العدد 840 صدر بتاريخ 2أكتوبر2023
منذ حفل الافتتاح، كشف مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في الدورة 30 ، عن رؤيته المنفتحة على كل أنماط ومستويات ومسارات التجديد والتحديث في مشهدية الخطاب المسرحي الجديد الذي يسعى المهرجان لتكريسه عبر فلسفته وأهدافه وغاياته حين قرر أن يكون عرض (تشارلي) الاستعراضي المصري افتتاحاً له في هذه الدورة، وهو اختيار ينطوي على استقراء عميق لحاجات المتلقي ورغبته في المغايرة والتجديد من جهة، وحاجات المسرح والرؤى الفنية فيه إلى تلك المغايرة في الأنماط والأشكال التقليدية التي أثقلت كاهل مهرجاناتنا المسرحية عبر حفلات افتتاح تقليدية تتكرر فيها الكليشيهات الباردة التي تبتعد عن جوهر وهوية المهرجان.
وتنطوي مشهدية خطاب عرض مسرحية (تشارلي) على فعل حيوي وجوهري، فعل متدفق ومتوهج، وهو فعل كشف وتعرف، أو حفر ونبش، وفعل تجديد وتأكيد القيم، وهو فعل الارتجال عبر الأزمنة وتقصي الأمكنة وحفريات الذاكرة، وذلك لأن مشهدية الخطاب المسرحي اليوم لا يمكن أن تتشكل بمنأى عن ذائقة التلقي المعاصر وعن ممكنات الإنتاج، فهي لا تقوم على أساس عملية رصف للعناصر الدرامية أو وصف للظواهر والصراعات والأزمات، وإنما هي محاكاة جوهرية لوقائع وحقائق أعيد إنتاجها لتعرض على الخشبة لكشف ما وراء تلك الحقائق وأسباب تلك الوقائع، وتشكلت في سياق يبعث في نفس المتلقي وفي روحه شعوراً بالمتعة الجمالية المتأتية نتيجة الإحساس بالسعادة والبهجة إزاء ما يقدم أمامه من تجسيد وتمثُل وافتراض وتخيل لأشياء حقيقية أو ممكنة أو مفترضة تقتضيها الضرورة الدرامية، وليست نسجاً أو رصفاً أو تلفيقاً لأحداث ووقائع وهمية، بل هي بحث متخفٍ يجعل معنى الخطاب المسرحي ينفتح ليعانق المتلقي، في روحه، وذكرياته الحميمية، وينقل بعضاً من كثافتها إلى الخشبة..
وفي محاولة إبقاء مخيلتنا محلقة صوب الأفق السرمدي الأثير، فإن رؤية العرض تسعى لكشف واكتشاف ومقارنة ومقاربة الأبجدية الأولى للمفردات والمشاهد الحيوية الحاضرة في أعماق ذاكرة التلقي، وفي مثل هذا الخطاب، لا يمكن إن تحده حدود مشاهد معدودة أو تحدد صياغة مفردات صناعة المشهد المسرحي، فهو فضاء مفتوح على المتخيل والافتراضي والممكن، وهو تجلٍ على تجلي، وضوء على ضوء، وأبجدية على أبجدية، تصاحبها محاولات اختلاس النظر باستمرار نحو تلك الأسئلة الفطرية الأولى والاستفهامات العذرية والدهشة البكر، التي أتاحت فرصة الوقوف قليلاً عند محطات الأسئلة الأساسية والجوهرية والحيوية التي قدحت الرؤية الأساس لبناء وتشكيل هذا العرض، وهذا الأمر يقتضي بالضرورة، تغيير وتعديل نمط أسئلتنا التقليدية القديمة، وتجديدها، وتحيينها، وملائمتها للمناخ التأريخي الجديد، وفضاء التلقي المعاصر، وجعلها تستجيب لروح العصر ومستجداته الحداثوية وخضّاته المتنوعة وانعطافاته المتباينة، لينهض كيان الرؤية الجديدة على أسس وثوابت جمالية تتوافق وروح العصر وإيقاعه المتدفق، وهذا الأمر يتطلب رؤية صافية، نقية، وبغير هذا الوعي المتوقد، والحس النقدي العميق، لم يكن خطاب عرض مسرحية (تشارلي) أن يحقق وجوده وغايته.
