العدد 854 صدر بتاريخ 8يناير2024
قرأنا في نهاية المقالة السابقة نعياً منشوراً – بصورة تهكمية شامتة – لنهاية فرقة الريحاني، التي تمّ حلّها بسبب فشلها في عروضها الثلاثة، لذلك لم تستمر هذه الفرقة سوى شهر واحد فقط! فقامت مجلة «النيل المصور» باستكمال التهكم والشماتة، ونشرت كلمة بعنوان «قداس بجناز على روح فرقة الريحاني»، قالت فيها:
سيحتفل بقداس بجناز في كاتدرائية سان جوزيف بالإسماعيلية في يوم الاثنين 6 ديسمبر الساعة 9 صباحاً. وقد وزعت رقاع الدعوة ذات الإطار الأسود على حضرات قناصل الدول، وكبار موظفي الحكومة والثراة والأعيان والعلماء وعلى مديري المسارح ومحلات الدانس، ومديري السينماتوغرافات والنقاد المسرحيين ومديري شركات الإعلانات باليد وأصحاب مطابع الحجر والخطاطين المشهورين للإعلانات. وكانت هذه البطاقات ممهورة باسم سكرتير لجنة الاحتفال بالقداس والجناز الحبري «محمود صادق سيف». وكما أنه قد وزع هذه البطاقات بقصد النشر في جرائد لندن وباريس ونيويورك وبرلين وروما وموسكو وأتينا وفينا والفرس وطوكيو وبكين ودلهي ومدريد والكاب وبوخارست وأنقره وتونس وبغداد وسورية وكاليفورنيا ومصر والسودان. وفي اليوم المضروب كان حضرات النقاد الفنيين للمسارح، وقد وضعوا لهم مناضد وعليها الأوراق والمحابر، وهاك وصف حضراتهم الذي وصلنا على يد حضرة الزميلة الفاضلة «روز اليوسف» الصحيفة: [والكاتب يقصد بصحيفة «روز اليوسف» ناقدها الفني «محمد التابعي»، ولا يقصد صاحبة الصحيفة الممثلة «روز اليوسف» .. وهذا التوضيح مهم لما سيأتي فيما بعد]:
دخلنا الكنيسة وهي أكبر كنيسة لطائفة الكاثوليك في مصر فوجدناها مجللة بإشارات الحداد، وداخل وخارج الهيكل مفروش بالأقمشة والزهور الرمادية وفي وسط الكنيسة منصة مرتفعة عظيمة الهيبة والوقار وحولها الشموع، والثريات الكهربائية مجللة بالسواد ومحاطة هذه المنصة بفرقة الريحاني والأستاذ نجيب جالس على كرسي أكبر من كراسي المندوب البابوي. وقد قام بالصلاة الكردينال واثنان من الأساقفة وخلفهم القساوسة والشمامسة ورجال الكهنوت، والمرتلين والعازفين على الأرغون، وكانت الصلاة في غاية الهيبة والوقار والكنيسة مكتظة حتى الباب الخارجي، لأن دعوة «محمود أفندي صادق سيف» قد عمت المعمورة وعمل على طريقة النشر بكافة الوسائل. وبعد الانتهاء من الصلاة قام المؤبنون فأعتلى المنبر حضرة الأستاذ «يوسف وهبي بك» وأظهر أسفه العظيم لهذه الفاجعة في دور التمثيل بانفضاض فرقة الريحاني، وكان غاية في الدرام ومن خلفه سرينا إبراهيم وماري منصور وفاطمة رشدي ينوحون ويولولون، ثم بعد ذلك صعد إلى المنبر حضرة الأستاذ «علي أفندي الكسار» وصار يخطب بلغته «الفودفيلية» وصار ينكت فأضحك الموجودين .. فما كان من حضرة الناقد الأديب عبد الرحمن نصر إلا أن تخطى الحاضرين وذهب الى المنبر «وغمز» علي أفندي الكسار في كتفه وقال له: تذكر أنك في الكنيسة لا في المسرح يا أستاذ، وهنا لا ينفع الفودفيل نحن في كارثة، فتنح عنها وأترك هذه المهمة لأرباب فن الدرام، فأجابه إنني مضحك الأحياء والأموات، وقال بلغته النوبية «في ذمة الله يا مسره الريهاني، والله سأجمع – أمواتي – ونزور الأرافة ونشرب على روهك» فقهقه كل الموجودين. ثم أتبعته السيدة «منيرة المهدية» وصارت ترتل بصوت شجي ومحزن للغاية حتى انفطرت القلوب، ثم أعتلى المنبر الخطيب المفوه الأستاذ أحمد علام ممثل الفرقة الأول، وقال: إني أقف بالنيابة عن نفسي وبالأصالة عن مسرح سميراميس وعن زملائي الممثلين والمتفرجين وأصحاب المطابع و«الإعلانجية» وكل من كان يأكل عيشاً في ذلك المسرح، نترحم عليه ولا ننسى أيامه اللذيذة قبل أن يفتح، واتفاق مديره المالي علينا ولقد تنبأ لنا – ابن سليمان – على صفحات مجلته – النيل – بالعدد نمرة 307 بخبر إفلاس المسرح. وهنا علا الصياح والبكاء وتحشرجت النفوس والكل أخرج منديله لكي يجفف به عبراته، وقام الجميع بمصافحة نجيب أفندي الريحاني مع كلمة مشجعة له على هذه الكارثة والصبر أحسن دواء لها!!
