المسرح تجديد وتجريب مسرح البسام نموذجا

المسرح تجديد وتجريب   مسرح البسام نموذجا

العدد 558 صدر بتاريخ 6مايو2018

المسرح دائما مكان لتلاقح الثقافات والحضارات، المسرح أحد الأجناس الإبداعية، المسرح شكل من أشكال الفنون يؤدى أمام المشاهدين، المسرح أبو الفنون.
تعريفات عدة لكنها بالنهاية تؤدي إلى غرض واحد، لكنني وجدت تعريفا مبسطا ومعبرا للمسرح، وذلك من خلال ملصق لمسرحية (أنا أمل يا شاكر) التي عرضت بعد ثورة الرابع عشر من المجيد عام 1959 حيث يقول التعريف (المسرح مدرسة كبرى تستطيع أن تخلق وتنشيء وتبني جيلا جديدا)، ومن هذا التعريف انطلق في ورقتي هذه التي تتناول المسرح تجديد وتجريب، والتي سأتناول مسرح البسام كنموذج في الإخراج والتأليف.
ومن هنا نجد أن المسرح وسيلة من وسائل بناء المجتمع وتحريكه ضمن خطاب سياسي ممسرح بحيث لا يذهب إلى التوتر والهتاف السياسي الهادر، بل يقوم على شحذ الهمم والانتصار إلى قضايا المجتمع الوطنية ومواجهة التحديات.
فها هو الأستاذ سعد ونوس يقول (المسرح يستهدف التواصل مع الجمهور ومحاورته) وهو يعني بعث الوعي لدى الجمهور وحثه على اتخاذ مواقف سياسية تتيح له التقدم بالحياة.
وهذا التوجه يأتي من خلال التزام القائمين عليه، فالمسرح أمانة، وهو تجربة المشاهد اليومية التي من خلالها يرشده إلى تصحيح خطأه وتقويم مسيرته، وذلك من خلال رؤية المخرج المبدع الذي استمد رؤياه من نص ملتزم وشخوص تتحمل مسئولية الأمانة المسرحية.
فهذا عوني كرومي ورغم سنوات العمر والتجربة العالمية واعتلائه خشبات المسرح العالمي، يقول (وجوده ما زال قائما في مخيلتنا ووجداننا، وقد يتعجب البعض عندما أؤكد أنني أراه كل يوم عندما أقدم على عمل وأدي تنفيذه)، نعم يقول هذا إكراما لمعلمه وأستاذه الدكتور على جواد الطاهر.
لذا نجد المتلقي العراقي آنذاك ينظر إلى المسرح باعتباره البقعة المقدسة، أما الممثل فهو الملاك الذي سيأخذ بيد المتلقي نحو الاعتناق والحرية، فالمسرح كان وسيظل الجسر الذهبي الرابط بين المسرحي والجمهور، وعندما أؤكد على أهمية المتلقي للمسرحية لأنه المعيار لمعرفة نجاح العمل من عدمه، فالجمهور هو المرجعية الأساسية لاختيار النص لأن المسرحي الفعلي هو الذي يعكس المواقف والحالات المختلفة التي يعيشها الجمهور.
فالمسرح الحقيقي هو الذي ينطق بلسان مشاهديه كما يقول الفنان روجيه عساف.
وبما أنني عرضت لمسات لمسرحنا ولو ببساطة شديدة كي أدخل صلب تجربة الأستاذ سليمان البسام المخرج الكويتي.
سليمان البسام خريج جامعة إدنبرة عام 1995، عمل مساعد مخرج ثم أسس فرقته المسرحية ذا ؤوم عام 1995، قدمت أعمالا من تأليفه وإخراجه في مهرجانات دولية وعربية (لندن – الكويت – القاهرة – تونس) حصل فيها على جوائز ورشح ضمن عشرة مخرجين واعدين في أوروبا.
بعد النجاح الكبير بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي لعام 2002 واعتبار عمله الفائز بأفضل عمل متكامل وجد نفسه أمام مسئولية وفرحة منقوصة، فعزم أن يتخذ القرار الصعب ويعود إلى وطنه مؤمنا بأن الكويت أول بإبداعاته وأحق بجوائزه.
