المسرح المصري وثورة 1919

المسرح المصري            وثورة 1919

العدد 613 صدر بتاريخ 27مايو2019

هذا الموضوع، هو إعادة صياغة لبحث علمي بالعنوان نفسه، ألقيته يوم 13 أبريل 2019، في ندوة بعنوان «مئوية ثورة 1919»، أقامتها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وذلك في حضور مقرر الندوة الأستاذ الدكتور أحمد الشربيني عميد كلية الآداب جامعة القاهرة. ومن حسن الطالع، أن الجلسة كانت فنية تاريخية، تتعلق بالثورة. حيث قدمت الدكتورة نسرين عبد العزيز بحثا بعنوان «الدراما وثورة 1919»، وقدم الأستاذ عبد المنعم الجميعي ورقة بعنوان «سيد درويش وثورة 1919»، وقدمت أنا بحثي هذا، وترأس الجلسة الأستاذ الدكتور أحمد زكريا الشلق.
المشاركة الثورية
من المعروف أن جميع طوائف الشعب المصري، شاركت في ثورة 1919، ومن هذه الطوائف طائفة الممثلين المسرحيين. فقد سجلت لنا مجلة «آخر ساعة» – في مارس 1935 - شهادة بعض المعاصرين لهذه الثورة، وعلمنا منهم أن السلطة العسكرية حينها منعت المسارح من فتح أبوابها بعد الساعة الثامنة مساء لمنع تزايد المظاهرات؛ فقام الممثلون والممثلات بمظاهرة حماسية مشاركة منهم في الثورة؛ حيث ارتدى الممثلون الملابس التمثيلية الخاصة بالشخصيات الوطنية في أعمالهم المسرحية الحماسية، وركبوا عربات مفتوحة، هاتفين بالاستقلال التام أو الموت الزؤام! وكان من بينهم عزيز عيد بملابس نابليون بونابرت، والأستاذ عمر وصفي بملابس هارون الرشيد، والأستاذ فؤاد سليم بملابس عطيل، والأساتذة عبد المجيد شكري، ومحمود رضا، وحسين رياض، وأحمد فهيم، وعبد العزيز خليل بملابس مشايخ العرب. وسارت المظاهرة من شارع عماد الدين إلى ميدان المحطة إلى ميدان الأوبرا إلى ميدان قصر النيل، حتى وصلت إلى بيت الأمة. وفي ميدان قصر النيل، قابلت المظاهرة فرقة من الجنود الإنجليزية تحمل السيوف والبنادق والرماح! ووقفت السيدة زينب صدقي في عربتها وهتفت بأن النيل لا يتجزأ، ومصر والسودان لا ينفصلان.
وفي نوفمبر عام 1937، نشر الكاتب والناقد والممثل المسرحي علي حسن سليمان طبنجات - الشهير بعلي طبنجات – مذكراته في «مجلة النيل»، وروى لنا كيف شارك في الثورة، عندما كان يمثل في فرقة مسرحية جوّالة بمدينة سمالوط، أيام وجود لجنة ملنر في القاهرة، ووجود سعد زغلول في باريس من أجل المفاوضات مع الإنجليز ليحصل على استقلال مصر. فقام طبنجات بالاتفاق مع الممثلين بأنه سيغير في حواره التمثيلي، حيث ارتجل بعض الأبيات الشعرية مشاركة منه في الثورة، وكانت أبياتا حماسية، ذكر فيها صراحة سعد باشا، ودوره في الثورة. واختتم طبنجات هذا الموقف، قائلا: «لم أكن شاعرا، ولم أنظم الشعر؛ ولكنها الروح الوطنية، وحبي لسعد الخالد الذكر، هي التي دفعتني، لأن أقول ما قلت. ولا تسل عن مقدار فرحي وسروري، حينما أخذ الجمهور يصفق ويهتف (يعيش سعد باشا)، وأنا أصيح واهتف معهم. وانقلبت الحفلة إلى مظاهرة، دعوني بعدها إلى المديرية للتحقيق معي ولكن أفرج عني».
