«تنصيص» النظرة السعودية المتسعة للعالم .. والمحدودة للمرأة

«تنصيص» النظرة السعودية المتسعة للعالم .. والمحدودة للمرأة

العدد 585 صدر بتاريخ 12نوفمبر2018

شاركت ونافست المملكة العربية السعودية ضمن فعاليات مهرجان الدن المسرحي العربي الذي أقيم في مسقط بسلطنة عمان، بالعرض المسرحي (تنصيص) لفرقة مسرح الطائف، وهو من تأليف فهد ردة الحارثي، و اخراج سامي صالح الزهراني، و تمثيل سامي الزهراني، بدر الغامدي، عبد الإله السحيمي، علي الزهراني، ممدوح الغشمري، عبد الرحمن المالكي، مطر السواط، و أحمد الخمري .
تقوم اللعبة المسرحية هنا علي تكنيك المسرحية داخل مسرحية، الذي تبلور علي يد الكاتب الايطالي (لويجي بيراندللو)، ولجأ إليه وليم شكسبير في نص (هاملت)، وارتكزت عليه أعمال بعض الكتاب العرب كتوفيق الحكيم، وصلاح عبد الصبور، وألفريد فرج. ولما لتكنيك الكتابة هذا من تأثير علي عملية التلقي و بالتالي دور المتلقي كأحد أطراف اللعبة المسرحية، حيث يحول بينه وبين الأيهام، ليُعمِل عقله ويحفزه علي المُسائلة، وليتحقق الدياليكتيك بين المُرسل والمُستقبل، خاصة مع حرص المؤلف والمخرج علي ان تحمل لغة العرض حساً كوميدياً .
وينطلق العرض فكرياً من قضية إنسانية بسيطة، هي قضية فرقة مسرحية لا تستطيع الخروج بعرضها الي النور بسبب اكتشافها شق في ستارة تشكل جزءاً من الديكور، ذلك الشق الذي أُكتُشِف و بدأ صغيراً بعد بداية العرض، ثم ازداد حجما علي مدار العرض الي أن فُقدت السيطرة عليه بعد محاولات عدة من أعضاء الفرقة المسرحية لسد ومعالجة هذا الشق بعدة رقع تختلف احجامها وفقا لتطور حجم الشق الي نهاية العرض ولكن دون جدوي. تتفرع من هذه القضية قضية انسانية أعمق وأعم هي قضية محتوي العرض الذي يقع تحت قبضة يد الرقابة، وما لهذا الدور الرقابي من قمع لحرية الرأي و التعبير لهذه الفرقة التي كلما ودت سد شق الستار زاد، وكلما حاولت إرضاء الرقابة تفشل، وبينما تعني كلمة تنصيص ضمن مجموعة المصطلحات الالكترونية، أنها تلك العلامات التي توضع بينها كلمة مهمة “بين تنصيص”، فهي قد تعني في هذا العرض الذي نحن بصدده (إعادة صياغة “نص” العرض الذي تود الفرقة عرضه)، ودائما ما تبدأ الكَرَة من البداية في اطار عبثي هو الذي حكم الاحداث الدرامية بأداء كوميدي، ساخر من واقع هو في الاصل واقع نضال انساني عربي . تناص ازدياء حجم فوهة الرقعة وترهلها، مع ازدياد مأزق الفرقة في تنفيذ عرضها وتقديم ما توافق عليه الرقابة، كما تناصت فكرة مقص الرقيب الذي يحكم علي الفرقة بمضمون فكري محدد مع الرقابة المجتمعية والسياسية التي تؤطر ممارسات أفراد الشعوب . فعجز الشعوب العربية لايجاد ارضية فكرية واحدة وآليات مناسبة لمواجهة ضيق الخناق عليهم كلما زاد من الفجوة بينهم، هو ذاته حالة ضيق ذات يد الشخصيات المسرحية لايجاد الرقعة المناسبة لسد الشق من جانب والحيلة الذكية التي يمكنهم بها اقناع الرقيب لخروح عرضهم الي النور من جانب آخر. وهذا يُحيلنا بدوره الي الواقع الروتيني والبيروقراطية التي تتسع الفجوة بينها وبين الثقافة والفنانون .