فهذا القرار وما يترتب عليه من صعوبات، وتلك النظرة المتخلفة للمسرح، والرقابة القاسية، لا سيما وأن الأفكار السلفية والعادات والتقاليد، كلها معوقات لأي عمل إبداعي، لكنه وجد ضالته بتلك الثلة من المؤمنين بأفكاره والمحترمين لقراره.
فتخلى عن تلك الأجواء المفتوحة والمسارح العظيمة، إلى مجتمع يملؤه الحسد والخوف بقلب المسئول الذي يخاف على إزاحته من كرسيه، لكنه أكد لمحبيه أن قراره صائب كي يحرك الساكن للحراك المسرحي وينقله نحو العالمية.
وأولى التقاطاته كانت للغيوم التي ملأت سماء الكويت وسحب الدخان المتراكمة إثر القصف الجوي الأمريكي وحلفائه على العراق، التقط رأس الخيط واتفقا على جمع مجموعة الشباب العراقي بعد أن سقطت بغداد (كوكب حمزة، طارق هاشم، الدكتور عباس الجميلي، مناضل البياتي، ومجامع من الكويت وإنجلترا) لتقديم عمل يعيد الفن العراقي إلى الكويت.
فجمع سليمان بين عملين عالميين هما المذبحة للكاتب الألماني هينز مولر، والكاتب الإنجليزي ثروبن بتيس بمسرحية الزريبة، فقدمها بشكل تجريبي مجدد، وهدف بهذا العمل الوطني والخيري الذي أطلق عليه (ذوبان الجليد) لتأكيد أواصر الإخوة بين الشعبين العراقي والكويتي.
وتحدث سليمان عن هذا العمل (أثناء الحرب لتحرير العراق كنت أراقب الأحداث الدامية عبر شاشات التلفزيون مع العراقيين المقيمين بالكويت، مررنا بفترة عصيبة، وتأثرنا بما حدث للشقيقة العراق، من هنا أتت الرغبة لإنجاز عمل فني متكامل يحكي هذا التناقض والإحساس ويكسر الصمت الذي كنا نحياه أمام شاشات التلفزيون، واعتبر هذا العمل صرخة إنسان عربي لنقد الذات أولا ولنقد الآخرين بما سببوه من محن وآلام لشعوب المنطقة.
أما العمل الآخر الذي جاب دولا كثيرة مثل اليابان، كوريا الجنوبية، بولونيا، إيران، سنغافورة، ثم ختام الجولات في قلعة هاملت نفسها بمدينة هلنسبور بالدنمارك.
اعتمد البسام ومنذ خطواته الأولى بالمسرح على المسرح السياسي والمتميز بالدفاع عن كلمة الحق، من خلال خطاب سياسي مسرحي متوازن يعتمد الفكر التنويري، منها هو يقول (كل عربي يعرف جورج بوش، أما أن تكون معنا أو تكون ضدنا، والكل يعرف بالغريب رداءة الأنظمة القمعية ببعض البلدان العربية، هذه هي سياسة العولمة، لكنها لا تفعل شيئا لدفع الحوار بين الحضارات، وكل ما تفعله هو تقديم رؤى عالمية فارغة، فهما يسمحان بالتنوع والاختلاف ليصبح الضعيف غير ذلك الشخص الذي يثير الشفقة، أن المسرح يتحدى الآراء التي يرتضيها العالم ويكسر مرايا السلطة).
وهذا العمل انبثقت فكرته من شعور المخرج سليمان البسام وبوعي ثقافي مزدوج وإحساس قوي بأن لدينا كأمة عربية في تقديم وطرح قضايانا، وهمومنا، وهويتنا للإعلام الغربي بأفضل طرق ممكنة وصحيحة، وهذا ما خلف فجوة كبيرة بين التواصل والتفاهم بيننا، لذا يعتبر هذا العمل وفنانوه تجسيرا لهذه الهوة.
والعمل هذا قدم موضوعا يخشاه الكثيرون لحساسيته الشديدة التي تتعارض مع الواقع الاجتماعي المعاش والأمراض الموروثة والمزمنة، مؤمنا بأنه يحاول تحسين وجه مجتمعه عبر عمل مسرحي يمثل طموح الأقلية العارفة بحقيقة هذا التوجه.
