قد تفرض بعض الأسماء حضورها على الساحة الثقافية بما تمتلكه من موهبة وإبداع، فتغدو جديرة بالحديث عنها وتوثيق منجزها. غير أنّ تراكم الانشغالات كثيرًا ما يحول بيننا وبين القيام بهذا الدور في حينه، ما يجعلنا نشعر بالتقصير تجاهها. ومن بين تلك الأسماء يبرز اسم الكاتب المسرحي الشاب محمود جمال الحديني، الذي يمضي بثبات في بلورة صوته المسرحي المتفرد، مُقدِّمًا تجربته التي تُعد إضافة واضحة للمسرح المعاصر. ومع هذا الحضور الدائم في المشهد المسرحي – بل وفي الساحة الفنية عمومًا – ظلت فكرة الكتابة عنه تراودني دومًا؛ ليس لكونه كاتبًا مسرحيًا مبدعًا أو مخرجًا صاحب رؤية فحسب، بل لأنه قبل كل شيء شخصية إنسانية ملهمة تركت تجربته الفنية أثرًا عميقًا في وجدان جيل كامل من الشباب.يُعدّ محمود جمال الحديني واحدًا من أبرز الأصوات المسرحية التي جمعت بين موهبة الكتابة وقدرة الإخراج، ما مكّنه من أن يصوغ لنفسه مكانة خاصة في المشهد المسرحي المصري الحالي. فهو من قلائل استطاعوا أن يتحركوا ببراعة ووعي بين فضاء النص وفضاء العرض، مؤمنًا بأن الكلمة لا تكتمل إلا حين تجد صداها على الخشبة أمام الجمهور. فهو يعي بالكلمة ودلالاتها المقصودة، ويشعر بالممثل وبحركته على الخشبة، ويشعر بالجمهور واحتياجاته، وقد أفادته تجربة الإخراج في تطوير تكنيك الكتابة، فغدت نصوصه أكثر حيوية بل وبصرية أيضًا باعتباره يكتبها بوعي المخرج. جمع بين الموهبة والوعي الجمالي في الوقت الذي اتسم فيه بالتواضع ودماثة الخلق، ما أكسبه احترام ومحبة كل من تعامل معه. ولم يكن تأثيره مقصورًا على أعماله المسرحية كتابةً وإخراجًا، بل امتد - بروح المغامرة - إلى الدراما التلفزيونية، حيث خاض تجربة الكتابة والإخراج للمسلسلات بجرأة واضحة، مضيفًا بُعدًا جديدًا لمسيرته الإبداعية، وهي المغامرة أو التجربة التي استدعت كتابتنا لهذا المقال.خلال ربع قرن مع المسرح، صاغ «الحديني» تجربة فنية متكاملة بدأها من المسرح الجامعي مخرجًا قبل أن يرسخ حضوره ككاتب متميز. جاءت نصوصه مشغولة بالإنسان وأسئلته الكبرى في الهوية والحرية والعدالة، مستلهمة الواقع الاجتماعي والهمّ الإنساني، ساعية إلى تحقيق توازن بين الواقعية والرمزية، وبين البنية الكلاسيكية والتجريب الحديث. أما في إخراجه، فقد اتسمت عروضه بالبساطة البصرية والتكثيف الدرامي، مع وعيٍ خاص بالإيقاع وحركة الممثل وعلاقة المتلقي بالعرض، مؤكدًا أن المسرح عنده فعل تواصل حيّ يتجاوز الترف الجمالي إلى الوعي والتأمل والتغيير.على الرغم من أن هذا المقال لا يهدف إلى تقديم دراسة شاملة عن ‹محمود جمال الحديني› – وهو ما أعمل عليه ضمن بحثٍ متخصص على نصوصه – إلا أن أي تناولٍ عنه يظل ناقصًا إن لم يستند إلى مسيرته المسرحية الغنية، التي تشكل حجر الزاوية في تجربته الإبداعية. لذا وجبت الإشارة إلى بعض ما أسهم به في إثراء الحركة المسرحية نصًا وإخراجًا، عبر أعمال بارزة مثل «سينما 30»، «إنهم يعزفون»، «مدينة الثلج»، «يوم أن قتلوا الغناء»، «شارع 19»، و«يمين في أول شمال»، إلى جانب تتويجه بعدد من الجوائز، منها جائزة الدولة التشجيعية في التأليف المسرحي (2013)، وجوائز المهرجان القومي للمسرح المصري عن أعماله «1980 وأنت طالع»، «الغريب»، «سجن اختياري»، و«سينما 30»، و»يمين في أول شمال» الذي حصل عنه على جائزة المهرجان في دورة هذا العام، وهذا كله وغيره؛ فضلًا عن جائزة ساويرس الثقافية، ليرسّخ بذلك مكانته كأحد أبرز كتّاب ومخرجي جيله ممن جمعوا بين الوعي الجمالي والرؤية الفكرية في مشروعٍ مسرحي متكامل.ويأتي تخصيصي لهذا المقال للكاتب والمخرج محمود جمال الحديني انطلاقًا من كونه شخصيةً ملهمة تُحتذى، إذ برز إلهامه هذا بوضوح منذ عام 2013 مع مسرحيته «1980 وأنت طالع»، تلك التجربة اللافتة التي حققت نجاحًا كبيرًا بفضل فريقٍ من شباب المسرح الهواة الذين قدّموا عملًا يجمع بين الجرأة والصدق الفني، وهي التي مهدت لخوض المغامرة الأجرأ في الدراما التلفزيونية عام 2017 من خلال مسلسل «سجن اختياري» - المأخوذ عن نص له بنفس الاسم - عملٍ رأيت من المهم تسليط الضوء عليه لما ينطوي عليه من إلهامٍ فكري وجمالي، وما يعكسه من وعيٍ مبكر بقيمة العمل الجماعي وروح المبادرة لدى جيلٍ جديد من المبدعين.