هذا التهكم غير المسبوق في حق الريحاني كانت له آثار وخيمة، تحدث عنها الناقد «محمود طاهر العربي» في مجلة «ألف صنف» - في منتصف ديسمبر 1926 – بكلمة عنوانها «التابعي والريحاني»، قال فيها: لشد ما يؤلمني أن يُعتدى على كرامة ناقد مسرحي من أجل كتابته ونقده .. على أنني إلى جانب هذا يؤلمني أكثر أن يُسرف الناقد في النيل من كرامة عزيز قوم ذل، أو رجل نهض نهضة كان في أثرها هذا التنافس المبارك، الذي عم خبره طائفة من الممثلين غير قليلة. أقول ما كان من العدالة والرحمة، ولا من شرف الخصومة أن يجابه الريحاني بهذه الحملات المتكررة، ولا أن ينال من كرامته، ويسلق بألسنته، لأنه فشل في عمل!! وكل إنسان يهم بمشروع خطير كالذي حاوله الريحاني مُعرّض للفشل وللنجاح. كان جدير بمثل التابعي أن ينبه الريحاني إلى سوآته التي جنت عليه في شيء من الرفق والرحمة، ليعتبر بها وليتعظ غيره. أما هذه الشتائم الشخصية والإهانات الجارحة المؤلمة فإني كنت أجل عنها الزميل الفاضل التابعي لما أعهده فيه من الاعتدال والهوادة والأدب. ولست لتلك الاعتبارات أبرر تلك الجريمة المنكرة التي ارتكبها الريحاني باعتدائه بالضرب والسب على زميلنا على غرة منه في البوفيه .. بل ألومه بشدة على هذا التهور الذي انحدر به إلى غير مستواه. ولو أن كثيرين يلتمسون له العذر لنفسيته الثائرة وألمه العميق المستعر بين جوانحه لدرجة جعلت خصمه يشفق عليه ويقول في حديثه معي بهذا الشأن «والله أنه صعب عليّ كثيراً لما شفت الدم يصعد إلى رأسه حتى إني رثيت لحاله وأشفقت عليه». وقلبك فيه الخير يا عزيزي التابعي .. ولكن لنكف عن هذه الحملات فالرجل في احتياج إلى صرف مجهوده في تدبير أمره وتجديد حياته.