فالعمل هذا جاء لتساؤل المخرج سليمان البسام (لماذا انتشر التطرف في الوطن العربي؟!)، وهنا طرح المخرج إجابته من خلال مكاشفة الجمهور وعبر شخصيات شكسبيرية (هاملت، جرترود، أوفيليا، لايرتس وفورتنبراس) وألبسها الزي العربي وفصل لها حوارا عربيا إسلاميا حاملا هم هذا المجتمع والصراعات والحروب المختلفة التي يقف وراءها محول الشر ليلبي رغبات المهووسين بجمع الشهوة والسلام.
كما عمد المخرج والمؤلف إلى كشف خط الأصولية الذي بكر في توقعه لا سيما وأن هاملت قد تحول إلى ذلك المتطرف الإسلامي، فأطال ذقنه وجهز فرسه وقصر دشداشته ثم حول المسجد إلى مقر لاتخاذ القرارات، لا بل حول محبوبته إلى إرهابية فبدلا من أن تدعو إلى القنبلة تطلب قنبلة.
ووجدنا أن المسرح قد تحول من برلمان إلى ساحة تصفيات وأنها حسابات وإغلاق حقبة زمنية، من خلال قتل هاملت وتصفية الآخرين تباعا من خلال أصوات المراسلين ومحطات التلفزة وذلك عبر شاشة توسطت المسرح.
ها هو المخرج يضع الإجابة التي وصل إليها مجتمعنا العربي من خلال عودة (فورتنبراس) المتربص بالجميع واحتلال البلاد بدون عناء، وها هو يعلن الحقوق الدينية والتأريخية له في هذه الأرض التي اعتمد المخرج وعبر مكبرات الصوت على شكل كلمات متقطعة من قبل الجنرال الإسرائيلي (مناضل البياتي) إسرائيل.
من هنا أجد أن البسام اهتم بمخاطبة العقل وذلك عبر تقنيات متعددة، فهو مرة يستخدم شاشة عرض، وأخرى موسيقى حية (فهو يرفض استخدام التسجيل) فيعتبره إيذاء لذوق المتلقي.
كما أن عروضه متطورة وهذا ما نلاحظه من خلال التجديد في كل عرض من العروض التي يتم تقديمها تباعا، وهذا ما يؤكده بقوله إنني أتجنب المألوف والسائد وأبحث عن الشيء الأقرب لروحي.
ومما أعطى مسرح البسام البعد التجريبي والتجديد هو ذلك الفريق الأممي في زمن أصبح فيه الإنسان العربي أكثر انغلاقا على نفسه أو محاطا باللاءات التي أزوته بين ردها التخلف ولا بد لي أن أقف مع بعض الذين قالوا في هذا العمل التجريبي المتجدد.
* الدكتور جراهام هولدرنيس – ناقد نهوضي إنجليزى (لقد وضع البسام نفسه كمؤلف يكتب ليس للعرب وإنما بالإنابة عنهم، كما أنه يزيل الفوارق ما بين شخصي وما هو محلي، فالبسام لم ينوِ أن يكتب عن هاملت للمشاهدين العرب، بل أراد أن يصدم مشاهديه الأجانب خصوصا الإنجليز منهم، ويقحمهم في الإثارة والشعور بالغربة).
* صحيفة السكوتش مان (في عمله المدهش.. أخذ البسام هاملت وأعاد صياغتها بأسلوب شعري جديد.. النتيجة مذهلة).
* صحيفة ساندي هيوالد (عرض درامي محكم البناء، يصور انحطاط المجتمع إلى التطرف والفوضى).
* صحيفة التايمز اللندنية (إحدى روائع ما شوهد هذه السنة).
لقد ظل البسام بطموحه الفكري أن يوصل صورة الواقع العربي والإسلامي بشكل مشرف ونرى تأثير هذه الرؤية من خلال مشاركة الأمير تشارلز ولي عهد التاج البريطاني الذي لم يسعفه الوقت لحضور عرض المسرحية في ستارتفورد حيث قال (سمعت وبسعادة غامرة عن مسرحية سليمان البسام وكانت أمنيتي أن تتاح لي الفرصة وأكون بين الحضور لأراها شخصيا، أن فكرة الاستعانة بجزء من التاريخ والبحث فيه وتطويعه للعالم العربي فكرة خلاقة وعظيمة تربط بشكل جميل بين ثقافتين عظيمتين).
هكذا نجد تأثير المسرح وموقعه بالمسبة للمشاهد الغربي، فالبسام كسب الرهان وثبت ركائز المسرح، بل غير الصورة المشوهة التي رسمت للإنسان العربي والإسلامي.


محمد جواد