رغم أفيون اليقينيّات المخدِرة، القاتلة.. «الميت مات» لن يموت!!

رغم أفيون اليقينيّات المخدِرة، القاتلة.. «الميت مات» لن يموت!!

العدد 733 صدر بتاريخ 13سبتمبر2021

محطة القطار وبالضبط رصيف المحطة كان فضاء العرض .
الفنيون، الممثلون أكملوا تهيئة الفضاء والجمهور كان ينتظر بدء عرض مسرحية (الميت مات)، فجأة ينتبه الجميع لصوت علي الزيدي وهو يقول بلهجته الجنوبية العذبة : أحبتي عذراً منكم قررنا نقل العرض إلى المتحف رجاءً توجهوا إلى هناك .....
وكنّا هناك ......
 مصطبتان منفصلتان تجلس على كل واحدة منهما شخصيتا، هو: (1) وهو(2) وكأنهما منحوتتان قادمتان قبل 1000عام، أرضيتهما فراغ بيضاء وخلفهما جداران منفصلان أبيضان، كالكفن بياض الأرضية والجدارين اللذين يفصل بينما شق من السواد يدخل خلاله موظف المتحف إلى الخشبة في محاولة لبث حالة التغريب في السياق البصري والفكري ومثل هذا الدخول يتكرر لمرات عديدة منها مشهد يحاول مولاي وغودو النهوض من على مصطبتهما لكنها يسقطان الأرض، هنا يدخل الموظف يشعرنا بان التمثالين لابد من إعادتهما إلى مكانهما مثل هذه المحاولة للتغريب منحت طاقة إيجابية للتواصل والمساجلة بين العرض ومتلقيه وفي العرض في سياقاته البصرية والمقروءة انشغل الزيدي مثل برتولد بريشت وهو يعمل في عروضه المسرحية على (تحرير المتفرج من الوهم لإثارة حاسة النقد لديه، لم يلغ الاندماج في المسرح بقدر ما وظّفه واستعمله في الحدود اللازمة حتى لا تؤدي المغالاة فيه إلى استلاب كامل للمتفرج «كتاب المسرح الملحمي لدكتور سعيد الناجي / الهيئة العربية للمسرح)، وهذه المحاولة الإخراجية الذكية نفذ البعد الأساسي منها الموظف(تحسين داحس) بتقنيّة أدائية صامتة ولكنها معبّرة ومؤثرة وهذا الأمر الاغترابي تجسّد أيضاً في بث منسق المؤثرات والموسيقية (ناظم حسين) للأغنية الشجية العراقية (ألهجر مو عاده غريبة) والذي أسهمت بامتياز إبداعي في التشكيل السينوغرافي.
وحينما أدخلنا الزيدي إلى المتحف كان يدرك أن صمت المكان والأجساد ستفوح منهما رياح التاريخ الصاخبة والناطقة بحكايات فيها الكثير من الفنتازيا وطقوس الأساطير والوقائع تلك الرياح التاريخية -انطلقت عبر ماطور ضخ الهواء حملها موظف المتحف وهو يهزّ سكونية المشهد البصري، رياح، هواء الماطور يحرّك، يٌبعثر خصلات  شعر الجثتين، التمثالين الجالسين على المصطبتين، لا أدري لماذا تخلّيت أنهما جالسان فوق كرسيين كمجسمين على الجدارين البيضاويين المنفصلين في وسط الخشبة .   
هنا بادر إلى ذهني تساؤل: لماذا فضل الزيدي أو ربما السيناغرافيت علي السوداني المتحف ولم يختارا المقبرة كفضاء للعرض!!؟؟
سأترك الإجابة الواسعة على هذا التساؤل الآن وربما أجدها في سياق كتابتي هذه مع أني أعرف جل نصوص الكاتب علي الزيدي مزدحمة برائحة وفعل ومظاهر ونتائج الموت الذي حضر كنقيض أو توأم للحياة واستحضر الموتى وأماكنهم وهواجسهم وصراعاتهم وأحلامهم وانشغالاتهم منذ الأساطير السومرية والبابلبة والأكدية والإغريقية والفرعونية والحكايات الشفاهية والنصوص الكتابية وإلى أدب وفن عصرنا الحالي .
ولأنها كتبت بعد حروب مجانية وجنونية فإن نصوص الزيدي المسرحية ولنقل في أغلبها يزدحم بحضور قاسي ومرير للموت الذي لا يجعل الكاتب منه-الموت- أطلال بكاء وإنما بالعكس يدعو شخصيات تلك النصوص ومحيطها ويدعونا نحن المتلقين إلى التفكير وطرح التساؤلات الكبرى لان الموت كفعل وحشي ومفهوم وجودي (لم يعد هو النهاية التراجيدية المأساوية لحياة الشخصية، وإنما هو عتبة وتوطئة للدخول إلى عوالم أخرى تنفتح على خطاب سري ومضمر يتفجر، ينزاح عندما تنعتق الروح الدرامية من غلافها (الجسد) ويصبح ما هو مسكوت عنه ومقصي في الحياة متحولاً وحاضراً بشكل تداع حر وصيرورة جدلية واعية تحاكم وتقضي وتصدر أحكام فيما بعد الموت ) مثلما تقول الباحثة زينب آياد محمد، ومثلما فعل الزيدي في بثه المكتوب والمرئي  ....     
