العدد 751 صدر بتاريخ 17يناير2022
مع كثرة انشغالاته النقدية والتي اتسمت بطابع تحليلي للعروض والنصوص المسرحية، لم ينس الناقد الراحل د.محسن مصيلحي أنه كاتب مسرحي مبدع، فقدم مجموعة من المسرحيات لعل أشهرها “اللي بنى مصر” و”نازلين المحطة الجاية” و”عصفور خايف يطير” و”درب عسكر” التي أخرجها عصام السيد، في منتصف الثمانينيات على مسرح “الغرفة” والذي أسسه المخرج الراحل عبدالغفار عودة، والذي قدمت على خشبته مجموعة متميزة من العروض لكنه أغلق في نهاية الثمانينيات نتيجة بعض الممارسات البيروقراطية.
وقد شارك في بطولتها في عرضها الأول عبلة كامل وسامي عبدالحليم وحسن الديب ومحمد دردير. وقدمت المسرحية بعد ذلك في مسارح الثقافة الجماهيرية في عدة عروض.
وهو عرض حاول فيه “مصيلحي” أن يستلهم الفرجة الشعبية مستخدما أطرها الفنية المتوارثة كالحكواتي وخيال الظل.
وقد أشار مصيلحي إلى الغرض من عرضه حين قال في مقدمة المسرحية:
“هذا النص محاولة تأريخ لبعض الفنون الشعبية، وأهمها فن الارتجال في بعض نماذجه الدرامية، وفي الوقت نفسه محاولة لتقديم الممثل المعاصر في شكل ممثل الارتجال له ما للممثل الارتجالي القديم من قدرات وتصورات وخيال”.
أي أنه يجب عليه أن يملأ بعض فراغات هذا النص بإبداعاته الخاصة، وهذا التصور المبدئي قابل لإعادة الصياغة مرة أخرى وفقا لتصور العمل الجماعي في مثل هذه العروض الحية والمتجددة يوميا.
والعرض يعتمد على التمثيل فقط، وعلى هذا فليس هناك ديكور بالمعنى المعروف وإنما إشارات بسيطة تدل على المكان.
ومن هنا فإن عنصر الإخراج يكتسب أهمية فائقة في استفزاز المتفرج وجذبه إلى المشاركة الحيوية في العرض المسرحي.
وهذا ما رأيناه بالفعل في التركيبة المسرحية التي تم فيها اندماج الشخصية الحقيقية للممثلين مع الشخصية الفنية التي يتناولها العرض، فنرى –مثلا- أبطال العرض يظهرون بأسمائهم الحقيقية، “عبلة كامل” و”سامي عبدالحليم” و”محمد دردير” و”حسن الديب” و”زين نصار” و”مخلص البحيري” و”حنان يوسف”.
وربما جاء ذلك الخروج من نمطية الأداء ليتناسب مع هذا اللون المسرحي الذي يعتمد على آليات تجريبية تستمد طزاجتها من فطرية التراث، وتتلاشى فيه حدود الزمان والمكان ولا يصبح لهما أي اعتبار كما كان في المسرح التقليدي، ومن ثم يصبح لهما أي اعتبار كما كان في المسرح التقليدي، ومن ثم يصبح الإطار التمثيلي هو محور العمل الفني، ويكون العتبة الأولى للمسرح، بما فيه من فضاءات شاسعة للأداء الحركي والإيمائي.
وإذا كانت النهضة المسرحية الأوروبية قد قامت على عدة عوامل\ فنية من أهمها:
تفعيل دور الديكور بأنواعه المختلفة من “إضاءة وصوت وسينوغرافيا وديكور بصري إلخ” فإن محسن حلمي مؤلف العرض وعصام السيد مخرج العرض اعتمدا -كثيرا- على الديكور الحركي بشكل أساسي، حيث أصبحت حركة الممثلين على خشبة المسرح هي محور العرض كبديل حيوي عن الديكور البصري الذي يقول عنه “فورست” مشيرا إلى إحدى وظائفه الحيوية “أن الممثل يرتبط بالماديات الموجودة، بمعنى أن حركات الممثل وإيماءاته ونظراته يحكمها وجود هذه الأشياء المادية التي تشترك في الأداء.