اشتعلت الساحة المسرحية، وأصبح الريحاني هدفاً لسهام الكل حتى من أقرب المقربين!! حيث نشرت مجلة «الممثل» خطاباً موقعاً باسم «بديعة» تحت عنوان «معرض البريد من بديعة مصابني إلى نجيب الريحاني»، هذا نصه: سلام من ربة الطرب «والغناء» إلى رب الهرب «والفناء»!! سلام من «ربيبة» المسارح والصالات إلى طريد الممثلين والممثلات! سلام من الزوجة السالفة إلى الزوج السالف أو نجيب: لم يكن انفصام تلك الصلة القوية التي ربطتني وإياك زمناً طويلاً لتحول بيني وبين أن أكتب لك الآن، وأنت في أشد حالات الضيق والضنك! ولم يكن عبثاً ذلك الرباط الذي جمع بين قلبينا زمناً ما!! فإن كنا على غير اتصال «جسماني» فلنكن على اتصال «كتابي»!! وإن كان «الفن» هو الذي فرقنا فليكن الفن هو الذي يجعلني أكتب إليك!! إن «العيش والملح» يا نجيب يحتم عليّ أن أواسيك يا شهيد الفن وضحية الغرور!! «طلقتني» في سبيل الفن باسم الدين والشرف فـطلقك الفن باسم التطهير والاستغناء!! قدمتني «ذبيحة» على هيكل التمثيل فقدمك التمثيل ذبيحة على هيكل الاضمحلال والخراب!! آثرت هجري عن هجر «حاشيتك» وطمحت إلى العلو وأردت أن تبني وحدك من دوني مجداً عالياً وشهرة تبلغ الآفاق .. فانهارت «مجهوداتك» وما كمل مسرحك حتى أغلق، وما تكونت فرقتك حتى تشتت! هل في الذكرى يا نجيب ما ينبه حواسك، ولعلك تذكر قلبي الصافي الذي أبى أن يراك في هذه الحال ولا يواسيك .. ولعلك تقدر كلمتي هذه التي أكتبها، وليس في قلبي أي «شماتة» أو «انبساط»، بل على النقيض من ذلك في القلب حسرة وفي العين دمعة! يا ليتك لم تفتح مسرحك يا نجيب برواية المتمردة! لقد كانت فألاً سيئاً عليك! أخرجت المتمردة فتمرت المتمردة عليك! حاولت أن تخرج «الشرك» فوقعت في الشرك! مثلت «اللصوص» فإذا بك متعوس منحوس! إذ ذاك لم تجد لك مخرجاً إلا «التمرد» على الفن وإغلاق «المسرح»! ضحيت كثيراً في سبيل الفن، ويعلم الله إني بكيت أسفاً على «شاربك»! لقد كان آية «فنك» كما كان شعر «شمشون» كل قوته! فلما أزلته زالت بزواله المقدرة الفنية!! حتى التمثيل «الكشكشاوي»! لم تستفد شيئاً منه يا عزيزي «في مشروعك الجديد»! حتى في الألقاب لم نر لك شيئاً جديداً مع أنك «أغدقت» الألقاب على سائر ممثلاتك وممثليك! إيه يا نجيب! أين يومك من أمسك؟ وأين أمسك من أول أمسك؟ وأين ما كنت تنشده من الرقي والشهرة؟ وأين ذلك المجهود الفني الكبير! أين أقلام «الحاشية» التي أوشكت أن تضع أكاليل الغار فوق رأسك؟! ما لها لا تخفف عنك همك وكدرك؟ ما لها لا تدافع عنك وعن فشلك؟ لقد كانت أول من رمت قفازها في وجهك! لعلك تحذرهم مرة أخرى يا نجيب إذا هممت بمشروع ولعلك لا تغتر بنفسك أو بكلامهم، ولعلك تتخذ من الماضي درساً يقيك عثرات المستقبل! ولعلك تذكر أن بديعة «بديعة» حتى في أفكارها وأن من يعاندها فالدهر يعانده! لدي «فكرة» يا نجيب! كوّن فرقة من جديد أو ضم فكتوريا موسى إليك! إنها قوه كبيرة، وأظن أنها ليست «نحساً» أو «ضمني» إليك! واذكر أيامك الأولى في الإجيبسيانة! [توقيع] «بديعة».
هذا الخطاب أحدث بلبلة كبيرة وقتذاك، وأثر سلباً على الريحاني لا سيما وأنه صادر ضده من بديعة مصابني زوجته السابقة وبطلة فرقته السابقة أيضاً، مما يعني أن الطعنة جاءت مزدوجة، وأن الشماتة كانت خنجراً بنصلين!! والغريب أن بديعة حاولت التنصل من الخطاب مدعية أنها لم تكتبه، ولم توافق على نشره!! هذا ما نشره «مصطفى القشاشي» صاحب مجلة «الصباح» في أواخر ديسمبر 1926، قائلاً: «قابلتنا السيدة بديعة مصابني وصرحت لنا أن ما نشرته بعض زميلاتنا [يقصد مجلتيّ «النيل» و«روز اليوسف»] عن لسانها، وفهم منه الجمهور أنها شامتة في زوجها السابق الأستاذ نجيب أفندي الريحاني، لا علم لها به مطلقاً. وكذلك نشرت إحدى الزميلات [يقصد مجلة «الممثل»] خطاباً موقعاً بإمضاء السيدة بديعة مصابني خلاصته أن الفشل الذي أصاب الأستاذ نجيب إنما ترجع أسبابه أن الأستاذ نجيب لم يستمع لنصائحها. كما أن بعض المجلات أشارت إلى أن مفاوضات حصلت بين الأستاذ نجيب والسيدة بديعة في سبيل الصلح، وأن هذه المفاوضات لم تنجح .. فالسيدة بديعة تُكذب كل هذه الأقوال التي نُشرت باسمها أو نُسبت إليها خاصة بالأستاذ نجيب الريحاني، وقد زادت على ذلك فصرحت لنا أنها تتمنى له كل نجاح وفلاح، ولا تحمل له إلا كل ذكريات طيبة.
