا أمه، يحلق في السماء عاليا، ثم يختار شجرة الشوك، وينتقي منها أكبر شوكة في أكبر غصن، ثم يسقط بصدره على هذه الشوكة، وهنا يطلق لحنا رائعا.. نغمة كونية.. يسمعها جميع من في الأرض فيسعدون ويبتهجون... ثم يصمت الطائر ولا يبقى منه إلا الرفات، ولا يبقى من الصوت إلا الرجع الذي يتردد في أذن الجميع وفي فضاء الكون.
هكذا كان الأديب الكبير صبري موسى. نغمة كونية.. سيظل صداها يتردد.
أهي مصادفة!! أهي مصادفة أن ينتهي أديبنا الكبير من كتابة روايته (فساد الأمكنة) في نفس عام ميلادي!
أهي مصادفة أن أكون آخر من يرى صبري موسى بمنزله الكائن بالهرم قبل وفاته!
من الرجال من خصصت له أمته دورًا ليؤديه، فأقبل في الميعاد، وأظهر من الجدارة والاستحقاق ما يوازي الأمل المعقود عليه إنه الأديب الفز صبري موسى.. الفرعون.. رائد أدب الرحلات كما يطلقون عليه في أمريكا.
هاجر من دمياط إلى القاهرة فكان العالم بالنسبة له موضع تساؤل.. لا قبول وقناعة، كان شغوفاَ بالمعرفة، فنزل إلى الصحراء الشرقية، نزل بحر التجوال من أجل إكتساب المعرفة، وراحت الجبال تتسلل داخله وجاهد في أن يمد بينها وبينه جسورا حتى يثبر أغوارها. يرنو بعينه إلى ضريح سيدي أبو الحسن الشاذلي الذي يسكن الصحراء يدفعه إلى ذلك غمرات الوجد الصوفي التي تحف تجربته بإحساس شمولي مزجه بالمكان وأنتمي إليه. فأراد أن يذوب في تلك الطبيعة التي سحرته بروحها الجذابة.
أيها الأديب النبيل: من كان إلى جوارك في تلك اللحظة التي مس قلبك فيها سحر جبل علبة والدرهيب؟ خلال رحلتك من بئر الشلاتين إلى جبل الأبرق وجبال زرقة النعام إلى وليمة الجثث في وادي الجمال حيث تموت أنثيات الإبل من عنف الجماع.
ربما جمع بينك والصحراء هذا النصوع وتلك البراءة التي تغلف روحك الشفافة.. تلك البراءة التي كانت هي الدافع الأول للاتجاه نحو نصوع الصحراء ووضوحها، بعد الخروج من مدن الملح التي تسلخ جلد الأطفال وتغتال أحلامهم.
رواية (فساد الأمكنة) كانت دليلى في الصحراء الشرقية حينما ذهبت إلى مدينة الشلاتين للمشاركة في إخراج عرض مسرحي لفرقة الشلاتين تشارك به في المهرجان القومي للمسرح المصري يونيو 2016 ثم عملت مرة أخرى في الشلاتين من خلال مشروع مسرح الجرن من يناير حتى أبريل 2017، أمر في طريقي بضريح المجاهد الصوفي أبو الحسن الشاذلي ثم أتجه إلى برانيس وأمر على جبال الأبرق ومرسى الحميرة ثم بئر الشلاتين مسترجعا حكايات الأديب صبري موسى عنها متأملا تلك الجبال في لحظات الغروب فتتردد صدى كلماته عنها على لسان إيسا (أحد أبطال الرواية):
(جدي.. في بطن هذه الجبال قد تركت لنا نطفتك.. في كل غروب تلتمع هذه الجبال تحت الضوء الذابل الأحمر، فتبدو صخورها خليطا من الدم واللحم والعظام.. خليطا من الرجال ضحايا الجبال.. أشهدك يا جد أن الجبل من لحم ودم).
كل ذلك شغفني بالرواية أن أعدها إعدادا مسرحيا، تفرغت لكتابته ثلاثة أشهر من يونيه حتى سبتمبر 2017، وافقت لجنة القراءة بالإدارة العامة للمسرح على الإعداد وإجازته فنيا، ولم يتبقَ لي إلا الرقابة على المصنفات الفنية، التي طلبت مني موافقة مؤلف الرواية على الإعداد، سألت الكثير من الأدباء الذين أكدوا لي أن الأديب الكبير صبري موسى مريض منذ سنوات، وظللت أبحث عنه حتى عرفت أن زوجة الأديب هي الكاتبة الصحفية أنس الوجود رضوان، وبمجرد أن تحدثت إليها عبر الهاتف عرفت أنها تليق به وأديبنا يليق بها.
تصوروا أديب بحجم صبري موسى يوافق أن تتحول روايته (فساد الأمكنة) إلى عمل مسرحي ودون مقابل!
التقيت به أول مرة في 7 يناير 2018 برفقة الشاعر سعد عبد الرحمن وصهره الكاتب أحمد زحام.
كان يجلس على كرسيه.. أول شيء فعلته هو أنني قبلت تلك الأنامل التي كتبت “فساد الأمكنة”، ثم رأسه التي صاغت تلك الأحداث.. رجل ذو دفء إنساني يليق به قولا وفعلا، ودار بيننا حوار طويل حول فساد الأمكنة..الرواية.. الإعداد، وقال فيما قال إنه يشجع الشباب وأنه موافق على الإعداد، كل ذلك تم في كرم ضيافته وحفاوة الصحفية النبيلة أنس الوجود التي غمرتنا بفيض كرمها.
ثم صنعت لي الأقدار لقاء آخر، كانت الرقابة قد طلبت مني أن يذهب أحد موظفيها إلى منزل الأديب للتوقيع أمام موظف الرقابة، وذهبت أنا والموظف في الحادية عشرة صباحا يوم 15 من يناير 2018 والتقيته لآخر مرة، عند خروجي من منزله لاحت مني التفاتة إليه أحسست أنني أودعه، ورعشة هزت بدني، وتمتمت له بالدعاء.
بعد يومين أي في 18 يناير 2018 سمعت نبأ الوفاة، في صبيحة اليوم التالي وحينما فتحت عيني رأيت طيفه جالسا على مكتبي فقلت في نفسي:
أيها النبيل صبري موسي.. نم قرير العين.. سلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تُبعث حيا.. يا طائر الشوك الحزين.. والجميل والنبيل أيضا.