الذباب وفلسفة الوجودية عند سارتر

الذباب وفلسفة الوجودية عند سارتر

العدد 764 صدر بتاريخ 18أبريل2022

الإنسان في المذهب الوجودي وجوده سابق علي ماهيته،وما يميز الإنسان ممارسته لحريته واتخاذ القرار الحر والمسؤولية، من هنا يحقق الإنسان ذاته، فهي تركز الاهتمام علي الذات والفرد لأنها تمثل لب وجوده الشخصي .
فالوجوديون متشائمون ومتفائلون ولكن يرون في أغلبهم أن وجود الإنسان يلقي مقاومة وقد ينتهي بالإحباط والوجود ومادام يتعلق بالفرد فانه ينتهي بالموت .
ويري الوجوديون أمثال كيرجور وهيدجر وسارتر أن القلق والملل والغثيان ذات مغزي فلسفي وهو ما أهمله الفلاسفة قبلهم حيث اعتبروها أمورا غير فلسفية .
وعلاقتهم بالدين تكتنفها الازدواجية فتتراوح بين الحب والكراهية 
يذهب المذهب الوجودي إلى السعي وراء تحقيق القيم الإنسانية في العالم والإنسان هو الخالق الوحيد لمعني القيم في العالم وهو الأمر الذي يعتنقه سارتر ويعني عدم الإيمان، فالوجودية عنده مذهب غير متدين لأن الإنسان فيه متروك لذاته حتي يخلق ويحقق في عالمه ما يستطيع من قيم .
والفيلسوف الوجودي يبدأ بالفعل وليس بالأفكار فمعني أنك موجود وفعالا أنك تواجه عالما واقعيا حقيقيا .
ويتمرد الوجودية علي مجالات كثيرة وأوضاع قائمة مثل اللاهوت والسياسة والأخلاق والأدب والشرائع التقليدية وهم أمثال سارتر وكامي عدميون ومنكرون ورافضون يسعون للهدم وليس البناء .
والوجودية علي هذا أسلوب في التفلسف وليست مجموعة من النظريات الفلسفية (1)
وعلي هذا فان الوجودية تري وجودها بالنسبة للآخرين والعالم بشكل مختلف عن أي رؤي أخرى فالوجود البشري مستحيل بمعزل عن هذا العالم، كما أن هذا العالم ليس الكون وحده وإنما وجودا آخر لبشر آخرين معه، وعلي الرغم أن الوجوديون اعترفوا بالفردية كأساس لوجود الإنسان وأهميته في هذا العالم فإنهم رأوا أن هذا الوجود لا يمكن أن يكون بدون الوجود الجماعي لهذا الشخص من خلال الآخرين، وفي هذا يقول مارتن بوبر كما ينقل لنا كلماته مؤلف كتاب الوجودية:
((ليس هناك أنا يمكن أن تؤخذ بذاتها وإنما أنا – أنت والأنا المندمجة في الكلمة الأساسية أنا – هو (...) فقبل أن تكون أنا وأنت منفصلتين كانت هناك ( أنا – أنت ) أو الواقع الجمعي أو الاجتماعي الذي يجعل الذات البشرية والشخصية الفردية ممكنة )) (2)
وعلي هذا فالجنس البشري لايمكن أن يكتمل بدون الآخرين، مع ذلك فان الوجوديين نزعوا إلى الفردية فعلي الإنسان أن يحمل العبء بمفرده ويقوم بما عليه من مسؤولية والآخرين هم الدهماء أو القطيع أو هم بمعني أصح فهم زائفين فجنحوا إلى الفردية بل أن الوجوديين لم يحددوا علاقتهم بالآخرين بمعني واضح وإنما ابتعدوا عن هذه العلاقة الشائكة في مقابل الارتقاء بدور الفرد وأهميته .
وتري الوجودية أن الإبداع الإنساني يقابله قوي محبطة مؤلمة تحاول أن تحطمه فالإنسان لدي الوجوديين هو بنفسه في هذا الجسد وهذه الصفات وهذه الطباع وهذا الجسد وهذه الصفات الجينية ولد وعاش في ذلك الوقت وفي ذلك المكان وفي هذه الحالة الانفعالية الخاصة مما يميزه عن غيره من البشر فأنا أكون ما أنا حسب قولهم .(3) 
كما يري الوجوديون أن الإنسان ملقي به في موقف وجودي خاص به وكل منا له من الرمي ما يمكن أن يتصف به فيكون أمريكيا أو أوروبيا أو غيره، غنيا أو محروما، رديء الطبع أو حسن الخلق، فالبشر مختلفون ذو مواهب مختلفة، واختياراتنا تحدد ما نكون حسب إرادتنا العاقلة .
أما عن الموت فانهم يرون أن وعي الإنسان بالموت يميزه عن الحيوان فالوجود البشري في خطر ويمكن أن ينتهي في أية لحظة بالموت، ليجعل كل الإمكانات غير ممكنة حسب قول هيدجر .
أما عن شعور الإنسان بالذنب فيري الوجوديون أن سقوط الإنسان لا ينفصل عن ارتفاعه فهما أمران متلازمان وكذل شعوره بالخطيئة وهو هنا شعور غير ديني فهي اغتراب عن وجود الإنسان نفسه، حيث أن وجود الإنسان هو ما يهمهم هنا .(4) 
الوجودية والأدب:
ذاعت في الموضوعات الأدبية للوجوديين أمثال سارتر وكامي ثيمات مثل: الحرية، والقرار، والمسؤولية، والتناهي والاغتراب والذنب والموت، فالوجودي عند كافكا في القرن التاسع عشر يشعر بأزمة وتهديد وتمزق واغتراب، وفي كثير من الأحيان يصف الوجوديون الرب في أشعارهم بأنه أشاح بوجهه عن الإنسان فتركه وحيدا ممزقا والأب صامت والإنسان يعاني، كما قي قصة كافكا المحاكمة حيث يجد الإنسان نفسه وحيدا متهما في قضية لا يعرف كنهها ضائعا، كذلك في رواية ديستويفسكي (الأخوة كرامازوف) وما عبر فيها عن أزمة الإنسان مع الآخرين وكذلك روايته ( مذكرات من باطن الأرض) (5) .
علي هذا رأي الكتاب الوجوديين العالم من زاوية واحدة هي التشاؤم والألم والخوف والبؤس مما يشير إلى التأثير والتأثر بين الفلسفة والأدب .