ومن الأمور الثابتة تاريخيا، أن اجتماعا تم بين الموظفين في وزارة الحقانية يوم 12 أبريل 1919، وقرروا الإضراب عن العمل أطول فترة ممكنة؛ مشاركة منهم في الثورة. وإذا كان موضوعنا يتعلق بالمسرح والمسرحيين، فقد لاحظنا أن بعض المسرحيين كانوا من موظفي الحكومة، ومنهم تحديدا الفنان سليمان نجيب الكاتب بقسم القضايا، والذي حضر الاجتماع، وقرر الإضراب عن العمل. ففي ملفه الوظيفي، ورقة مؤرخة في 30/ 4/ 1919، تفيد بأن قسم الحسابات بوزارة الأوقاف، قرر خصم أيام الإضراب، التي انقطع فيها الموظف سليمان نجيب في شهر أبريل، وإثبات هذا الخصم من مستحقاته المالية، وإثبات ذلك في ملف خدمته، حيث بلغت أيام إضرابه ثمانية عشر يوما.
رموز الثورة والمسرح
كان سعد زغلول وأعوانه من قادة الثورة وأعضاء الوفد، يعلمون أن الصحافة هي وسيلة الإعلام الوحيدة المتوفرة أيام الثورة؛ وهي وسيلة مقصورة فقط على المتعلمين!! ولكن جموع الشعب من أميين ومتعلمين ومثقفين – بوصفهم وقود الثورة الحقيقي الجامع لأصياف الشعب – كانت وسيلة إعلامهم جميعا المسرح!! هذه الحقيقة – ربما - فطن إليها قادة الثورة، لذلك وجدناهم يحضرون العروض المسرحية، ويلبون دعوات الفرق والنوادي والحفلات الخيرية، التي تُعرض فيها المسرحيات!!
فعلى سبيل المثال في عام 1921، حضر سعد باشا زغلول، ثلاثة عروض مسرحية: الأول عرض «عصفور في القفص» أقامه نادي المعارف، والثاني «الشقيقين» أقامته مدرسة الهلال والصليب. أما العرض الثالث فكان مجموعة من الفصول المسرحية المتنوعة، أقامها نادي النسر الذهبي، وحضره سعد باشا زغلول مع مجموعة كبيرة من رموز الثورة، منهم: إبراهيم باشا سعيد، وفتح الله باشا بركات، وسينوت بك حنا، ومصطفى النحاس، وعاطف بك بركات، وويصا بك واصف، وواصف غالي، ومحجوب ثابت، ومحمود النقراشي، وراغب إسكندر.
حكومة الشعب والمسرح
حققت الثورة بعضا من أهدافها، والتف الشعب حول سعد باشا وأعضاء الوفد، حتى تكونت أول وزارة باختيار الشعب في يناير 1924، وهي وزارة سعد باشا، أو الوزارة السعدية، التي عُرفت بأنها «حكومة الشعب»!! وعلى الرغم من هذا النجاح، ظل سعد باشا مرتبطا بالمسرح والمسرحيين، حيث حضر – في فبراير 1924 - مع جميع أفراد وزارته حفل تكريم وزارة الشعب، من قبل مدرسة المعلمين العليا، حيث عرض طلاب المدرسة فصلا من مسرحية «في سبيل التاج». وفي مايو 1924، حضرت وزارة الشعب بأكملها، مع أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب حفلة نادي الحقوق بالأوبرا، لمشاهدة مسرحية «معروف الإسكافي»، كما تم عزف نشيد سعد باشا، قبل التمثيل. وفي مايو أيضا حضر سعد باشا وجميع أفراد وزارة الشعب مسرحية «توت عنخ آمون» بمسرح الكورسال، والتي قدمها طلاب المدرسة الخديوية بإشراف مؤلفها وملحنها وأستاذ التمثيل في المدرسة محمود مراد؛ بوصفه أول مبعوث حكومي لأوروبا لدراسة المسرح والموسيقى. وحضور سعد باشا لهذا العرض تحديدا، كان دافعا كبيرا، لإدخال المسرح ضمن المقررات الدراسية في المدارس الثانوية المصرية ابتداء من عام 1926.
