في ذكرى رحيله السادسة والثلاثين الرؤية الاجتماعية في مسرح نعمان عاشور

في ذكرى رحيله السادسة والثلاثين الرؤية الاجتماعية في مسرح نعمان عاشور

العدد 818 صدر بتاريخ 1مايو2023

نعمان عاشور أحد الكبار في تاريخ المسرح العربي الحديث، صاحب النقلة النوعية في طريقة تقديم وخلق شكل مسرحي يتناسب مع الوضع الاجتماعي للجمهور، ويتماس مع قضاياه وتحولاته، بلغة مسرحية يتضافر فيها البعد الإنساني مع إحكام الصياغة.
كان نعمان منذ طفولته مغرما بالاطلاع والقراءة، ولعل الحظ أتاح له ذلك حيث إن جده كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم العديد من المؤلفات في مختلف العلوم والميادين من كتب التاريخ والأدب والدين وغيرها، أكمل نعمان دراسته حتى وصل إلى الجامعة فتخصص في اللغة الإنجليزية من ضمن تخصصات كلية الآداب، وحصل على الليسانس فيها عام 1942 وكانت هذه الجامعة جامعة فؤاد بالقاهرة.
اتصل نعمان بالحركة الأدبيـة التي برزت في مصر في أعقاب الحـرب العالمية الثانية، والتي اهتمت بمشكلات المجتمع وهمومه، وبرز اسمه بين كتيبة من الأدباء والمثقفين الشباب من طليعة النهضة الأدبية والفنية في الخمسينات والستينات.
عاش للمسرح، فاختار لسيرته الذاتية عنوانا دالا هو «المسرح حياتي» ظل شغوفا به منذ طفولته المرفهة -وهو ابن الطبقة البرجوازية-الذي آمن في شبابه بالفكر الاشتراكي وتأثر بأفكار الناقد د. محمد مندور.
قال ذات يوم: الحب الفطري للطوائف العادية وجموع الناس من أبناء الشعب.. وهذا الركون الدائم إليهم بوصفهم أجدر الناس بالعشرة..  كان أرسخ ما نضج في كياني منذ الصغر.. ولهذا فما أن داخلتني فكرة الاشتراكية ومبادئها حتى انسابت في كل كياني».
أجراس البداية
كانت مسرحية «الناس اللي تحت» لحظة فارقة دقت فيها أجراس البداية لمسرح مصري خالص، بعد أن عاش المسرح لسنوات طويلة يقتات من التجارب الغربية والاقتباسات التاريخية التي جاءت بلا أقنعة أو ظلال تلقي على الواقع في لحظته الآنية، فكانت «الناس اللي تحت» أول مسرحية تتغلغل في تربة القضية الاجتماعية لتناقش – بجرأة – مشاكل الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة بلغة تحمل قدرا كبيرا من السخرية والكوميديا اللاذعة.
وربما جاءت المسرحية لتعكس التحولات العاصفة بعد ثورة 1952م، وقد قدمت المسرحية لأول مرة فرقة المسرح الحر - التي كان نعمان عاشور مؤلفها الأول- عام 1956م، من إخراج المخرج الراحل كمال ياسين.
كتب نعمان عاشور خمسة عشر نصا مسرحيا بداية من «المغناطيس» عام 1951م، وتدور حول “عطوة أفندي” الموظف في محل «المعلم رضا» المتهرب من الضرائب والذي يتحايل للاستيلاء على ميراث شقيقه محمود، وعلى جانب آخر يتصارع محمود وأخوه وآخرون على الزواج من “قمر”، ويعود شقيقها “الدكتور غريب” من الخارج، ويفتح عيادة للعلاج النفسي ويعمل معه عطوة، وتتابع الأحداث.
تنوع مسرحي
ثم جاءت بعد ذلك مسرحياته «الناس اللي تحت» 1956م،  و»الناس اللي فوق» 1957م، و»عيلة الدوغري» 1963م، و»برج المدابغ» 1974م، و»إثر حادث أليم» 1985.
بالإضافة إلى عدة مسرحيات تنتمي إلى مسرحيات الفصل الواحد لعل أشهرها «عفاريت الجبانة» التي كتبها إبان العدوان الثلاثي عام 1956م.
