سـتـوكـمــان.. التناقض بين الظاهر والباطن

سـتـوكـمــان.. التناقض بين الظاهر والباطن

العدد 830 صدر بتاريخ 24يوليو2023

هل ينتمي الشخص إلى مصلحته المادية والعملية, أم ينتمي إلى ذاته ومشاعره؟ أيهما أولى بالبقاء؟ تبدو تلك معادلة صعبة عند البعض, حينما تتشابك الأحداث في حياة الفرد وتختلط المعايير, قد تعلو الأنانية والإحساس بالذات بداخله مما يجعله يدهس المبادئ العليا والقيم والمثل التي يتشدق بها أمام الناس, بينه وبين نفسه دون أن يعلم أحد, فيحطم كل شيء طالما لا أحد يراه, وكأنه يمارس الرذائل في الظلام, ويدعي الفضيلة في الضياء.
على مسرح الغد التابع للبيت الفني للمسرح قدم عرض مسرحية “ستوكمان” من تأليف/ ميخائيل وجيه, ومن إخراج/ أسامة رؤوف. وهذا النص سبق وأن فاز بجائزة “ساويرس” للتأليف المسرحي عام 2019م.
تدور الأحداث من خلال «قاسم» ممثل مشهور ومحبوب وهو في ليلة العرض الأولى لعرض مسرحي مهم (عدو الشعب لإبسن) يقدم فيه شخصية مشهورة أثارت جدلا كبيرا وهي شخصية «د. ستوكمان» الذي كان متمسكا بالمبادئ والجرأة في قول الحقائق في مصلحة المجتمع, حيث اكتشف تلوثا في مياه البحيرات الاستشفائية بالبلدة, ورفض أصحاب المصالح هذا الرأي وهاجموه حتى أثاروا الجميع ضده فصار عدوا للشعب, وهنا يتضح تناصا مع مسرحية “عدو الشعب” لإبسن, وتمت الإشارة إليه ضمن حوار العرض على لسان الشخصيات. ويطمح هذا الممثل للحصول على جائزة كبرى في التمثيل لأداء هذا الدور. وفي نفس الوقت قرر “قاسم” أن يقوم في نفس يوم الافتتاح بعد نهاية العرض بإعلان اعترافه بابنته “هناء” التي أنجبها وأهملها منذ عشرين عاما. يتصادف أن تكون ابنته صحفية ترغب في إجراء حوار معه في تلك الليلة. وأثناء استعداده قبل بدء العرض وهو جالس في غرفته (موقع الحدث المسرحي) يندمج «قاسم» في  شخصية «د. ستوكمان» بدرجة كبيرة حتى يتجسد أمامه ويتحدث معه عن قضيته, وعندما يفيق يتلاشى «د. ستوكمان» من أمامه فيندهش ويسأل “عارف” أكبر عمال المسرح الذي يخبره بأنه يحدث منذ زمن أنه قد تتجسد بعض شخصيات المسرحيات للممثلين فيزيد ذلك من ذعر “قاسم”, لكنه ينفض ذلك عن فكره ليدخل على المسرح لأداء الدور, فيعود «د. ستوكمان» إلى الغرفة مرة أخرة فيتصادف مع وجوده دخول «هناء» الصحفية ابنة «قاسم» وتظن أنه هو وتتحدث معه عن مدى حبها له وإيمانها بأفكاره ومبادئه العظيمة, ثم تذهب لمشاهدة العرض, وأثناء استراحة العرض يعود “قاسم” لغرفته وتدخل عليه «هناء» مرة أخرى دون أن تدرك أن من قابلته أول مرة ليس هو «قاسم»,  ويتحدثان معا ويخبرها بالحقيقة وتحدث المواجهة, فترفض هي كل ما يقوله وتواجهه بأخطائه في حقها طوال عشرين عاما وبأنه ليس تلك الشخصية المثالية التي يصورها للناس, وبعد أن كانت تحبه كشخص نموذج مثالي يؤثر المصلحة العامة على نفسه ويتمسك بالمبادئ وبالحق, فصارت تكرهه لأنه أبيها الذي آثر حب نفسه على كل شيء وأهملها, فهو مخادع يمثل على الناس تلك الشخصية المثالية وتتهمه بأنه كاذب ويخدع الجمهور والمجتمع, وتكشف له زيف شخصية  ووضاعة نفسه, وتتركه وتذهب بلا عودة, فيجلس مصدوما حزينا, ثم نكتشف أنه يفيق من غفلة أصابته, ويكمل استعداده للدخول إلى المسرح لبدء العرض بعد مرور حوالي 25 دقيقة من البداية, وكأن كل ما حدث كان هباء في نومه وأضغاث أحلام وليس له أي وجود.
