«سالب واحد» .. والتطهير على الطريقة الكلاسيكية

«سالب واحد» ..  والتطهير على الطريقة الكلاسيكية

العدد 745 صدر بتاريخ 6ديسمبر2021

في المسرح الكلاسيكي، وحسب تعريفات أرسطو، كانت التراجيديا تعتمد على أن تصل بالمتفرجين إلى مبدأ التطهير، وهو يتحقق عندما يشعر المتفرج بالشفقة على البطل الذي يكابد العناء ويلاقي مصيرا مأساويا، ويليه شعور الخوف على نفسه من أن يحدث له ما حدث للبطل من مأساة، إثر هذا يحدث التطهير المعني بطرد المشاعر السلبية والنزعات الخاصة بأخطاء فردية كي يتراجع الإنسان ويُعدل من نفسه، فهل بعد وصلات من البكاء وضحك يخففه أثناء عرض «سالب واحد» نصل إلى التطهير أم إلى الاستمتاع الخالص؟ ولكي نصل إلى إجابة للسؤال علينا بتحليل عرض «سالب واحد» الذي تم تقديمه على خشبة مسرح الهناجر، من إخراج عبدالله صابر، وتأليف محمد عادل، وهو من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد حصد جوائز في عدة مهرجانات.
يبدأ العرض بشخصية الكاتبة التي حدثت الجمهور بصورة مباشرة أنها ستحكي لنا قصة، وهذه القصة كانت دراما العرض الذي تابعناه، وقبل الخوض في دراما العرض يجب الإشادة بالأزياء التي عبّرت عن الحالة، فكانت الكاتبة ترتدي فستانا بلون سماوي دلالة اللون على خيالها، في حين حكيها لقصة شديدة الواقعية، يقابلها بطلان (الأب والأم) على مدار العرض يرتديان الأسود وهو اللون الدال على الحداد، وكأن الابن الذي كرمهم الله به لمجرد أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهو بالنسبة لهم ميت!
ولكن ميّز ملابسهم أن كان عليها رسم القفص الصدري وجوهرة حمراء تشير إلى القلب، فالعرض لم يخاطب أسلوب تفكير الآباء، وإنما أراد أن يكون صوت مشاعرهم، وعلى الرغم من أن تتبع دلالة الملابس وحده يوضح دراما العرض، فإن التسلسل بدأ بمشهد صامت يعبّر عن حب رجل وامرأة من خلال رقصة بسيطة وفرحة لدى الحمل، وهذه المشاهد تمت في مستوى أعلى على خشبة المسرح، كما لو كانت أحلاما سعيدة غير واقعية، وما بعد الولادة هو الواقع؛ حيث الاصطدام بأن المولود لديه إعاقة ذهنية وجسدية؛ أي من ذوي الهمم، وعلى الرغم من أن الطب تتطور، ويمكن معرفة هذه المعلومة من قبل الولادة في حالات كثيرة ولكن سنعزو هذه الهفوة إلى أن العرض لم يكن له زمن محدد، بجانب أنه ليست كل الحالات تتم معرفتها بالسونار.
تبدأ حبكة وأزمة العرض الحقيقية ليس فقط بعد الولادة، وإنما بعد أن ينطق الابن ويقول عبارة (هنروح فين يا بابا؟) وهذا تطور في حالته وجلب فرحة لأبوين مكلومين، ولكنها فرحة مؤقته طارت عندما لم ينطق الابن أي شيء غير هذه الجملة كان يرد على كل شيء بنفس الجملة (هنروح فين يا بابا؟) لدرجة أوصلتني بفكرة وسؤال: لماذا لم يكن العرض اسمه «هنروح فين يا بابا»؟ بدلا من «سالب واحد»، ولكن شتان بين سؤال وقعه على الأذن قبل مشاهدة العرض سيكون كوميديا، في حين عبّرت «سالب واحد» عن أزمة العرض التي ناقشت مأساة ذوي الهمم ومشاعر آبائهم الذين رُزقوا بهم، ولكن عبارة «سالب واحد» التي تعبّر عن (بناقص واحد) أي وكأن اللبن لم يأتِ، أو كأنه أتى ومات، وهي حالة الحداد التي ذكرتها سابقا، ولكن المُدرس الذي جلبه الأب كي يحل أزمة أن الابن لا ينطق غير جملة واحدة، هو من أعطى مدلولا آخر لعبارة «سالب واحد»، وهو أنه واحد أو فرد سالب في المجتمع لا يمكن الاعتداد به، صحيح أن شخصية المُدرس قالت معلومة رياضية خاطئة، بأن السالب واحد إذا أضاف عليه أي رقم سيعطي صفرا، ولكن الحقيقة أنه فقط إذا أضاف عليه موجب واحد سيعطي الصفر، لذا يجب أن يُضاف إليه حسب الرياضيات موجب اثنين أو أكثر، أي إذا اعتبرنا أن النظرة الرياضية يصح تطبيقها واعتبرنا أن الشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة هو فرد سالب، فكي يكون موجبا يلزمه اثنان موجبان فاعلان، وهما بالأحرى والدان يؤمنان بقدراته مهما كانت بسيطة في نظرهم أو نظر بقية الناس مشفقين أو متنمرين.