وأما المنطلق الجمالي للعرض، فقد تحدد بكيفية صياغة المخرج للفضاء المسرحي، بآليات خشبة المسرح، “ممثلين، ميزانسيه، سينوغرافيا (اضاءة، ديكور، أزياء)، و مدلولات كل منهم، والمعاني التي تتناص مع الحوار المنطوق، أو تترجم احياناً المسكوت عنه . و خاصة ان الحركة وايقاعها وطبيعة تشكيل الممثلين علي خشبة المسرح لعبت دوراً أساياً وهاماً أثناء تصاعد الاحداث الدرامية، وجسدت توترات الجسد طبيعة التوترات الحادثة في السياق الدرامي، فالتشكيلات التي لجأ اليها المخرج مع مجموعة الممثلين للتعبيرعن حالة التكتلات و التجمعات الفكرية في توحدها حيناً وانقسامها حيناً آخر لهو اشارة واضحة إلى حالة التكتل والانقسام والتذبذب الحادث دائماً داخل شعوب الامة العربية، لذا استحق العرض الحصول علي جائزة افضل أداء جماعي . كما قامت السينوغرافيا التي صممها (عبد الله دواري) الحاصل علي جائزة أفضل سينوغرافيا بألوانها و توزيعها في الفضاء المسرحي بدور في غاية الأهمية في ترجمة معاني النص بصرياً فألوان الرقع /قطع الاقمشة، التي تُشير مع تعدد ألوانها وأحجامها الي تعدد المعتقدات والمذاهب كل فكرة جديدة يبدأ مؤلف المسرحية الداخلية في تبنيها من أجل ارضاء الرقابة وحتي يتمكن صناع العرض من تنفيذه، كما ترمز المنصات والمنابر التي يقسم بها السينوغراف مساحة الاداء، يميناً ويساراً، الي الرأي والرأي المخالف / المعاكس، الذي ينتمي اليه كلاُ من الفريقين المختلفين، مجسدين في ذلك حالة التعصب للافكار الموجودة في الواقع، تحديداً عندما يعتلي كل من الطرفين منبره، تلك الفكرة التي لجأ اليها السينوغراف و المخرج، ليُلقي من خلالها العبارات والمضامين الفكرية التي تريد الفرقة التي تجسد المسرحية الداخلية بثها، والمضامين التي تريد الرقابة تعديلها  متخذين من هذا الجزء من الديكور منبراً يقف عليه شخصية من شخصيات العرض يعبر عن صوت الاله، و منصة يقف ورائها شخصية اخري تعبر عن صوت السلطة والنفوذ. كما يبرز المخرج والسينوغراف قضية الرقابة، و وحشية الرقيب في ممارسة مراقبته، من خلال تقنية اخراجية بصرية واعية بخطورة الدور الرقابي واقتحامه لأدق تفاصيل حياة المواطنين، وأفكارهم وما يدور بعقولهم، وقدرته في تحجيم إعمال العقل والخيال، من خلال كاميرا خلف الستارة البيضاء المشقوقة، هذه الكاميرا التي تتلصص علي الفرقة وتعرض ما تصوره للجمهور، كون مخرج العرض اعتبرهم جزءاً أصيلاً من الاحداث ومن مجتمع العرض، و اقحامه  لهم في المشاركة هنا بمثابة اعتراف منه بتورط وادانة المجتمعات العربية فيما يحدث من اعادة التنصيص لحياتهم وفقاً لأمزجة الانظمة، كما انها اسقاطة مباشرة لفكرة المؤامرة التي تحيط بنا أينما كنا ومهما فعلنا .