جاء المسلسل امتدادًا طبيعيًا لروح التجريب التي انطلقت من خشبة المسرح، لتُشكِّل تجربة شبابية رائدة فتحت مسارًا جديدًا في الإنتاج والعرض، حين قرر فريق العمل إنتاج المسلسل وبثّه حصريًا عبر منصة رقمية في خطوة جريئة لتجاوز قيود السوق التقليدية. اعتمد المشروع على فلسفة مبتكرة تقوم على الاستغناء عن القنوات التلفزيونية وطرق التسويق المعتادة، والاعتماد على الرصيد الجماهيري المتراكم من نجاح «1980 وأنت طالع» في الترويج لمسلسلهم، فغدت جرأة التجربة ذاتها عنصر جذبٍ جماهيري وإعلامي، ومقدمة لنموذجٍ إنتاجي جديد يستند إلى الإيمان بقدرات الشباب واستقلالية التجربة الإبداعية. نجح الحديني والفرقة في إنتاج عملٍ تلفزيوني مكوّن من تسع حلقات، مستفيدين من حرية تحديد الطول المناسب للمسلسل دون التقيد بالنمط التقليدي، مما حفظ للعمل تماسكه الدرامي والإيقاعي. وقد قدّموا العمل بإمكانات محدودة ومعدات بسيطة ليُعرَض في مايو 2018، محققين سَبقين مهمين: كأول مسلسل مصري يُنتج خصيصًا للبث الرقمي المباشر، وأول عمل شبابي خالص ينافس في الموسم الرمضاني. لم يكن الهدف تقديم محتوى درامي فحسب، بل بناء قاعدة جماهيرية وترسيخ حضور فني للفريق، وهو ما تحقق بالفعل بتحقيق معدلات مشاهدة مرتفعة ولفت الأنظار إلى عناصر العمل، إذ برز اسم محمود جمال الحديني كأحد أبرز كتّاب المسرح الشباب، وحقق ممثلو الفريق حضورًا لافتًا مثل حاتم صلاح ووليد عبد الغني ومحمد الدمراوي وغيرهم ممن واصلوا مسيرتهم بثبات.إن تجربة «سجن اختياري» – التي مرّ على إنتاجها سبع سنوات – تمثّل نموذجًا مبكرًا لما نشهده اليوم من موجة الإنتاجات المستقلة وازدهار المنصات الرقمية. أُنتج المسلسل في وقتٍ لم تكن فيه تلك الظواهر قد ترسّخت بعد، فخرج إلى النور بإمكانات محدودة تم تدبيرها من أعضاء الفرقة أنفسهم، فصنع لنفسه خصوصيةً فنية واضحة لا تشبه غيرها. لقد منحت الاستقلالية صنّاع العمل حرية كاملة في اتخاذ قراراتهم بعيدًا عن حسابات السوق، ليغدو نموذجًا لدراما تنبع من الرؤية لا من التمويل. ومع مرور السنوات، أثبتت التجربة أن قيمة العمل لا تُقاس بعدد المشاهدات، بل بما يتركه من أثر فكري وجمالي في الوعي الفني.تُعد التجربة مثالًا بالغ الدلالة على تزاوج الفكرة الفنية مع مغامرة الإنتاج المستقل، إذ لا يمكن فصل جرأة خوضها عن وعي أصحابها بأهميتها. فقد جاءت ثمرة إيمان جماعي لشبابٍ قرّروا كسر احتكار السوق وصناعة فضاء حرّ يعبّر عن رؤيتهم دون وصاية أو تمويل مؤسسي، فحوّلوا ضيق الإمكانات إلى طاقة خلاقة. لم تكن المغامرة مجرد رهان مادي، بل كانت موقفًا فكريًا وجماليًا من العالم، عبّرت عن جيلٍ يرفض أن يكون تابعًا أو أسيرًا للأنماط السائدة. وفي الوقت الذي اختار فيه كثيرون الأمان ضمن منظومة الإنتاج التقليدي، اختار صنّاع «سجن اختياري» أن يخوضوا مغامرتهم الخاصة عبر الفضاء الرقمي، مؤسسين بذلك لوعيٍ جديد بالإنتاج والإبداع معًا.وختامًا؛ أوضح أن استعادة تجربة «سجن اختياري» اليوم – بعد مرور أكثر من سبع سنوات – لم يكن للحديث عن المسلسل كعملٍ درامي بقدر ما تهدف إلى إبراز تجربة الإنتاج ذاتها، التي لا ينبغي أن تُعدّ مجرد تجربة عابرة، لأنها تمثل لحظة وعي نادرة جمعت بين الحلم والإصرار والرؤية. فقد أسّس محمود جمال الحديني، بعقليته المستنيرة وإيمانه بجيله وبموهبة وقدرات فريق العمل، لمفهومٍ جديد في الإنتاج والتفكير الفني، جعل من التجربة درسًا في كيف يمكن للفكرة أن تنتصر على الظروف وضيق الإمكانات. إنها بحق تجربةٌ ملهمة بكل المقاييس، تُبرز أن المبادرة والصدق الفني قادران على فتح طريقٍ مختلف يواجه المألوف، وأن ما بدأ كمغامرةٍ شبابية تبدو منغلقة أصبح اليوم ومضةً مضيئة تبث إشعاعًا إيجابيًا لشباب المبدعين في مسار الدراما المستقلة بروحها المتجددة.