فالرؤى هي كون مفتوح قبل كل شيء، كون غير محدد الأبعاد والمستويات والآفاق، يسع جميع الأمكنة والأزمنة، الجغرافيا والتأريخ، العلوم والفنون، ويسع الأحياء والحياة، والكائن والممكن، الوجه والقناع، النور والظلمة، الضوء والعتمة، الوضوح والغموض، المادة والروح، المعنى والمبنى، الراهن والتأريخ، المحسوس والمتخيل، الغياب والحضور، التجربة والتجريب، الحركة والسكون، الأنا والأنت، النحن والآخر، القبح والجمال، الممكن والمحال، الفعل والانفعال، الموت والحياة.. وعلى وفق هذه الثنائيات المتعاضدة، سيلفظ المسرح كل التلفيقات الشكلية والإدعاءات الفارغة والمحتوى السطحي والمعنى الأجوف، فالخطاب المسرحي يعني الإمتلاء والغنى في جوهره ومعناه، مثل غنى الوجود والحياة ذاتها، ومثل غنى الروح والوجدان، فالعرض المسرحي هو الامتداد الروحي اللامحدود للوجود والإنسان والحياة.
إن الخطاب عرض مسرحية (تشارلي) بوصفه خطاباً جديداً ننتجه اليوم، هو بكل تأكيد خطابنا وليس خطاب غيرنا، وعليه فهو يحمل شيئاً من ملامحنا، ذائقتنا، إحساسنا، مشاعرنا، خطاب يشبهنا، وهو يشبه ذوات مبدعيه الذين أبدعوه، ويعكس الثقافة والبيئة التي أوجدته، فالمسرح مغامرة وجودية قبل أي مفهوم آخر، مغامرة فوق مغامرة، كتابة فوق كتابة، تشكيل فوق تشكيل، ولأن المسرح يقترح ويفترض حياة جديدة، في تعدد أبعادها ومستوياتها، فإن التلقي اليوم يطمح لأن يكون حفراً في طبقات العرض المسرحي، ليصل إلى الجوهر عبر تدرجات الأزمنة المتحولة وبوصلة الأمكنة المتبدلة، وعبر تعدد المحطات والمعاني والصياغات والأشكال، ليغوص في أعماق محيطات وبحار الذات الإنسانية، من خلال تجاربها وتجلياتها وهواجسها وتحدياتها الوجودية والاجتماعية والفكرية، عندها يصبح الخطاب المسرحي بحثاً لا يتوقف عن الإنسان المختبئ داخل الإنسان..
هذه أسئلة تمليها الرؤية المدهشة والمندهشة، الرؤية التي تمتد من مستوى الفضول الطفولي والبراءة الأولى إلى درجة الحكمة والفلسفة، ذلك ما كان عرض (تشارلي) يتمثله ويتبناه، وهو يطمح لأن يكون غوصاً في محيطات الرؤى المتعددة للذات الإنسانية، وتحليقاً في فضاءاتها المفتوحة والمتعددة والمتباينة، والكتابة عنها بالحروف والكلمات والأشكال والأجساد والموسيقى والأضواء والألوان، وحتى بالفراغ وبالصمت أحياناً..
وباعتماد العرض على الممكنات الغنائية والاستعراضية الراقصة كبنية مشهدية أساسية لاستكمال سياقات البناء الدرامي وما يراد لها ومنها في أن تحقق المتعة للمتلقي، فإن كل من الكاتب (مدحت العدل) والمخرج (أحمد البوهي) قد اهتما بكل تفاصيل الوحدات الجزئية الدقيقة في بناء المشاهد المسرحية التي قامت في بعض مفاصلها الرئيسية على مناقلة بعض مشاهد الأفلام السينمائية الكبرى من الفضاء السينمي واشتراطاته إلى الفضاء المسرحي وتجلياته، وهي المشاهد التي يتدفق منها الفعل الدرامي المتفجر صعودا نحو غاية مرسومة بدقة وبعناية فائقة، ليشكل الحدث الدرامي المتصاعد، والمتزامن مع ما حققته الاستعراضات والأغاني والموسيقى من متعة ودهشة وتسلية، تعاضداً جمالياً وبعداً هارمونياً، يؤشر بقوة لحضور خبرات طويلة وذائقة جمالية وقدرات عالية وإمكانات كبيرة وتجارب فنية متعددة، وهي تؤطر حالة الصراع المتمثلة بتلك العلاقات الإشكالية المضطربة والمتداخلة بين مكتب التحقيقات الفيدرالية وبين تشارلي شابلن من جهة، وبين تشارلي شابلن والرئيس الأمريكي من جهة أخرى، تلك العلاقات التي قام على أساسها متن البناء الدرامي للعرض، والذي تجسد من خلال المناقلة الفنية والجمالية لمفاصل أساسية في متن البنية النصية إلى صياغات غنائية واستعراضية راقصة دفعت بالأحداث باتجاه تصاعدي دون أم تغفل جانب متعة المتلقي، فلم تكن تلك الاستعراضات والرقصات والمقاطع الغنائية تهدف لتحقيق هدف شكلي بعدما تداخلت عضوياً مع مجمل مفاصل البنية الدرامية خلال جميع مشاهد العرض، عبر توظيف عديد التقنيات التي تعزز من عملية استكمال تأثير الصياغات الجمالية للمشاهد الاستعراضية التي دفعت اتجاه الحدث نحو فضاءات تتجلى فيها أبجديات صناعة الجمال باحترافية عالية وصياغات تعبيرية شعرية تنفتح على فضاءات المتخيل الجمالي المشتهى في أفق التلقي..