وهذا التنوع جاء من انفتاح عاشور على تيارات المسرح العالمي المختلفة، وإن كان تأثره يبدو واضحا بمسرحيات الكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن بطابعها الواقعي المنحاز للقضايا الاجتماعية، لا سيّما مسرحيته الرائعة «بيت الدُمية»، واستفاد نعمان عاشور -بالتأكيد- من سرديتها الحوارية التي تكشف عن الصراع الإنساني، وتغلغلها في أعماق الشخصيات، وإبراز الجانب الإيجابي برفض الزوجة أشكال القهر والتسلط من المحيطين بها، وظهر ذلك في أعمال عاشور التي تناولت الفئات المهمشة في المجتمع المصري.
وأهم ما يميز مسرح نعمان عاشور أنه يضع يـده مباشرة على واقع ندركه أو نحسه، ولكننا لا نملك تفسيره، أو هو يترجم الإدراك والإحساس إلى حركةٍ موضوعية بين طبقات المجتمع.
قراءة التاريخ
وفي مسرحيات «نعمان عاشور» ندرك كيف أنه كانت لديه قدرة على قراءة التاريخ القديم جيدا، بالإضافة إلى قراءته الواعية للحظة المعاشة، مما أعطاه زخما في الرؤية جعل مسرحه يخرج من حالة الدراما التاريخية إلى «التأريخ بالدراما»، بمعنى أنه اتخذ من التاريخ قناعا لعرض القضايا اللحظية، وهنا تكمن الفضاءات المتعددة لثقافته الموسوعية.
وربما هذا ما جعل الناقد الراحل فاروق عبد القادر يقول: «لقد استطاع نعمان- للمرة الأولى، بهذه الثنائية- أن يجمع الناس حول خشبة المسرح، تدب فوقها شخصيات من لحم ودم، تصطرع حول هموم وقضايا حية وساخنة».
ومن الملاحظ أن نعمان عاشور كان مغرما بالجبرتي كمؤرخ وكحالة إنسانية متفردة، فقد كان أول كتاب قرأه في مكتبة جده وهو لم يزل طفلا صغيرا هو كتاب «تاريخ الجبرتي» وقد حاول أكثر من مرة الكتابة عنه -بشكل درامي- ومنها محاولته في أول الستينيات لتقديم مسلسل إذاعي عنه مدته نصف ساعة، وعن هذا يقول:
«وذات يوم لاقيت المرحوم عبد الوهاب يوسف وكان أيامها يشرف على برامج التمثيليات بالإذاعة فلما أخبرته عن أني أقرأ كتاب الجبرتي لأني حصلت عليه من أحد أقاربي على كتبه الأربعة في مجلدين من طبعة بولاق العتيقة، وهي تلك التي توجد في مكتبة جدي وقرأتها وأنا مازلت طفلا، وأدرجت التمثيلية ضمن البرامج الخاصة وأذيعت وكانت ناجحة».
ومع ذلك كانت تطلعات «عاشور» نحو تقديم «الجبرتي» كشخصية درامية متعددة الأبعاد أكبر من تقديمها في حلقة إذاعية لذلك ظل يراوده الحلم في تقديمه على خشبة المسرح- حتى آخر لحظة في حياته.
وبالفعل استطاع أن ينجز قبل وفاته بأيام نصه المسرحي «حملة تفوت ولا شعب يموت» وهي المسرحية الوحيدة التي لم ترى النور حتى الآن من من أعمال «نعمان عاشور» وكنت قد نشرتها في مجلة أدب ونقد عام 2007م، بعد أن أحضرتها لىي مخطوطة ابنته الأستاذه «هالة نعمان عاشور».
والمسرحية بها قدر كبير من الصدق ورهافة الرؤية، فالمسؤرحية ليست كما يبدو من عنوانها تأريخا للحملة الفرنسية على مصر 1798م- 1801م، قدر ما هي نفاذ إلى أعماق الحالة الاجتماعية والعلاقات من أبناء وطبقات الشعب المصري في تلك الفترة الفاصلة من تاريخ مصر الحديث.
ومن خلال هذه الأعمال المسرحية، ظهرت قدرته على قراءة التاريخ القديم جيدا إضافة إلى قراءته الواعية لواقع المعيشة مما جعل مسرحه يتحول من الدراما التاريخية إلى التاريخ بالدراما بما يعني أنه جعل من التاريخ ستارا لعرض قضايا معاصره.
 وإذا كان نعمان عاشور قد رحل عن عالمنا  في 5 أبريل 1987م، إلا أن تأثيره على الأجيال التالية لم يزل واضحا، ومؤكدا لدوره الريادي في تجديد المسرح العربي.


عيد عبد الحليم