الأسدي والخادمتان

الأسدي والخادمتان

العدد 581 صدر بتاريخ 15أكتوبر2018

النص المسرحي “الخادمتان”، الذي كتبه الفرنسي جان جينيه عام 1947 الذي قدم بفعاليات المهرجان المعاصر والتجريبي الأخير على مسرح الجمهورية، يجب أن يتوقف عنده الكثيرون من المثقفين والمسرحيين في العالم العربي، ومحاولة مناقشته بصورة واقعية، من حيث عملية الإعداد من جانب المخرج لتقديم نص مسرحي أكثر من مرة.
فهذه هي المرة الثالثة على الأقل التي أخرج فيها الأسدي هذا النص، فمرة قدمه عراقيا، وثانية لبنانيا، وهذه المرة يقدمه مغربيا، ويجب أن نذكر أنه حينما قدمه لبنانيا، قام بنفس الأمر الذي فعله مع التقديم المغربي ألا وهو نطق بعض العبارات باللهجة المحلية للبلد صاحبة الإنتاج.
النقاش المطلوب من وجهة نظري قد يجب أن يكون: هل المخرج المسرحي قادر على أن يخرج نصا يحمل وجهات نظرات متعددة ولكنها ليست متعارضة، أو بمعنى أدق يستخدم الأسلوب الذي يحيل المتلقي لأكثر من مفهوم طبقا لرؤيته وفلسفته، فمن الممكن أن يفهم متفرج ما على أن الصراع الدرامي الموجود هو صراع إنساني، ويفهم آخر أنه يتناول الصراع بين بلدان أو عرقيات، وآخر يحمله الصفة الكونية.. إلخ، أم أن المخرج عليه أن يؤكد على خطاب واحد أو اثنين على الأكثر، وإذا كان عنده ثالثا فليدخره لتقديم النص به من جديد؟!
علمت تماما أن الأسدي قال فيما معناه في تبريره عن هذا التكرار، أن نص جينيه قابل للتقديم المتجدد وصالح للتقديم في كل وقت وكل مكان خاصة بالعالم العربي، وأكد أن عملية تغيير التقديم من بلد لآخر من الممكن أن يختلف نتيجة تغير الثقافات بين البلدان.
من هذه الكلمات هل قد يقول لنا الأسدي إنه لا توجد ثقافة عامة تجمع الشعب العربي، وأن علينا مخاطبة كل شعب منهم على حدة؟
أعتقد أنه للحكم على هذه التجربة في عمومها، وعن العرض الذي قدم على مسرح الجمهورية في فعاليات المهرجان، ربما وجب على القارئ أو المتابع المسرحي معرفة شيء عن تاريخ الشخصيات التي كان لها النصيب الأكبر في العمل، وهما المؤلف والمخرج، فالمخرج - أي الأسدي - هو ذلك الفنان العراقي الذي ربما اضطرته الظروف التي تعيشها العراق من فترة، للعيش مغتربا، كما أنه من المعروف أنه يناصر الفكر القومي العربي، وفي المقابل وبعيدا عن الحياة الشخصية لجينيه وتعاملاته ومرحلة سجنه وصباه.. إلخ، إلا أنه كاتب ناصر القضايا القومية العربية، فقد عارض احتلال فرنسا للجزائر، كما أنه كان مناصرا لقضية فلسطين، وله نص بعنوان (أربع ساعات في شاتيلا) يتحدث فيه عن المذبحة المعروفة، كما له أيضا نص أسير عاشق، يؤازر فيه الحق العربي،
وإذا كنا قد تحدثنا قبلا في مقالنا السابق بهذه الدورية عن ارتباط شخصية هاملت بالواقع أو العالم العربي، ولذا فهي تقدم كثيرا، فإن خادمتي جينيه كذلك ترتبط أيضا بهذا الواقع، لذا كان اختيار الأسدي ربما لتقديمها أكثر من مرة، فالخادمتان اللتان ضاعتا حياتهما في خدمة سيدة ماجنة متسلطة متحكمة، تعيشان مع أوامر ونواهٍ وانصياع لرغبات مجنونة، ويمر العمر منهما دون جدوي، تبحثان عن وسيلة أو طريقة لتمضية الوقت والصبر على هذه المحنة، من خلال ساعات الانفراد بنفسيهما وتمثل واحدة منهما دور السيدة والأخرى الخادمة بالتبادل، وفي نفس الوقت هما تتفقان على التخلص من تلك السيدة بالقتل، وتذهبان لغرفة السيدة وتستعيران ملابسها وأحذيتها لتمارسا هذا النوع من التفريغ، وهما في تلك اللحظات تمارسان على بعضهما البعض كل معاني الحقد والقسوة، دون شفقة أو رحمة، بل ربما بأبشع ما تقوم به السيدة نفسها تجاههما، ويتفقان على وضع السم للسيدة، ولكنها لا تتناول المشروب، فتشربه واحدة منهما مسلمة نفسها للموت انعتاقا وتترك الأخرى وحيدة.