اتخذ النص المسرحي بداية تمهيدية لشرح أبعاد المشكلة التي سوف تواجه “قاسم” من خلال حواره مع مساعد الإخراج “باهر” حيث أخبرنا الحوار بينهما بجميع المعلومات التي تجعل المتلقي على معرفة مسبقة بحقيقة الصراع القادم ومنها أنه يود الاعتراف بابنته, وأن ابنته صحفية ومتواجدة اليوم في العرض, وأنه يريد الحصول على جائزة, وأنه يظهر أمام الجمهور أنه إنسان مثالي وصاحب مبدأ مشابها لدكتور «ستوكمان», في حين يدرك المتلقي حقيقته الداخلية والغائبة عن جمهوره وهي أنه شخصيته عكس ذلك. حتى يتصاعد الحدث, ويواجه هو هذا الصراع النفسي الداخلي الذي يعلو بداخله حتى يتفجر في ذروته عند لقاءه بـ”هناء» ابنته, ثم تكون النهاية بانصراف «هناء» عنه.
يبدو الحدث الدرامي هنا أرسطيا من بداية ووسط ونهاية لكنه في الحقيقة هو صراع سيكولوجي داخل البطل «قاسم», حيث يحمل في طيات شخصيته الخير والشر معا, مما ينطوي إلى ازدواج الشخصية, فالبطل لديه شخصيتين مزدوجتين منفصلتين، كل منهما تتحكم فيه من جهة,  مما أثر على تعامله مع واقعه, حيث غلب طموحه على إنسانيته, غلبت أنانيته على إيثار ابنته, وغلبت مصلحته المادية وشهرته على مشاعره الأسرية, مما أدي به إلى حالة من حالات التفكك النفسي، قام فيها عقله بقطع الاتصال بين أفكاره، وذكرياته، ومشاعره، وأفعاله وشعوره بهويته, في مقابل إعلاء نجوميته ورغبته في تحقيق وضع اجتماعي كممثل أمام جمهوره, كي يمنح نفسه آلية للتأقلم تغنيه عن الشعور بالذنب أو الألم تجاه فعلته مع هناء ابنته.
وفي هذا التناقض أو الازدواج في الشخصية نجد تشابها طفيفا مع رواية “قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة» للمؤلف الاسكتلندي الشهير/ روبرت لويس ستيفنسون, وهي تدور حول الدكتور «جيكل» الذي توجد بداخله شخصيتان مختلفتان تمام الاختلاف من الناحية الأخلاقية، إحداهما طيبة في الظاهر، والأخرى شريرة. وكان للرواية تأثير قوي؛ حتى إن عبارة «جيكل وهايد» أصبحت دارجة لتعني الشخص الذي يختلف توجهه الأخلاقي اختلافًا جذريًّا من موقف لآخر. 
استطاع المؤلف/ ميخائيل وجيه, بدهاء دمج تلك المعادلة الدرامية بين فكرته وبين التناص مع “عدو الشعب” من ناحية وبين التماس مع “قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة» من ناحية أخرى, مع الحفاظ على التصعيد الدرامي بشكل متوازن حتى النهاية. ولكن تبدو نهاية العرض هنا وكأنها مقحمة ولا تتناسب مع الطرح السابق, ففكرة العودة إلى البداية تحمل رؤيتين, أولاهما, أن “قاسم” لم يبالِ وأنه عاد يمارس حياته السابقة بكل ببرود دون أن يتأثر بالحدث الدرامي السابق, وهذه الفكرة منفية من أساسها, لأن ما يقدم أمام المتلقي في هذا المشهد هو إعادة حرفية لنقطة البداية بفارق التوقيت حيث مر 25 دقيقة طبقا لتنبيه “عارف” له (في البداية قال له أنه بقي على بداية العرص نصف ساعة, وفي النهاية أخبره بأن المتبقي خمس دقائق فقط) ولم يبدأ العرض بعد, بما يعني أن كل ما سبق لم يحدث أصلا , وتلك هي الرؤية الثانية, فكل الأحداث بين “قاسم و»ستوكمان» و»هناء», لم تكن سوى أضغاث أحلام للبطل في لحظة غفوة, وهذا يهدم تماما كل الأفكار والمشاعر التي كانت مطروحة من قبل في أحداث العرض.