أقنعة بديلة
وأرى أن هذه حيلة ذكية من المؤلف والمخرج حتى لا ينشغل المشاهد بكثرة التفاصيل وتناثرها على خشبة المسرح، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لأن هذا النوع من المسرح يعتمد على الفرجة المسرحية لا يريد الاتكاء على أقنعة بديلة خارجة عن إطاره لأنه يحمل في داخله دلالات ورموز اجتماعية وسياسية متعددة.
أما عن أحداث العرض فتدور في شارع شعبي يملؤه المارة، وفجأة يظهر فنانو الظل والأراجوز وينادي واحد منهم بنداء تقليدي يعلن عن هوية الوطن:
يالله يا أفنديات تعالوا يا بهوات، خيال الضل بتلات مليمات، أما المؤلف وأنا المخايل. أنا البنا وأنا المناول، يا الله يا أفنديات يالله يا بهوات”.
لكن يفاجأ هذا المنادي العجوز بانصراف الناس عنه أثناء تقديمه لجزء من مسرحية ظلية فيها تكنيك خيال الظل التقليدي، في إضاءة وشخوص وحوار، ولا يستطيع أن يجمع الثلاث مليمات التي أعلن عنها ثمنا للمشاهدة، فيقلل المبلغ إلى مليم واحد، لكن لم يعره أحد اهتماما، مما جعل ابنه والذي قام بدوره الفنان “حسن الديب” يعلن عن سخطه عليه واعتراضه على ما فعله أبوه لأنه يقلل من شأنه بعدما أصبح موظفا حكوميا فلا يليق بأـبيه مثل هذه الأفعال التي يدخلها الابن في دائرة الاستجداء.
ومع ذلك يتمسك الأب بفنه، الذي يعتبره صوتا حرا للفقراء والمساكين من أبناء الشعب، ولننظر إلى هذا الديالوج المعبر:
الابن: خيال ضل؟ دي ألفاظ ولا حركات؟
العجوز: خيال الضل كدة: قارح وقبيح لإنه بيقول للأعور أنت أعور في عينه.
فن مكشوف الوش، همام، ما يستحيش من مخلوق، واجه الناس يا عصفور قول لهم على اللي نفسك تصلحه.
وريهم عيوبهم إيه، فرجهم على فنونك وألعابك.. بتهرب ليه؟
صراع نفسي
وهنا تبرز فكرة الصراع النفسي داخل شخصية الابن الذي يتجاذبه طموح برجوازي اجتماعي من الممكن أن يحققه من خلال عمله الوظيفي في الإدارة الحكومية.
كما يتجاذبه خيط أسري لأسرة تقدم عروض الأراجوز وخيال الظل وليس من الممكن التخلي عنه.
وهنا تبرز شخصية زوجة الابن والتي قامت بدورها الفنانة عبلة كامل، والتي تقف في صف الأب المرتبط بفنه ويرى فيه كل حياته.
تقول الزوجة: قطعت قلبي.. شد حيلك بقي واعمل اللي نفسك فيه.. أهو مشى.
العجوز: طيب إيه رأيك ها قدم فن الحرافيش.. والذعر والعامة.. آمال ها قدم فن لمين؟ للتخان الملظلظين أمهات كروش وشوش حمراء؟ وشوف بقى عمري ما ها أقدم خيال الضل للناس دي.. ده أنا أموت لو الشمعة دي في يوم انطفت.. هيكون آخر يوم في عمري.
وبهذا الخطاب يطرح النص المسرحي مجموعة من القيم الإنسانية الرفيعة وأهمها –منة وجهة نظري- التأكيد 8على قيمة الانتماء إلى المكان والاتجاه إلى السباحة في مواجهة التراكمات الأيديولوجية القاتلة التي سلبت من الإنسان جوهر الروح وحولته إلى مادة قابلة للتشكل في إطار برجماتي عفن.
يقول محسن مصيلحي في مقدمة مسرحيته: “هذا النص محاولة لاستعادة فن الارتجال.
والعرض يعتمد على التمثيل فقط... وعلى هذا فليس هناك ديكور بالمعنى المعروف وإنما هو إشارات بسيطة تدل على المكان أو الشخصية.
ومن هنا فإن عنصر الإخراج يكتسب أهمية فائقة في استفزاز المتفرج وجذبه إلى المشاركة الحيوية في العرض المسرحي”.
وأعتقد أن هذه التيمات المسرحية عملت على إثراء العرض المسرحي، بما فيها من دهشة وكسر حاجز الإيهام، وقربت الرؤية المسرحية للجمهور، من خلال جمل مسرحية بسيطة لكنها عميقة المعنى.