بعد يومين من نشر هذا الكلام، قامت مجلة «العاشر» بنشر كلمة مضادة لما جاء في مجلة الصباح، عنوانها «بديعة والتابعي»، قالت فيها: نشرت مجلة روز اليوسف حديثاً لمحررها مع السيدة بديعة عن نجيب الريحاني وفشله في مشروعه. وما أن ظهر الحديث حتى سارعت السيدة بديعة لتكذيبه بكل الوسائل. وقرأ التابعي أفندي هذا التكذيب في إحدى المجلات فثار وغضب وأكد لنا أن حديثه معها لا يمكن أن ينال منه تكذيباً. وكنا في اجتماع النقاد فأخذ جماعة منا وذهبنا لمقابلة السيدة بديعة. ودار حديث بيننا وبينها فهمنا منه أنها قالت شيئاً مثل هذا، ولكنها ما كانت تود أن يُنشر على الناس أبداً. وأكدت لنا أنها كثيرة الإشفاق على زوجها الريحاني وأنها أبداً لم تكن فيه شامتة، ولا يحق لها أن تشمت لأن ذلك ليس من شيمة أمثالها. وودت لو أننا نصغى لرجائها فلا نكتب عنها ولا عن زوجها الماضي شيئاً لأن ذلك يؤلمها ويؤلمه! ونحن نعدها بأننا لا نكتب شيئاً إلا إذا جدّ في الأمر شيء!!
وبالفعل تمّ إغلاق هذا الموضوع، ولم تتحدث عنه الصحف بعد ذلك - أو توقفت الصحف مؤقتاً عن النشر فيه - لأن الريحاني بدأ يستعيد نشاطه وبدأ في تكوين فرقة جديدة، بعد أن قرر عودته إلى الريفيو والفودفيل بشخصيته الفنية الشهيرة «كشكش بك». وعن هذا الاستعداد كتب الناقد «محمود طاهر العربي» كلمة في مجلة «ألف صنف» في يناير 1927 تحت عنوان «تياترو الريحاني»، قال فيها:
رأيت أن أتحدث إلى الأستاذ الريحاني حديثاً موجزاً ألم منه ببعض ما يهم القراء والاطلاع عليه من مشروعه الجديد فسألته: هل بدأت البروفات فأجاب: منذ أربعة أيام. قلت: هل استلمت «طرد» الممثلات والراقصات الذي قيل إنك كنت سافرت الإسكندرية من أجله؟ قال مبتسماً: استلمته وأصبح لدينا الآن ثلاثين ممثلة وراقصة من أبدع ما ظهر على مسارح مصر جمالاً ورشاقة، وهن يدربن الآن على الرقص والتمثيل والغناء حسب الروايات الموضوعة. قلت: وهل هي من نوع «الريفو»؟ قال: نعم ولكنه نوع جديد فاتن مدهش أؤكد لك أنه الوحيد في مصر للآن. ثم استطرد في حماس قائلاً: تأكد أن عملي الجديد قائم على أمتن أساس فالإضاءة والمناظر والخيال كلها من أبدع ما وصل إليه فكر إنسان. والملابس تُعمل خصيصاً على مثال تياترو «فولي برجير» الشهير بباريس. أما المناظر فهي من صنع «لومباردي» الرسام الإيطالي الذائع الصيت، الذي قام برسم سراي عابدين. أضف إلى كل ذلك أن الجمهور سيجد نفسه أمام مباغتات مسرحية مدهشة لم يألف مثلها إلا الذين سافروا باريس وتغلغلوا في صميم أوروبا وملاهيها. على أنني إلى جانب كل ذلك فقد انتخبت من بين ممثلينا وممثلاتنا خيرهم في هذا النوع، وموعدنا في الغد وأن الغد قريب .. فلننتظر ماذا سيكون؟؟