ومحاولات الأب السطحي لم تقف عند جلب مُدرس؛ بل أيضاَ طبيب ليس له علاقة بحالة الابن، ودجال طارد أرواح، إلى أن يصل بأن يذهب مع الأم لطبيب نفسي يشكوان له حالتهما، ويرد الطبيب بأن المعضلة تكمن لديهما وفي قصر سمعهما له، وعدم تقبلهما له ووصمه بكلمات مثل أنه لعنة أو ذنب اقترفاه ولم يكفرا عنه، لذا أصبح الابن حبيس جملة ومرحلة (هنروح فين يا بابا؟).
أما عن نقاط التحول في العرض والحل، فكان بتصميم الأب على أن يُلقي بالابن خارج المنزل؛ أي بناقص واحد، ولكن الأم بغريزتها ومشاعرها لم تستطع ترك الابن رغم تضارب مشاعرها وتخبطاتها الذاتية، ولدى تصميم الأب تموت.
 أي نقطة تحول تعطي أفكارا ودلالات أخرى، وهي أن الكاتبة نفسها في مشهد plot twist ولكن يوجد
النهاية تحولت أمامنا إلى الابن الذي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وبهذا الاستبدال لم ينسَ العرض أن يعبّر عن كل فرد ليس هو من ذوي الاحتياجات أو حتى قدرات خاصة، ولكن بنبذ الوالدين وأسلوبهما، يصبح الإنسان سالب واحد.
على الرغم من أن الكتابة والأداء التمثيلي يجعلان المتفرج في ذروة الإحساس والشعور والاستمتاع، فإن الموسيقى التي قام بتأليفها وتلحينها أحمد حسني، تأتي ليس كعامل مساعد يجعلنا نذرف دموعنا بسلاسة، وإنما بطل في عرض «سالب واحد» لا يمكن الاستغناء عنه، وهو اعتمد على آلتي التشيلو والبيانو فقط، وفي هذا التضافر عزف على أوتار قلوبنا.
أما عن الإضاءة والديكور اللذين صنعا صورة نتأملها بل لوحة معبرة، فهما كانا كالسهل الممتنع، فخشبة المسرح احتوت على مستوى علوي كان يُقدم عليه مشاهد خيالية، كما ذكرت سابقا، ومن ضمن هذه المشاهد أن تسمع الأم ابنها يقول ماما، وهنا تحديدا كان سبب العبارة «هنروح فين يا بابا» أن تكون بابا وليس ماما، لأن الشائع أن نسبة الرجال التي لا تحتمل هذا الابن المميز هم أكثر من النساء اللاتي حتى وإن شعرن بالرفض فغريزة الأمومة والحمل تسعة أشهر تجعلهن لا يفرطن بسهولة، ليس معناه أن الأب يفرط بسهولة وليس لديه مشاعر وإنما يستطيع أن يفعل ويبتعد أو ينفصل عن هذه الأسرة أو لا يساعد في حمله أو لمسه، فمساعدات الأب -الذي ظهر في العرض- بجلبه طبيبا أو دجالا يسبب معاناة هي مساعدات أنانية كي يسمع من الابن عبارات أخرى ولا يشعر بالملل.
وما ظهر من أثاث المنزل هو كنبة ومنضدة تحمل وردا بلاستيكيّا فقط، أما بقية الخشبة فاحتوت ديكورا مليئا بأسلاك النيون المضيئة المتشابكة، كالأفكار والمشاعر المتشابكة، وصناديق معلقة تحتوي على إضاءة بداخلها، كانت الصناديق تمثل القوالب الفكرية التي كان المجتمع ثابتا عليها، وأيضا احتوت خشبة المسرح لمبات كانت تضيء في مشاهد بعينها أو مع عبارات مفاجئة أو صادمة، وإذا كان في صوت وأداء الممثل رعشة كانت الإضاءة ترتعش، وهو تضافر لا يفصلك كمتفرج عن الانغماس في الشعور بما تشاهده.
أما عن الكوميديا الخفيفة التي كانت من شخصيات جلبها الأب، فهي كانت لتخفيف حدة المأساة، إلى جانب أنه لم تكن هناك صيغة يُقدم بها حلولا خيالية من الاب إلا بشخصيات خيالية كوميدية هزلية.
وبالوصول إلى هذه النقطة نصل لإجابة عن سؤال المقال، وهو هل كان العرض يقوم بالتطهير على طريقة المسرح الكلاسيكي أم هو عرض به استمتاع ورسالة أم استطاع العرض أن يجمع في طياته كلا الأمرين كما ستكتشف بنفسك إذا استطعت مشاهدته.   


سارة أشرف