استخدم المخرج/ اسامة رؤوف أسلوبا واقعيا بسيطا  في رؤيته دون تكلف أو اصطناع, وهي ما يمكن ان أسميه الواقعية السحرية, من خلال شخصيات شديدة الواقعية, أبرز من خلالها أبعادها النفسية, مع رؤية بصرية معبرة عن الواقع الذي يعيشه البطل في غرفته بالمسرح, تلك الغرفة التي كانت ديكورا ثابتا طوال العرض, للدلالة على القوقعة التي سجن “قاسم” نفسه فيها طوال حياته وسخر حياته فيها, فقد عاش راهبا لفنه مهملا الجوانب الاجتماعية الأخرى المتعلقة بابنته «هناء» وهروبه من اعترافه بأبوته لها طوال عشرين عاما. صمم «حمدي عطية» ديكور الغرفة بشكل تقليدي متناسب مع تقليدية  حياة “قاسم”, هي غرفة بها أثاث للجلوس ومهام الملابس, ويميزها صور شخصية للبطل معلقة على الحائط تعبر عن إحساسه بعظمته وفخره واعتزازه بنفسه وفنه, إضافة لمرآة تمثل بداية الحدث والحركة دائما لـ”قاسم” يجلس أمامها أغلب الوقت وينطلق منها ويعود إليها فهي تعكس شخصيته وهي الملجأ والملاذ بالنسبة له يحتمي بها فهي تعكس هواجسه ويهرب بها من الواقع الذي أهمله وشخصيته الباطنة الشريرة على داخل ذاته الخادعة المثالية التي يظهر بها أمام الناس. لم يكتف المخرج بمفردات الغرفة بل كشف في بعض اللحظات مكان الحائط المعلق عليه الصور, ما خلف  الحائط وهو خشبة المسرح التي يدور عليها تمثيل مسرحية “عدو الشعب”, وأدار حدثا موازيا يمثل خلفية تمثيلية أثناء الحدث الرئيس, مما يعطي إحساسا لدى المتلقي بالعمق كما في الصورة السينمائية, ولعل في هذا يضع المخرج توازيا آخر بين شخصية ستوكمان المثالية وشخصية “قاسم” المثالية ظاهرا والخادعة, حيث يمثل فتح الجدار اختراقا ومكاشفة لعقل “قاسم” وكأن كل الأحداث تخرج إلى المتلقي من خلال فكر “قاسم”, وعند إغلاق الجدار في النهاية, يفيق قاسم من غيبوبته الذهنية ويعود إلى شخصيته الحقيقية, ويعود الحدث إلى نقطة البداية مع استعداد قاسم لبدء العرض المسرحي, حيث يمقل هذا الجدار الخط الفاصل بين فكره وبين أحداث المسرحية التي سيقوم بأدائها.
الإيقاع العام للعرض جاء متوازنا بين الشدة والخفوت محققا تناغما إيقاعيا متناسبا  مع طبيعة اللحظة دراميا وتنوعها من موقف لآخر, لا سيما في المواجهة بين «قاسم» وبين «هناء», وحقق ذلك من خلال الحركة الرتيبة لـ”قاسم” معبرا عن انهزاميته وانكسار نفسيته, في مقابل حركة نشطة وسريعة ومتلاحقة من «هناء» معبرة عن حماسها ثم رفضها لكل ما يقوله أبوها. وتحقق ذلك أيضا في الإيماءات والإشارات وتعبيرات الوجه, وحسن تنظيم لحظات شدة الانفعال ولحظات الهدوء النسبي. ويمتزج كل هذا بالموسيقى التعبيرية التي صاحبت العرض والتي صممها «رفيق جمال» فكانت معبرة عن مختلف أحاسيس اللحظات المغايرة وما يدور في نفسية “قاسم” أو ابنته «هناء». 
الإضاءة التي صممها «أبو بكر الشريف», عبرت بصدق عن كافة المشاعر بكل تنوعها ما بين إضاءة عامة وتخصيص لحظات خاصة خافتة مستخدما الألوان الباردة في التعبير عنها, مع المساهمة في تدعيم الرؤية البصرية الجمالية الموحية بدواخل شخصية “قاسم”. أما الملابس التي صممتها «دينا زهير» فكانت مناسبة ومتناسقة لكل شخصية ومعبرة عنها بشكل بسيط دون تكلف, حيث يرتدي “قاسم” بدلة كلاسيكية متوافقة مع شخصية د. ستزكمان في مسرحية عدو الشعب, وترتدي “هناء” ملابس فتاة عصرية مبهجة معبرة عن مرحلة الشباب والطموح, أما عارف فيحتمي في معطف بالي قديم وعتيق معبرا عن الكهف المظلم الذي يحصر فيه قاسم نفسه.