وبينما تعيش فرقة المسرحية الداخلية حالة عبثية، طيلة الوقت، يبحثون عن الحلول ثم يكتشفون عدم ملائمتها كل مرة، ينتهي العرض بالكشف للجمهور عن التمثال المعلق في السوفيتا، أعلي خشبة المسرح، والذي هو عبارة عن نصف جسد مغطي باللون السماوي، وأي في هذا المجسم ترميزاً  لرب السموات، وطرح علامات استفهام حول مدي تدخل كل من ارادته العليا التي تتوجب منا إنحناءة الرأس وارادة البشر التي تجبرنا علي انحناءة الرأس، بدعوي مجموعة من المفاهيم المغلوطة حول الدين، وسلطة رجال الدين علي الأرض وفهمهم الخاطئ أنهم يد الله علي الأرض . وينتهي صراع العرض وشخوصه بهبوط قطعة قماش سوداء ضخمة علي الممثلين تغطيهم بشكل كامل، تقيد حركتهم وتلجمهم تماماً عن اتخاذ أية فعل، في اسقاطة واضحة علي قوي الظلام والجهل التي تحاول دائماً وكثيراً ما تنجح في زيادة عتمة العقول وعتمة الحياة .
 وبرغم سعادتي بما قدمت المملكة السعودية، وما تمتلك من عقول واعية ومستنيرة تتعرض لأطروحة انسانية بهذه الحساسية، تطمح الي السلام وتحرير الفكر من الثوابت والسائد والارث الذي يصيبنا التمسك به ضمور بالعقل والخيال، إلا أن هناك نقطة سوداء وسط هذا الكم من البياض والانارة، تُتَخذ علي صناع العرض، وهي غياب المرأة، في حين انها جزءاً من المجتمعين، مجتمع العرض، ومجتمع صناع العرض، فكيف نسوا دورها، أن الاجدر بنا القول انه تم اقصائها عمداً من المنتج الثقافي، وهنا رقابة ذاتية مارسها مبدعو العرض علي انفسهم، ربما خشية المجتمع السعودي الذي مازال متحفظاً رغم اعطائه المرأة حقها في قيادة السيارات وحقها في المشاركة الاقتصادية والاجتماعية وكافة نواحي الحياة، وربما خشية مجتمع ثقافي قد يُصدم بمفاجأة أن تعتلي إمراة منصة التمثيل .وهذا ما أراه تناقضاً بيناً في منهج وافكار صناع العرض، فكيف تسعي للحصول علي الحرية وأنت كصانع (منتج ثقافي) تحافظ وتُرَسِخ لمفاهيم حددت أدوار المرأة منذ القرون المظلمة بأنها تلك الادوار التي بين الاربعة جدران ؟
ويطرح العرض تساؤلاً أري أنه الأجدر بهذه المرحلة، وهو .. هل البحث عن الحرية المطلقة أهم ؟ أم البحث عن الوجود في ذاته وتحقق هذه الذات في ظل هوية عربية مُقَيَدة و مَحرُومَة من التعبير عن نفسها هو الأكثر أهمية؟ وبما أن اختيار المخرج للنص هو أولي مسؤلياته التي يُحاسب عليها وأولي عتبات قراءة العرض، هذا الاختيار الدقيق الذي أهدي العرض جائزة أفضل نص مناصفة لمؤلفه (فهد ردة الحارثي)، و بما ان المتلقي الواعي لا يغفل عن طرح سؤال الجدوي من تقديم العرض الذي يشاهده هنا والان، والذي يجاوب عليه أزمة العرض التي عرضناها.. مما يؤكد أننا أمام مخرجاً سعودياً يري العالم ويقرأ الواقع العربي بعين مفسرة تفسيراً دقيقاً، بدرجة عالية من الذكاء لكل ما ينطوي بداخل المُحددات والضوابط والنواميس الصارمة الموضوعة لافراد الشعوب العربية .


رنا عبد القوي