«ما وراء الخشبة» القضية الفلسطينية فى تجربة مسرحية

«ما وراء الخشبة» القضية الفلسطينية فى تجربة مسرحية

العدد 945 صدر بتاريخ 6أكتوبر2025

يجمع هذا الكتاب (ما وراء الخشبة - دراسة سيميولوجية لأعمال غنام غنام المسرحية) بين الباحثة أستاذة الفنون التمثيلية «زينب لوت» من الجزائر الشقيقة، والتى نشر لها عشرات المؤلفات والدراسات النقدية والأدبية وبين الناقد محمود سعيد، وهو باحث مصرى معروف له عشرات الأبحاث والمقالات والدراسات المسرحية، وبهذه الخلفية المرموقة ينجتمع الباحثان على رصد وتحليل مسرح غنام غنام بتجاربه المتعددة والمتنوعة فى التأليف والإخراج وكذلك فى التمثيل، وفى الكتاب يعرف غنام نفسه بسيرة ذاتية يعبر بها عن آلالام العيش فى متاهة الاستغراب بقوله: “أولد أنا عام 1955 أردنيًا، يعنى صار لزامًا على فى المدرسة أن أرى فلسطين من وجهة نظرى كشقيق عربى كما فى مناهج المدرسة وعندما أعود للبيت أرى فلسطين فى جرح ناله أبى فى ظهره، والبلاد فى ثوب أمى، وحكايات عن استشهاد خالى عرندس فى معركة ضد الانتداب البريطانى عام 1936م، صار إثبات فلسطينيتى الوحيد هو بطاقة تموين وكالة الغوث الدولية» وهكذا يكون الكتاب رصد وتدوين لتجربة إنسانية فريدة أكسبها نجاح «غنام» فى مجال توظيف الفنون المسرحية فى الدفاع عن أهم قضية عربية وعالمية وضعًا خاصًا يستحق التأمل والبحث والنقد.
 وهكذا جمع هذا الإصدار بين كوكبة من المسرحيين من مصر والجزائر والأردن وفلسطين وقد مهدا لكتابهم بمقـــدمة قصيرة تتحدث عن أهمية غنام غنام كشخصية مسرحية عربية متعددة المواهب فلسطينية أخلص لفنه وقضيته حتى استحق أن يصدر عنه هذا الإصدار وتكتب عن تجربته عشرات المقالات.
 اتجه الناقدان إلى تحليل مؤلفات غنام غنام المسرحية تحليل سيمولوجى بدأ بالخطاب ومر بالعلامات وغيرها من مسارات القراءة التى انطلقت من النصوص كعنصر مسرحى مهم وسابق لجميع العناصر، ومن مسرحيات غنام التى رصدتها الدراسة مسرحية “طلقة واحدة.. تكفي”، ومسرحية “صفيرٌ فى الرأس.. صلاةٌ للقدس”، وأيضًا مسرحية “منامات الوهرانى” التى يسقط فيها غنام عن ألم الوحدة فى البعد عن الوطن وافتقاد الهوية الذى جعل عالمه مليئًا بالإيحاءات والرموز الصاخبة والمؤثرة، وعرض الكتاب أيضا لمسرحية “ليلك ضحى” وثنائية الأحاسيس التى تأثر بها فى مونودراما “سأموت بالمنفى” و”عائد إلى حيفا” المقتبسة عن رواية الشهيد غسان كنفانى وعرضا كيف جرد غنام قضيته واستعرض همومه وشاركها مع جمهور يجمع بينه وبينهم هم عربى واحد.