سنلاحظ بكل وضوح إشكالية العلاقة بين السيد والعبد، وكيف أن من قبل أدوار العبيد يمارسون السادية على الآخرين ممن معهم في نفس الصفة، والماسوشية على أنفسهم.
ولو نظرت للعالم العربي وخصوصا العراق ولبنان، وربما سوريا الآن واليمن وليبيا، ستجد أن هناك صراعا هائلا بين الخدم/ الشعوب وبعضها البعض، دون توحد لإسقاط الطاغي/ السيدة، وإذا أخذنا الأمر أبعد قليلا وأسقطناه على الأنظمة، ستجد نفس الأمر بعض الأنظمة تمارس نفي القسوة والتحكم على الأنظمة الأخرى الأضعف بنفس ما تمارسه القوة العالمية عليها، وليس الأمر كله لمجرد تنفيذ أوامر القوة العالمية وإنما هناك بعض من تنفيس في توهم بعض الأنظمة أنها أحيانا تتخذ دور الفاعل، لا المفعول به دائما.
إذا أخذنا الأمر على المحمل الأول فسنجد أن العراق ولبنان مكانان صالحان للتقديم، ولكن ليس المغرب، وإذا اتجهنا للثاني فمعناه أننا نقول إن هناك هما/ ثقافة عربية مشتركة وبالتالي لا داعٍ لمحاولة التجديد والقول بأننا نقدم عملا جديدا كل مرة، وإنما هي إعادة تقديم لما سبق.
مع أن ما شاهدناه على مسرح الجمهورية لا يحمل أي هم منهما، فلا يوجد تأكيد أو إشارة للحالة العربية أو حتى دول العالم الثالث، صحيح أنني مع عدم التعرض للمباشرة أو الشعارات الكبرى، ولكنني مع إمكانية الإحالة للآن ونحن، بل وجوبها في الكثير من الأحيان، والحقيقة أن الأسدي باستخدامه هذا الكم الكبير من أحذية السيدة في المواجهة وبألوان قوية، فإنه لو كان العرض قدم في الفلبين لحاز على نجاح كبير، لإحالة الجمهور تلك الإشارة للأحذية لإميلدا ماركوس مثلا، ولكن عندنا نحن خرج الأمر من مستواه التخصيصي للآن ونحن وأصبحنا أمام قصة إنسانية تتحدث عن علاقة القاهر بالمقهور وكيف يريد المقهور التماهي مع القاهر في بعض الأحيان، مع الانحطاط وانعدام اللياقة في تعامل المقهورين مع بعضهم البعض لأسباب كثيرة وشتى.. إلخ.
خشبة مسرح الجمهورية المتسعة واثنتان من الممثلات مع عدم وجود ديكور ربما أوجب استهالا أن يكون الحديث أمامنا في مقدمة المسرح على الدوام مع بعض التحرك إلى الخلف لاستقدام عنصر من عناصر الإكسسوار مثل الأحذية والملابس ربما لتخفيف الحدة في المواجهة المباشرة وانحصار الحركة في هذا المكان، صحيح أن النص في حد ذاته يعطي مساحة صغيرة للخادمتين في التحرك، ولكن المخرج لم يقم بمحاولة اختصار المكان أو تضييقه بأي وسيلة، بل إنه للأسف استخدمه كله مما أعطى شعورا بالفقر في الحركة المسرحية الواجبة إزاء هذا الفراغ ما دمت قد وضعته قيد الاستعمال، ولو حتى لمنح الشعور بالضآلة للخادمتين.
كما أن تيقن الأسدي من صدى مشاركاته المهرجانية، حيث ينحصر الحضور في المهرجان في الأغلب على المسرحيين والمهتمين بالعمل المسرحي، الذين سمعوا عن الأسدي أو الذين ينتظرون منه جديدا، والكثير منهم سيخرج محاولا وضع ما لا وجود له انسياقا وراء ما تواتر عن معرفة أو سمع به، فالتقدمتان السابقتان للنص كانا من خلال مهراجانات أيضا ولم نسمع عن نجاح جماهيري مرتبط، أو ربما أنا مَن عنده الخطأ في عدم السماع.
أعتفد أن اعتماده على تاريخه وجاهزية التأويل لم يدفعا حتى لمحاولة الإشارة لما يقول إنه يقصده تواءما مع المعلن عن انتمائه القومي وحالة الوطن الراهنة، كما أنه لم يبذل جهدا كبيرا مع الممثلتين اللتين ارتفع صوتهما كثيرا دون ارتفاع للإحساس أو الحالة، واعتمدتا على الإيصال اللفظي فقط دون سواه، فهل هذا ناتج من عدم توفر عناصر مرئية كانت مطلوبة؟ أو كان يوما سيئا للممثلتين؟ أو أن الأمر ينحصر للزهد في عملية الزهد من خلال إعادة التقديم، والانخداع بأن ما يراه المخرج في مخيلته وتفسيره الشخصي يجب أن يراه الجمهور حتى إن لم يكن هناك ما يؤكده أو يشير إليه على خشبة المسرح أمامنا.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