فالموتى عند الزيدي يشكلون أبطال نصوصه المسرحية، يظهرون، يختفون، يلتقون، يختلفون مع الأخرين لا كضحايا للحروب والقهر والطغاة وإنما كأنهم أحياء يرزقون يعلنون هواجسهم وخوفهم وأحلامهم وعثراتهم وخيباتهم وأحقادهم وأوهامهم ويقينيّاتهم  ويتحدثون بلغة ساخرة سوداء عن ما مضى وينتظرون ما سيأتي.....  
والانتظار كان وحش الموقف في عرض (الميت مات) وحتى يجسد بصرياً وفكرياً وظهر  تسيّد الانتظار الوحشي مع تواصل شخصيتي هو»1 مولاي” وهو” غودو2” في طرح التساؤلات المريرة حول تأخر (المنقذ) الذي طال انتظاره بشكل موجع ومريب حتى يجعل (مولاي-محسن خزعل) يتساءل بتلميح جسدي يفصح عن الإحساس بالمرارة وبدء الرفض لصناع ترياق الانتظار: أية سلطة بشعة هذه التي صنعت الانتظار.....
وتتنامى حالات الرفض للانتظار تارة بالبوح وإظهار اليأس كما دّل على ذلك طريقة الأداء الميكانيكي البطئ والسلس نشهده مع شخصية (غودو) وهو يدخن !! وأخرى بالسخرية السوداء ونلمس أيضاً اندفاع (مولاي وغودو) إلى مدى أخر يشخصه الممثلان بتعبيرات جسدية وصوتية ترسم حالة الإصرار على فضح بنية اليقينيّات الظلامية والمتمثلة في أفيون (حقنة لانتظار المُخلِص) المخدِّرة والقاتلة وأهداف من ينفثه كسموم ويسوقه تغطية لوجوههم القبيحة: خلقتكَ السلطةُ مثلما خلقتني كما يبدو.. من أجل أن نتحوّلَ إلى حقنةٍ مخدرةٍ لن ينتهي مفعولها، من أجلِ أن يموتَ الصوت ويعيش الصمت في البيوتِ والشوارع.    
 وبلعبة دراماتورجية وسينوغرافية ذكية ورافضة وخالقة لطقوس صوفية متنورة وبل متجاوزة لسائدية المشهد المسرحي المكتوب والمرئي ولمفاهيم الكهوف (الفكرية) والاجتماعية وبعض من ثالوثها (المقدس)  في العراق والوطن العربي 
 استدرجنا الزيدي وعلي السوداني إلى فضاء المتحف، إلى مساحة محدودة جغرافياً حيث التشكيلات البصرية المكثفة والمحصورة في بقعة لا تتجاوز 3 أمتار مربع، حيث الأداء الجسدي والصوتي المتقن والمقنن والحرّ في تنويعاته الإيقاعية  ويسبقنا انتظار موحش- مٌعطل وعيه- للمنقذ، حيث واجهنا صمت المنحوتات ورهبة انتظارها السرمدي، والمنظور منها تمثالين، جثتين، شخصين بياض ملابسهما، ملمح وجهيهما ملبد بطين القبر أو غبار الانتظار.  
ومع بدء العرض تظهر شخصيتا مولاي(محسن خزعل) وغودو (مخلد جاسم) يتبادلان التساؤل والديالوج والحركة ببطء ثقيل تظلله الأضواء الخافتة، بإحساس مخنوق لكنه مضاء بجمال التصوف وتعاشره موسيقى-مؤثرات صوتية كأنها جنائزية لناظم حسين، وهذا التمهيد السينوغرافي الدراماتورجي دفع المتلقي إلى فضاء العرض، حيث يتلمس لقطة بعد لقطة، نظرة بعد نظرة، تورية بعد تورية، مشهدية بعد مشهدية، وحشة ووحشية انتظار ألف عام ولكن شعرت ولنقل شاهدت (مشاهدتي إفتراضية) بعض سكان المتحف الأزليين من الألهة، أنليل،عشتار، كلكامش، آشور بانيبال، وحمورابي ونبوخنصر وقفوا، نهضوا من سباتهم وفيما الحشد خلفهم من السومريين والاشوريين والبابلين والأكديين المقطوعي الأرجل حضروا العرض، جالسين على الكراسي المكسورة  ويصرخون بصوت واحد مع الزيدي، محسن خزعل، مخلد جاسم : أن انتظارنا للمنقذ امتد لـــــ7000 آلاف عام قبل الميلاد، كفاكم الانتظار الملفق لأن: 
المهزلةُ.. أن تأتي وقد ذبُلَ الياسمين في أرواحِنا، المهزلةُ.. أن ينقضي العمر وعيوننا على دربِك وليس هناك حتى ظلِّكَ، المهزلةُ.. يرونك سيفاً طويلاً وأنت لست سوى فراشة، المهزلةُ.. أن تموتَ وأنت تنتظرُ الحياة لتعيشها...!