الفرق المسرحية والثورة
منيرة المهدية
تُعد فرقة منيرة المهدية من أهم الفرق المسرحية، التي ساندت الثورة بفنها؛ حيث كانت منيرة تغني بعض الأغاني الوطنية والحماسية قبل العرض المسرحي، في الأيام الأولى للثورة، مثل أغنيتها «أنا منيرة المهدية.. حُب الوطن عندي غيّة»، وأغنيتها «الواحدة منا بأدبها.. تصون ناموسها وعفافها.. تدوس غرامها برجليها.. عشان وطنها وشرفها».
ومع اشتداد الثورة، ونفي سعد زغلول، وما دار من مفاوضات، عرضت منيرة المهدية سلسلة من المسرحيات، التي ترمز إلى الثورة، من أهمها مسرحية «كلها يومين»، التي قال عنها الناقد محمد عبد المجيد حلمي: «هي قطعة مسرحية، وضعت لظرف خاص من ظروف النهضة الوطنية في سنتي 1919 و1920، يوم كانت النار مستعرة، ويوم كانت النفوس صارخة، والشعور ملتهبا. إذن في هذا الظرف الخاص، وضع الشيخ يونس القاضي رواياته الثلاث: كلام في سرك، والتالتة تابتة، وكلها يومين! هو وتر واحد، أخذ الكُتاب يضربون عليه بقوة وشدة، هو وتر الوطنية المقدسة!! ورواية كلها يومين، هي نغمة من نغمات ذلك الوتر المتعددة القوية، هي نغمة عدم الوثوق بالخواجات.... والرواية تحث المصري علي النزول إلى ميدان العمل المثمر، بصرف النظر عن درجة ذلك العمل، وملاءمته للشخص ما دام منتجا».
ومسرحية «كلها يومين»، مثلتها فرقة منيرة المهدية في مايو 1920، وتدور أحداثها – بصورة رمزية - حول سعيد طالب الطب، وشقيقته منيرة. وهما يعيشان سويا في مستوى اجتماعي لا بأس به. وتخدمهما ماري الأجنبية ابنة الخواجة ماركو الأجزجي، وأيضا عم شاهين البواب المصري ابن البلد. أما الدكتور زكي فهو من الجيران المخلصين. والخواجة ماركو نجده، يحاول الاستيلاء على كل أملاك سعيد ومنيرة بلا مقابل، فيدفع ابنته ماري دائما لمغازلة سعيد بغرض الزواج. وعندما يفشل في هذا الأمر، يقوم بافتعال حريق في منزل سعيد، فيحرقه بما فيه من أوراق ومستندات، وبالأخص شهادة سعيد الدراسية. ويحاول التظاهر أمام سعيد ومنيرة، بأنه متألم لهذه المصيبة، ويمنيهما بدفع بعض الأموال كمساعدة منه، ولكن بشرط أن يكتب سعيد كمبيالة، لحين الذهاب إلى البنك. وأمام الاحتياج يكتب سعيد الكمبيالة، ولكن ماركو يخدعه ويكذب عليه ويقول إن منيرة أخذت الأموال. وعندما تسأله منيرة يقول لها إن سعيد أخذ الأموال، وعندما يسأله شاهين، يقول له إن سعيد جاء ببواب غيرك. وهكذا استطاع الخواجة الأجنبي أن يطرد المصريين من دارهم. وبعد فترة طويلة، نجد سعيد يبيع الفول والطعمية، ومنيرة تبيع الزبدة، وشاهين يبيع الشاي والقهوة، ويتخذون قرارا برفع قضية ضد الخواجة ماركو، ويستطيعون بهذا الاتحاد استرداد حقوقهم، ووضع ماركو في السجن.