سارتر ومسرحيته الذباب 
وضع سارتر أفكاره الوجودية في مسرحيته الذباب التي تمثل أسطورة أورست الشاب الصغير الذي عاد كي يأخذ بثأره من قتلة أبيه حيث تبدأ أحداث المسرحية بعودة أورست ومعه المربى إلى أرجوس ليجد أهل المدينة وقد تكاثر عليهم الذباب وكبر حجمه واستولى عليهم الندم واستغرق حياتهم، لجريمة قتل أجاممنون، تلك الجريمة التى يحتفلون بذكراها يوما كل عام (هو يوم عيد الموتى) وهو اليوم الذى يبعثون فيه ندمهم على الجريمة وعلى حياتهم ذاتها، وفى هذا اليوم يقابل أورست جوبيتر كبير الآلهة الذى يعلم حقيقة أورست ويحذره من التدخل فى الأحداث:
( جوبيتر: امض أيها الشاب، عم تبحث هنا، انك تريد أن تحق حقوقك؟ انك قوي ونشيط، انت تصلح لتكون نقيبا في جيش مقاتل، أن أمامك عملا أفضل من أن تحكم مدينة نصف ميتة، جثة مدينة يعذبها الذباب، أن السكان هنا خطاه كبار ولكنهم يسلكون الآن درب التوبة فدعهم أيها الفتي واحترم مشروعهم، وابتعد علي رؤوس أصابعك، انك لن تستطيع أن تشاطرهم فدعهم لأنك لم تشترك في جريمتهم ) (6) .