 الفوضى.. أن تجدَ نفسك مُنتظَراً ومنتظِراً في اللحظةِ نفسِها، الفوضى.. أن تتعبَ وتشقى وتتألمَ من أجلِ أن تعيشَ وتموت وأنتَ لم تعش، الفوضى.. أن تُولدَ في وسطِ الخرابِ وتعتقدهُ الحياةُ التي جئتَ إليها دون موافقةٍ خطيةٍ منك...!
في هذه المشهدية (الافتراضية) شكّلتها في مخليتي من مؤثرات وإيحاءات كانت طقوس  العرض، فضاء خشبة  بني من محدودية الوسائل، البارتشنات، الأكسسوارات، الملابس، الإضاءة طقوساً بصرية بسياقاتها المتنوعة الهادئة في ظاهرها لكن باطنها ثائرة في إيقاعاتها الصانعة للمتعة والرؤية وهي تمتزج مع البٌعد الكتابي وتورياته الصاخبة الخلّاقة ومع أداء الساحرين محسن خزعل ومخلد جاسم وهما يُشخِصان (مولاي) و(غودو) عبر أسلوب تمثيلي متقن في الصوت ومعبّر في الجسد رغم محدودية جغرافيته السينوغرافيا والتي لم تُعطِل تجلي طقوس الفرجة وخاصة في مشهد يرسل الممثلان (محسن ومخلد) وجع (المهزلة) وهزيمة انتظارهما لــ(المنقذ) بأداء كوميدي سوداء ساحر في الجسد والصوت، فرجة مسرحية عراقية الهوية ومنتمية لوقائع عاشها العراقيون بإرهاصاتها اليومية لنتوقف عند لقطة فرجوية مكثفة في الشكل والكلمة لكنها عميقة الدلالة والوجع، لقطة تنطق بحسرات الأمهات والآباء وبونين عيون الأطفال منذ سنوات الحصار وإلى جمرات طغاة اليوم :
هو1: والخبز؟
هو2: يابس جداً.
هو1:نقعه بالماء
هو2: ستظل روحه يابسة
بهذه اللغة الساخرة والموجعة يُجسد الزيدي كمؤلف ودراماتورجي والممثلان الساحران (مخلد ومحسن) رويتهم الصدامية مع صنّاع القهر والحروب والذل لذلك نلمس كل نطق له دلالة وكل حركة لها إشارة، رسائل بصرية كتابية أرسلها العرض لها كوشائج وتفاعل مع واقع المشاهد المعاش المرير ومنها تنطلق التساؤلات الجارحة والجريحة الكاشفة للمستور والفاضحة للمعلن والعرض الباذخ في كثافة لغته الديالوجية والبصرية تخلق دهشة وصدمة عند المتلقي وهذا المشهد بين غودو ومولاي يخرج من بئر البوح إلى افق العاصفة سينوغرافياً ودراماتورجياً وأداءً تمثيلياً  :  
 هو2: أيّةُ سلطةٍ بشعةٍ هذه التي صنعت الانتظار؟
هو1: سلطات............ صنعتنا يداً على خدٍ ينتظر.
هو2: استعباد...
هو1: أسكت...
هو2: خلقتكَ السلطةُ مثلما خلقتني كما يبدو.. من أجل أن نتحوّلَ إلى حقنةٍ مخدرةٍ لن ينتهي مفعولها، من أجلِ أن يموتَ الصوت ويعيش الصمت في البيوتِ والشوارع.    
 لذلك فإن عرض (الميت مات) الذي انتهي بعد أكثر من أربعين دقيقة لم ينته تأثيره ولم يمت حضوره، إنه لن يغادر عقل المشاهد بعد مغادرته الصالة، ستتواصل أفاقه الجمالية وتتوسع جغرافيته الرؤيوية وتنهمر أينما يحلُّ المشاهد، في الشارع، في العمل، بين أصدقائه، في البيت في يقظته ومنامه لأن ما يزال وحش الانتظار يربك وعيه ويُعطله ويُسممَه، لكن أن يرافقه مثل هذا العرض فيعني ذلك أمران، الأول أن المسرح يصبح مبدعاً في تأثيره الجمالي والفكري حينما يكون فضاء صدمة واستفزاز وتساؤل ساخن لا خندق مهادنة و(إستقرار) وجواب جاهز، ثانياً استعداد وعي المتلقي لشهية الرفض لليقينيّات البليدة وللتابوات المنخورة والممنوعات السلطوية.   


فاروق صبري