التنازل عن الإنسانية يبدأ بخطوة

التنازل عن الإنسانية  يبدأ بخطوة

العدد 818 صدر بتاريخ 1مايو2023

في مزرعة، وبينما يغازل زوجٌ زوجَتَه ويُظهر مدى حُبّه لها، يدخل رجلٌ يَدّعي أنّه طبيب، اسمه آدم، جاء استجابة لإعلان نشره صاحب المزرعة. يتردد الرجل في قبوله، ويدور نقاش طويل بينه وزوجته، التي طلبت بقاء الطبيب؛ فيوافق صاحب المزرعة بشرط التزام السرية، ويبدي الطبيب موافقته.
هنا، يدخل على المسرح مجموعة من البشر في مختلف الأعمار، يرتدون ثيابا تمثّل جلود الكلاب، يسيرون ويتصرفون كما تتصرف الكلاب؛ وهكذا يبدأ العرض المسرحي «المأوى»، من تأليف أحمد سمير، وإخراج محمد عرفة.
يظهر على العرض المسرحي المذهب التعبيري، ويتضح ذلك من ضخامة منازل الكلاب، والكرسي ذي الأجنحة، بجانب النقوشات والرسومات في الخليفة التي تدل على توفير الحياة الملائمة لتلك الكلاب البشرية.
فمن خلال المشاهد، نتعرّف أنّ كلّ بَشَريّ قرّر أن يكون كلبا مقابل المكوث في المأوى. احتَمَتْ الكلاب البشرية بالمأوى بسبب تعرضهم للظلم والفقر والجوع والمرض، وكثير من الأسباب الأخرى؛ مثل روح المغامرة، وحبا في التجارب الجديدة. وصولا إلى نهاية العرض، عندما يترك لهم صاحب المأوى حرية الاختيار بين البقاء فيه، ويعيشون كالكلاب، أو الذهاب خارجه ويعودون بشرا كما كانوا من قبل؛ لكنهم يكتشفون أنهم قد أصبحوا حيوانات بالفعل!
التنازل عن الإنسانية
تطرح مسرحية «المأوى»، التي أقيمت على مسرح قصر ثقافة بني سويف، قضية التنازل عن الإنسانية؛ إذ تناول الكاتب أحمد سمير «ظاهرة الكلاب البشرية» التي انتشرت في أوروبا خلال الفترة الماضية. تُبنى الظاهرة على الأفراد الذين يقررون التنازل عن إنسانيتهم مقابل بعض المال، ليصبحوا كلابا بشرية.
والملاحظ في هذه الظاهرة هو صعوبة العودة إلى الإنسانية مرة أخرى، ظهر ذلك في مشهد «الماستر بيس»، وهو عودة الكلب البشري «جاك»، الذي مكث عاما كاملا في المأوى، ثم خرج يوما واحدا واكتشف أنّ الطبيعة الحيوانية أصبحت طاغية على الطبيعة البشرية؛ لذلك قرر العودة إلى «المأوى» مرة أخرى.
تفكيك الوحدة الزمنية
في عرض «المأوى»، أبرز المخرج هذه التقنية، عبر الاسترجاع في الجزء الأمامي للمسرح، على عكس التنسيق الكلاسيكي؛ ليُشعر الجماهير بأنّ هذه المشاهد قريبة منهم. فنجد مشهد استرجاع الطبيب إلى طفولته: يرقص طفلان استعراضيا على الجزء الأمامي من المسرح.
وفي مشهد ثانٍ: استذكار فتاة لماضٍ أليم، قررت بسببه الذهاب إلى المأوى؛ فيكون المشهد استعراضا يصف هذا الماضي بكل تفاصيله. ومشهد آخر لكلب بشري، يكشف لنا أنّ المرض دفعه ليلتحق بالمأوى؛ وهكذا نلاحظ جميع المشاهد الاسترجاعية في مقدمة المسرح لتكون أقرب إلى  قلب الجمهور.
 عانت بعض المشاهد من الترهل الدرامي، بسبب كثرة استخدام تقنية الاسترجاع؛ إذ يعود كل كلب بشري لقصّ حكايته. ففي المشهد الأول، نجد الزوجة تحاول إقناع زوجها بالموافقة على بقاء الطبيب، ومشهد آخر نلاحظ الفتاة التي جاءت المأوى لأجل روح المغامرة، نعرف من الأحداث أنّها الفتاة نفسها التي كانت تعطف عليه حينما كان طفلا؛ فيظهر في المشهد بعض الإطناب الحواري، ما قد يُشعر الجمهور بالملل والرتابة.
لماذا «المأوى»؟
نرى المأوى يجمع البشر (الكلاب) التي عانت من الظلم والفقر والجوع والمرض، ومنهم أيضا الظالم. فالأول «ماكس»، الذي يؤدي دوره «محمد فاروق»، يوضّح لنا سبب دخوله إلى المأوى؛ فقد ظل يعمل طوال عمره حتى انتصب ظهره وأصبح غير قادر على العمل، فذهب للمأوى للتنازل عن بشريته ويصبح كلبا بشريا.
وهناك كلب بشري آخر يمثّل الشخصية الظالمة؛ فتسبب في تشريد الطبيب حينما كان طفلا، وقتل طفلا آخر حينما اكتشف أنه ليس ابنه، ثم ذهب إلى المأوى ليختبئ، وليجد له أيضا مأوى. وكثير من الكلاب البشرية التي وجدت لنفسها سببا للتنازل عن إنسانيتها.
«لمَّا الحياة مَرّتْ على جروحنا..
كسرتْ قلوبنا وشوّهتْ روحنا»
تتحدث المسرحية عن المعاناة البشرية، ووصف الموت بأنه دار الأمان، وفقا للشاعر والكاتب المسرحي أسامة بدر، الذي عبر إلى وصف المسرحية بأكملها من خلال كلمات أغنية يُعبّر كل شطر فيها عن لحظة داخل السياق الدرامي، وبرع المخرج محمد عرفة في استخراج ذلك وتجسيده وظهوره، ؛ فوصف الإنسان عندما يتنازل عن هويته الإنسانية الخاصة به ويصبح حديثه أشبه بالنباح والعويل.
وكما حدث مع الكلاب البشرية التي أرادت تحقيق السعادة والأمان مقابل التنازل عن الإنسانية التي امتازوا بها، ولم يحققوا شيئا؛ بل أصبحوا مسوخا مشوّهة، وحتى حينما أتيحت لهم فرصة الاختيار والعودة إلى إنسانية مرة أخرى وجدوا صعوبة بالغة؛ لذلك اختاروا المكوث في المأوى والتصرف كالكلاب!


جهاد طه