كما يقابل أخته (الكترا) التى تحيا على الحقد على ايجست وعلى أمها كليتمنسترا كما تحيا على الأمل فى أن يكون أخوها أورست حيا فيعود لينتقم منهما. كما يقابل أمه كلتيمنسترا التى تحيا على الندم.
وتبدأ طقوس عيد الموتى، فيتسابق الناس فى إبداء الندم والشعور بالذنب ولا سيما تجاه الموتى، ويظهر الملك ايجست ليغذى فى الناس هذا الشعور بينما هو نفسه (القاتل) لا يشاركهم الندم، وتثور الكترا على طقوس عيد الموتى وتحرض الناس على الثورة عليها وتكاد تنجح فى ذلك إلا أن جوبيتر يخذلها ويهزمها بأحد معجزاته ليظل الناس مكبلين بالذنب والندم.
يعرف أورست الكترا بنفسه، ويصمم على الانتماء للمدينة ولأهلها وأن يتحمل مسئولياته فى الانتقام وقتل المجرمين وتحقيق العدل وهزيمة الندم، يقتل أورست الملك ايجست والملكة كلتيمنسترا أمه:
(الكترا: لقد أردت أن أعتقد أن بإمكاني أن اشفي سكان هذه المدينة بالكلمات. وقد رأيت ماذا حدث، إنهم يحبون مصيبتهم، وهم بحاجة إلى جرح مألوف يغذونه بعناية بأن يحكون بأظاهرهم القذرة، وإنما ينبغي أن يشفوا بالعنف، لأنه ليس بالإمكان قهر الشر إلا بشر آخر ) (7) .
أن الكترا هنا تنبه أخاها أن سكان المدينة غير قادرين علي تغيير أنفسهم بل انهم لا يمكن أن يتغيروا إلا بشر آخر في تحفيز لأخيها علي قتل المعتدين علي أبيها .
ويلجأ أورست مع أخته إلى معبد (أبولون) للاحتماء، حيث تهاجمهما آلهة الندم بشراسة، وتضعف الكترا وتنهزم وتستسلم للندم، أما أورست فيؤكد تحمله لمسئوليته وحريته كانسان من خلال حوار مع جوبيتر الإله، وفى مشهد ختامى يخاطب أورست أهل أرجوس ليتخلصوا من الندم والذباب وليجتذب هو الذباب وراءه وهو خارج من المدينة.
(أورست: ما أنتم أولاء، يا أتباعي المخلصين. إنني أورست ملككم ابن أجاممنون، وهذا اليوم هو يوم تتويجي (...) أن الجريمة التي لا يستطيع مرتكبها أن يتحملها ليست جريمة أحد، أليس كذلك؟ أنها جاءت عرضا تقريبا، ولقد استقبلتم القاتل كأنه ملككم وأخذت الجريمة القديمة تروح وتجيء بين جدران المدينة (...) إننا مرتبطون بالدم وأنا استحق أن أكون ملككم، أن أخطاءكم وندمكم ووساوسكم الليلية وجريمة اجيست، أن ذلك كله لي وأنا آخذ كل شيء علي عاتقي فلا تخافوا بعد موتاكم فانهم موتاي )(8) .
أن أورست اقترب من أهل المدينة بعد أن تخضب بالدم لأنه أصبح قاتلاالآن، وإنما رفضهم أن يكون مليكهم كان لأنه لم يكن قاتلا فلما اشترك معهم في الجريمة أستطاع أن يصبح مليكهم واستطاع أن يصرف عنهم الذنب الذي حصدوه بعد أن قتل أباه أجاممنون تحت سمعهم وبصرهم فانصراف الذباب هو انصراف الذنب ذلك الذنب الذي رافقهم طوال تلك الفترة ولم يستطيعوا الخلاص منه حتي جاء من ينتقم ويشعرهم أنه لم يعد ذنبا عندما ارتكب جريمة أخري تماثل جريمتهم كنوع من الثأر لجريمة سابقة أرقتهم .