لقد شغل المخرج فضاء العرض بتكوينات مشهدية باذخة القيمة الدلالية والجمالية عبر مفردات سينوغرافية شكلت أبجدية التعبير وبلاغة القول عبر فضاء تميز بمرونته واستجابته وتطويعه وتمثله لمجمل منعطفات الأحداث وهواجس وأحلام وأمنيات ومخاوف وأفراح وانكسارات وتحديات عديدة واجهها تشابلن وتعايش معها، وشكلت منعطفات حاسمة في مسيرة حياته الشخصية والفنية منذ طفولته حتى رحيله، فجاء الفضاء حاملاً ومعبراً عن مجمل تلك الأنماط المتحولة والمتبدلة والمتطورة في البناء والسلوك والصعود إلى المواقع الأكثر نفوذاً وتأثيراً في بنية المجتمع، والانتصار للمباديء والقيم الإنسانية العليا..
فالعرض لم يكن يهدف فقط إلى سرد وإعادة تقديم سيرة حياة أحد أهم آباء السينما في العالم، وهو تشارلي شابلن، وإنما يستهدف أيضاً محاكاة وتمثل جوهر تلك الممكنات التي جعلت شابلن مؤهلاً لأن يكون واحداً من الشخصيات التي غيرت مسارات الحياة الإنسانية والمفاهيم السلوكية، عبر مجل هذه السيرة على المستوى الشخصي والمستوى الفني وما حققه من أثر واضح في مجل حركة التطور الكبير في فن السينما على المستوى التقني، وعلى مستوى الخطاب الإنساني التنويري الذي تبناه وضحى من أجله ودفع ضريبة الدفاع عنه، وهو يسعى لبناء ذاته وبناء المجتمع على أسس ومفهومات قيمية..
ولا يمكن أن نغفل دور المجاميع الراقصة التي استكملت الشوط الجمالي للرؤية الإخراجية، وفتحت أبواب ونوافذ العرض أمام متعة التلقي والتحليق في فضاءات الدهشة، حيث أمسكت بالمتلقي طوال العرض، على الرغم من طوله الزمني قليلا، فقد أنجزت المجاميع مهمتها بمهارة ودقة وضبط وإتقان، يعزز ذلك الرصيد وجود كادر فني وتقني متقدم، مثل السينوغراف حازم شبل، ومصمم الاستعراضات عمرو باتريك، وأكسسوارات محمد سعد، فضلاً عن موسيقى وألحان إيهاب عبد الواحد وتوزيع نادر حمدي التي عززت من روحية الفعل الوجداني والحس الجمالي والشعور بالألفة، لتصب جهود هذه الذوات المبدعة بمجملها في تقديم وبناء شخصية شارلي شابلن للمتلقي، والتي جسدها محمد فهيم، وجسد دور محقق مكتب التحقيقات الفيدرالية أيمن الشيوي، وداليا الجندي وعماد إسماعيل، يضاف لهم أكثر من خمسين ممثلاً وراقصاً استطاعوا أن يخلقوا ذلك النسق الهارموني في مشهدية عرض تشارلي الذي أنتجته سي سينما..