أظهرت الدراسة أن غنام غنام صاحب تجربة هامة وحقيقية فى المسرح العربى المعاصر وأنه متابع جيد لما يجرى حوله لذا استطاع عصرنة أعماله ورفدها بمكونات متجددة، وآية ذلك ما جاء بافتتاحية مونودراما «سأموت فى المنفي» مثل قوله: (الله يمسيكم بالخير ويمسى الخير فيكم.. لأنه الإنسان بحلى بالأيام والأيام بتحلى بالإنسان، وأحلى الناس هم البنى آدميين.. وأحلى البنى آدميين هم الناس.. ومساء الخير على البنى آدميين)، وهى مقدمة لا تدرى إن كان يواسى بها الناس أم يعاتبهم لغياب الإنسانية فيهم لأنه يقول فيما بعد ما معناه أننا لسنا مطالبون بأن نمسك مسدسا ونحارب وإنما علينا المشاركة والإسهام ولو بواسطة (الموبايل) ويتداول هاتفًا محمولًا كأنه مسدس فى إشارة لما تحتاجة القضية الفلسطينية من دعم تقنى متمثل فى فضح جرائم العدوان على وسائل التواصل تلك التى أظن أن لها دورًا كبيرًا لما يجرى من تطورات فى القضية جعلت داعميها من الغرب أشد لا يقل أهمية عن الدعم العربى.
وفى مسرحية (أنا لحبيبى) يقول غنام: «مشيت حافيًا على الأرصفة.. أعبر من رصيف إلى آخر، وقفت أمام محل الألعاب، رأيت طاولة صغيرة، تشبه طاولتك، أعنى طاولتنا هذه اشتريتها لك، لتصبح لك طاولتك الخاصة صغيرة لا يمكنك الاختباء تحتها، يمكنك أن تجلس فوقها هكذا، هنا أو هناك».
الحوار هنا كما يبدو أنه يحيل إلى ما وراء اللغة من عدم وجود الآخر، لبيان مدى البؤس والقهر الواضح فى سرد الماضى والرغبة فى الهروب منه فى حالة درامية تشبه المرض النفسى حالة من الجنون تعكسها الهلاوس السمعية والبصرية المرضية والظواهر غير الطبيعية يقول: «ولطالما رأينا الجنون يدفع المرء إلى الانفراد بذاته والحديث إلى نفسه لا إلى الأخرين، وإذا لم يتحدث المجنون إلى نفسه خلق شخصا فى خياله حتى يحادثه ويجاذبه تأملاته» على مستوى هذه الشخصية الدرامية يكون الأخر المتخيل هو ذات النفس المتخيلة، ولم يلجأ غنام غنام إلى هذه التقنية اللغوية إلا فى لحظات درامية تمثل صراع أو انفجار نفسى للشخصية لكى تعبر أزمتها مع عالمها.
فى مسرحية «ليلك ضحى» يعالج غنام قصة حب تنتهى بالزواج بعد مواجهة عراقيل المدينة التى تعيش فيها البطلة والقرية (تل القمح) التى يسكنها المتطرفين، ليعيش (ليلك) و(ضحى) حياة بائسة وسط إرهاب يحاول اقتلاع سعادتهما لأنهما يمتهنان الفن، لكن حب الحياة يجعلهما أداة تغيير اجتماعى لكن سلطة القهر وتغييب الضمير واستخدام الدين وسيلة هدم حضارى جعل الواقع منبرا للأمراض الّتى تنتقل بين فجاج العقول البسيطة الساذجة وعن المسرحية أشارت الدراسة إلى جودة الحوار متقنة الصنع مثل:
ضحى: لا أمان.
ليلك: لا أمان لباب مغلق أو باب مفتوح هذه الأيام.
صوت الشيخ: ستندم إن لم تفتح يا أستاذ.
ضحى: لن أفتح.
ليلك: انتصر على ظنه بأنك خائف.. واجهه.
وفى هذه المسرحية يؤطر غنام غنام للصمت كشخصية درامية مشاركة بعدما خلق له دورًا أعنف من الكلام ذاته، إذ إن الصمت هنا لا ينبئ عن عدم معرفة وإنما اختاره كأنسب أداة عن اللحظة الشعورية التى تجمع بين الحيرة، وعدم القدرة على التصرف حينما يتلقي الإنسان صدمة كبيرة ولا يقدر على الكلام.
وأخيرًا يمكننا القول إن كتاب «ما وراء الخشبة» يمثل دراسة جادة وإصدار جيد يستحق الاحتفال والاهتمام لتجربة مسرحية فنية إنسانية تستحق التقدير. 


محمود كحيلة