وأورست الذي يجسد معني الحرية كما يراها الوجوديون في بداية المسرحية يصف حرية الإنسان وأنه – كما يري الوجوديون – يستطيع أن يختار مستقبله بما أنه يستطيع بجهده وعنائه أن يصل لما يريد، وهو في بداية المسرحية كما يصفه المربي إنسان بريء لم يرتكب إثما ولم يكن مقيدا بفكرة ما .
أما الندم والإحساس بالذنب الذي أشار إليه الوجوديون بأنه قدر الإنسان في عالم مؤلم قاسي فهي فكرة دينية جاءت من شعور أهل المدينة بإرتكابهم إثم قتل الملك أجاممنون وأنهم مشتركون فيها جميعا، وهو المتمثل هنا في الذباب عنوان المسرحية، حيث يتضاعف حجمه وكثافته وكأنه يقتات علي أجساد أهل المدينة كنوع من الثأر والانتقام للميت .
أن أورست يحمل الذنب بدوره هذا الذنب الذي جعل الكترا تحتقرها تحتقر أخاها بعد أن كان كل ما تتمني هو الانتقام لأبيها، لكنه الآن أصبح قاتلا مخيفا فأصابها الرعب والذنب بدورها، لهذا فان الذباب يتبع أورست بعد أن طهر أورست المدينة من الإثم واصبح هو الآثم الوحيد .
أن أورست الإنسان باختياره فقط يصل إلى هذه المرحلة بعد أن سخر من الآلهة وانتقم لأبيه فلا يجد في نفسه إلا الذنب بعد أن حقق ما أراد بنفسه وصنع مستقبله وعاني الآن قدره الذي صنعه بنفسه وهذا ما يراه الوجوديون هو أن الإنسان يحمل العبء كاملا عبء الوجود لأنه صانعه .
كما أن إلحاد سارتر وإضفاءه الألوهية علي الإنسان بدلا من الإله واضح في جعل الإنسان حرا يفعل ما يريد غير مقيد بأقدار أو عقاب من الإله وهو ما يتمثل في السخرية من الإله طيلة المسرحية فهو خلق الإنسان لكنه لم يستطع أن يتحكم فيه أو يسيره وفي ذلك سخرية من وجود الإله .
كما أن فردية أورست وبطولته تلك هي نفسها ما تتماشي مع فكر الوجوديين وتمجيدهم لفردية الإنسان وقدراته الهائلة من خلال إرادته المطلقة في صنع مستقبله والتحكم فيه .
أن الذباب مسرحية تمجد الإنسان الفرد وتسعي إلى التقليل بل رفض سلطة الإله والتحقير من شأنها بغية الارتفاع بإرادة الإنسان وكذلك تعمل علي السخرية من الشعور بالذنب الذي هو من صنع الإنسان نفسه لكنه لن يتم التحكم به إلا بواسطة الإنسان نفسه صاحب اليد الطولي في التحكم في هذا العالم كما يري سارتر كوجودي في هذا النص .
إن سارتر التزم في مسرحيته بأفكاره وأفكار الوجودية كنوع من الإعلاء من هذه الأفكار وتقديم نموذج من الأساطير يعبر عن هذا النموذج كي يؤكد علي ما يرى ويعتقد .

المراجع المستخدمة:
1 – جون ماكوري: الوجودية: ترجمة: د. امام عبد الفتاح امام.
الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،عالم المعرفة العدد ( 58 )، 1982، ص 29 .
2 – المرجع السابق: ص 119 .
3 – المرجع السابق: ص 211 .
4 – المرجع السابق: ص 225 .
5 – المرجع السابق: ص 286 .
6 –سارتر: الذباب: ترجمة د. سهيل إدريس .
بيروت، دار الآداب، د.ت، ص 15 .
7 – المصدر السابق: ص 49 .
8 – المصدر السابق: ص 100 .


أحمد عصام الدين