ومن هذا الملخص، يتضح لنا الغرض من المسرحية، التي تتحدث عن الثورة بصورة رمزية!! وهذا ما أكدته منيرة المهدية فيما بعد، عندما قالت، تحت عنوان كافحت الإنجليز بغنائي: «كان الشيخ يونس القاضي أثناء ثورة 1919، يمدني بكثير من الروايات الناجحة، التي كانت تدور حول كفاحنا ضد المستعمر البغيض؛ ولكن بطريق الغمز واللمز والتورية؛ لأن الرقابة التي وضعها الإنجليز على ما تقدمه دور المسرح والسينما والملاهي في ذلك الوقت، كانت تحول دون مصارحة الإنجليز بكرهنا لهم فيما نقدمه من الروايات والأغاني. وفي ذلك قدمت على المسرح الذي كنت أعمل فيه - وهو دار التمثيل العربي - مسرحية اسمها كلها يومين. وفي هذه المسرحية كنت أقوم بدور بائعة زبدة، فأحمل فوق رأسي وعاء به بضاعتي، فأسير بها منادية عليها بأغنية أقول فيها (صابحة الزبدة.. بلدي الزبدة.. يا ولاد بلدي.. زبدة يا ولدي.. اشتري واوزن.. عندك واخزن.. واوع تبيعها.. ولا تودعها.. عند اللي يخون.. لتعيش مغبون.. وازاي حاتهون.. بلدي). وهذا الكلام لم يكن فيه طبعا ما يدعو إلى تدخل الرقابة، ولم يكن قلم الرقيب ليستطيع أن يشطب حرفا واحدا منه. ولكن كان للأغنية معناها، الذي يفهمه الجمهور جيدا، وكانت تهدف إلى الحض على كراهية المستعمر الغاصب.... ولم تكن هذه هي الأغنية الوحيدة في رواية كلها يومين، التي تثير الحماس ضد الإنجليز، بل كانت هناك أغنية أخرى، ترددها مجموعة من الكورس لأحد الجناينية، وهو ممسك بالخرطوم يروي به حديقته.. فكان أفراد الكورس يقولون للجنايني في لهجة تحذير: (أوع الخرطوم ليروح منك... أوع الخرطوم أوع الخرطوم)، وكلمة الخرطوم هنا التي رددها الكورس في هذه الأغنية، كانت تورية صريحة إلى مدينة الخرطوم عاصمة السودان، وتحذيرهم عندما يقولون (أوع الخرطوم)، كان مقصودا به وجوب التمسك بالخرطوم العاصمة».
والجدير بالذكر إن منيرة المهدية، كانت تتنقل بين فرقتها المسرحية وتختها الموسيقي!! فتارة نجدها صاحبة فرقة مسرحية لها عروضها، وتارة أخرى نجدها تقيم حفلات غنائية فقط من خلال تختها الموسيقي. وفي الحالتين، كانت تشارك بفنها في الثورة، وقد رأينا مشاركتها المسرحية – فيما سبق – وسأضرب مثلا واحدا على مشاركتها بتختها الموسيقي، عندما أرادت أن تقيم حفلة طرب وغناء عام 1926؛ حيث أعلنت جريدة الأهرام عن هذه الحفلة يوم 24 يوليو 1926، قائلة:
«إلى الزعماء السعديين، والأحرار الدستوريين، وجماعة الوطنيين. إلى الرجال العاملين، والعقلاء المديرين، والأدباء والمفكرين. إلى قادة الحركة الوطنية، إلى أبطال الحرية المصرية، إلى حماة الوطن الأمجاد، إلى غواة الطرب، وهواة الفن. إلى الموظف في مكتبه، والطالب في معهده، والزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والعامل في مصنعه، والطبيب في عيادته. إلى النهضة النسائية، إلى السيدة في بيتها، والآنسة في خدرها. إلى الشرقيين عامة، والمصريين خاصة.. أدعوكم يا خير شعب، لا فرق بين كبير وصغير، وغني وفقير. أدعوكم لتشاهدوا حفلة الطرب الأخيرة، التي ستقام في مساء يوم السبت 24 يوليو الساعة 9 ونصف مساء. تغني على تخت آلات الطرب، قبل احتجابها في المصيف. السيدة منيرة المهدية ببوفيه تياترو حديقة الأزبكية. تفتتح الحفلة بالنشيد الجديد، الذي لحنته لتحية صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، مدّ الله في عمره...».


سيد علي إسماعيل