الشخصية الرئيسة في العرض هي شخصية  «قاسم» والتي أداها باقتدار شديد «ياسر عزت» بالمشاركة في نفس الوقت مع أداء شخصية «د. ستوكمان», حيث أجاد التنقل بين الشخصيتين, مبرزا أوجه التشابه والتناقض بينهما, فقاسم هو شخص أناني لا يحب سوى نفسه ويبحث فقط عن مصلحته ولا يهتم بأمر  الغير, ولا يبالي سوى بشهرته ونجوميته والانهماك في العمل من أجل إشباع ذاته وتأكيد نرجسيته, ويحمل في نفسه الشر والخير معا, إلا أن غلبة الشر هي المحركة لأفعاله, حتى يقع بين خياري التمسك بالمبدأ أو الحفاظ على صورته الماثلة من قبل أمام المجتمع, أما «د. ستوكمان» فهو شخص أستاذ وعالم في مجال عمله, محب للغير والمجتمع ويفضل المصلحة العامة باحثا عن الحقيقة من أجل الآخرين, هو شخص سعى لإنقاذ بلدة بأكملها من التلوث والمرض غير مبال بما يلحق به من أضرار مقابل ذلك. فكان «ياسر عزت» في تنافس مع نفسه في الانتقال بين كل حالة من الشخصيتين عدة مرات وفي خلال لحظات قليلة, وقد أجاد ذلك من خلال خبرته بتوظيف حركة  الجسد ونبرة الصوت وتعبيرات الوجه والإيماءة, وأحسن إبراز الصراع النفسي الداخلي لـ”قاسم» ومشاعره  المكبوتة حتى عاد لهدوئه الخارجي في النهاية مرة أخرى محققا التوازن النفسي والتصالح مع الجانب الأسوأ من شخصيته.
أما شخصية «هناء» التي أدتها الموهوبة الصاعدة «ريم أحمد» وأجادت طرح تفاصيلها ومشاعرها وأحاسيسها المهزومة والمنكسرة, فهي شخصية فتاة مجتهدة وطموحة تبحث عن الأفضل في المستقبل من خلال عملها بالصحافة, تتوهج بالحيوية والنشاط والتفاؤل, حتى تفاجأ بأبيها الذي كانت تحبه وتحترمه كممثل قدير وصاحب مبدأ متشابها مع «د. ستوكمان», فواجهت لحظات تغير المشاعر بين الحالة الأولى إلى حالة الصدمة ثم الغضب والرفض والانكسار في المواجهة مع قاسم, واتسمت «ريم أحمد» بالتلقائية والبساطة في أداء الحالة وطرح المشاعر العميقة الرافضة لأفعال أبيها تجاهها وحزنها الدفين طوال عشرين عاما سبقت, فكانت مثل موج البحر الهادر الذي ألقي بزبده إلى الشاطئ منسحبا إلى مستقره مرة أخرى, حيث أجادت توظيف مشاعرها والتحكم في أدواتها كممثلة دون مزايدة أو اصطناع مكتسبة تعاطف المتلقي مع الشخصية وما واجهته من أحزان وظلم من أبيها لسنوات طويلة حتى اصطدمت بحقيقته.
شخصية مساعد المخرج “باهر” قام بأدائها «نائل علي» ببساطة في حدود المكتوب لها كشخصية ثانوية صديق لـ”قاسم», الغرض منها زرع بعض المعلومات وكعتبة ارتكاز للتحول في شخصية «قاسم» في بعض الأحيان, وتميز «نائل علي» بالإجادة والقبول لدي المتلقي بخفته وبتلقائيته. 
أما «محمد دياب» فقد استطاع  برزانته ورسوخه أن يقدم شخصية «عارف» العامل الطاعن في السن بخفة ظله المعهودة, وأعتقد أن «عارف» شخصية مضافة من قبل المخرج مضيفا برؤيته إطارا خارجيا من خلاله, معبرا بحركته البطيئة وملابسة العتيقة, ورزانة أسلوبه عن الماضي السحيق الذي يسكن داخل شخصية قاسم, حاملا مصباحا (كلوب – لمبة جاز) قديم يحاول أن ينير به طريق في كواليس المسرح رغم وقوع أحداث العرض في زمن حديث كان يمكنه أن يضئ طريق بكشاف كهربائي, للدلالة على عدم قدرة «قاسم» على استكشاف طريق في الحياة بشكل سليم متمسكا بأوهام وأفعال لا أخلاقية قد تخطئه الخطى وتؤدي به إلى هوة نفسية عميقة وهو ما حدث فعلا مع ابنته “هناء”.
ستوكمان, عرض جيد متماسك وراقي, يعبر عن حالة نفسية واقعية يعاني منها الكثير من الناس في العصر الحديث بالذات, بالوقوع في منزلق الاختيار وتفضيل أهواء النفس على المبدأ العام, أحسن المخرج طرحها بأسلوب سهل ممتنع, وقد أجاد كل من شارك فيها.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