الارتجال

الارتجال

العدد 690 صدر بتاريخ 16نوفمبر2020

اللعب هو الحالة التي يكون فيها المعنى في حالة تدفـق، والحالـة التي تزدهر فيها الامكانيات، وتتضاعف فيها حدود ما هو حقيقي وغامض ومشوش ومكسور . اللعب تحول لانهائي، تحول بدون سكون، فهل يكون لعبا خالصا ؟
 “ تيم ايتشيلز “
 يواجه الممثلون في مساحات التدريب مجموعة من الأشياء ويُطلب منهم اختيار شيء واحد، ثم يستكشفونه، مما يسمح للشيء نفسه أن يقترح طرقا تمنحه الحياة . فيختار أحد المؤدين قناعا للغاز، يبدو أن تاريخه يرجع إلى الحرب العالمية الأولى. وهو قناع مصنوع من القماش، مع دوائر زجاجية سوداء فوق العينين وعلبة معدنية قرب الأنف، وتحمل مرشحا لتنقية السموم لكي تجعل الهواء آمنا للتنفس . وخلال اكتشاف قوامه ووزنه وحجمه وملائمته وراحته وحدوده، يبدأ القناع في الإفصاح عن خصائصه . يتحول قناع الغاز بسرعة من قناع للوجه إلى ذات بديلة حميمة ومهددة بالتناوب : طائر جارح تارة وكلب تارة أخرى . وتدريجيا تهيمن سماته الحربية، ويصبح حليفا .
 يتم اختيار شيئا آخر لتكملة الأول: ويتم ربط قطعة شريط من الحرير الأحمر في القناع ويتدفق الفائض من الرقبة . فيصبح قبعة، وجسما، ودما. وبالتحرك مع الممثل الذي ارتدى القناع، يتقدم الحرير إلى الأمام أو يتراجع إلى الخلف وهو يهدد ويترنح بالتناوب. وبالعيون الزجاجية الدائرية الداكنة والكمامة، أصبح القناع المعدل فجأة قادرا علي التحليق كالنسر ثم يداعب برفق شيئا مرغوبا فيه. ويكتسب صوتا ولكنه يتحدث لغة غير مفهومة .
 يستمر التمرين، تنضم أشياء رمزية أخرى وممثليها في سرد قصير يتجلى ثم يتبدد بالسرعة التي يتطور بها . تستكشف الأشياء كل منها الأخرى، وتختبر نقاط قوتها وضعفها، وتتحرك في تناغم أو تنافر . تصبح متشابكة وتتحرك إلى الأمام في تهديد متعمد وهي تلعب .
 بعد أربعة أيام من العمل – وتذكر الخصائص السائدة واختبار ورفض العناصر التكميلية الأخرى – يقوم ممثلان بتجسيد تتابع معا في نفس المساحة . يظلا واعيين بكل منهما الآخر، والطريقة التي يستخدمان بها المساحة، وضبط أدائهم لاستيعاب بعضهما البعض أو التفاعل مع بعضهما البعض أو تجنب بعضهما البعض . وتنتهي الورشة قبل تجهيز الدراسات للأداء . ولكن الذكريات موجودة، ولم يتم نسيان العمل . ولا داعي للكلام عن العلاقة بين المؤدين وأشياءهم، ويبقي أن حضورهم لا يوصف .
 الارتجال هو تمرين مفتوح، يقام داخل الحدود التي تميز موقفا، ولكنها لا تحدد النتيجة . ويمكن أن تكون محددات الارتجال ضيقة ( لحظة محددة في العلاقة بين شخصين) أو محددات مفتوحة ( تحقيق ملموس لشيء أو استكشاف مساحات حقيقية أو متخيلة ) . وخلال النصف قرن الماضي، أصبح الارتجال أداة معيارية في أغلب مساحات التدريب ومصدر للمادة لتطوير عروض جديدة . وبالنسبة للممثلين الذين يعتقدون أن هناك طرقا أفضل وأكثر مباشرة لدفع عملية التدريب إلى الأمام، فالارتجال هو مضيعة غير ملائمة للوقت الثمين . وبالنسبة لمن يتبنون الارتجال، فهو وسيلة لتفتيح الذهن علي إمكانيات جديدة أو لابتكار أعمال مسرحية جديدة . وغالبا ما يكون قرار تجربة منهج بديل للعمل هو استجابة لحاجة مدركة لإبعاد الممثل عما في رأسه والتواصل مع عواطفه أو العثور علي مادة غير متوقعة لإنتاج مادة يمكن أن تفاجئه . وسوف تساعدنا النظرة الفاحصة للارتجال أن نفهم لماذا هو أداة قوية وكيف يخدم العملية الإبداعية .
 هناك مبدأن أساسيان في الارتجال . ونحن منفتحون علي كل ما يحدث . القاعدة الأولى في الارتجال هي قول « نعم « دائما لما يُقدم، ورفض ما يقدمه الآخر أو ممنوع الحكم علي التمرين قبل الانتهاء منه . والمبدأ الثاني أن الارتجال يحتاج الصبر . وما يظهر علي السطح يعكس تماما طرق التفكير المألوفة أو الحلول التي يمكن استخدامها في المواقف الأخرى . ويكمن التحدي في التعرف علي الأمور العادية وتجاوزها، والانفتاح علي ما هو غير متوقع . ويختبر المؤدي الارتجال في لحظات جديدة أو مفاجئة أو حتى مروعة . وكما هو الحال في كل شيء في المسرح، يمكن أن تفشل التقنية في إضافة أي شيء مثير أو تحل مشكلة تحتاج إلى معالجة .
 وهناك عدد كبير من أشكال الارتجال . فبرامج التليفزيون مثل « لمن هذا الخط علي أي حال ؟ Whose Line Is It Anyway” و “ نوادي الكوميديا Comedy Cllubs” تطلب من أعضائها أن يقترحوا مواقف عبثية تختبر قدرة المؤدي علي تقديم قصة يطورها في اطار محددات معينة بينما يستجيبون لبعضهم البعض تلقائيا، ويحافظون علي الشخصية والمحافظة علي وجه بدون تعبيرات ( علي الرغم من أن جانب المتعة في عدم مراعاة ذلك ) . وقد كان لدي أجستو بوال مشاركين في الورش يتفاعلون مع الممثلين حول قضايا رفاهية المجتمع الأساسية لاستكشاف طرق الاستجابة لحالات الاضطهاد الواقعية . وتستخدم جماعات مثل « فورسيد انترتينمنت Forced intertainment” ملاحظاتها عن الحياة في مدينة شيفيلد في انجلترا، كأساس لتطوير العروض التي تخرج من تفاعلات الجماعة . وتصبح المادة التي تنشأ من هذا العمل أساسا لبناء العرض . وتبدأ المخرجة مارجريتا اسبادا بموضوع وصورة ومن خلال الارتجال تنشأ صور جديدة تظهر خلال التمرين، وهذه العملية تقدم أساس عروضها . وقد عمل جروتوفسكي مع ريزار سيسلاك علي تطوير سجلا للتمثيل يقوم علي ذاكرة شخصية لدوره في مسرحية « الأمير الجلد The Constant Prince” . ويطلب يوجينو باربا من المؤدين أن يستجيبوا إلى الدوافع البدنية والصوتية في تطوير تتابع الأفعال ثم يضعها بجوار عمل عدة ممثلين لابتكار الأداء . وتستخدم آن بوجارت تمارين وجهة النظر لتوليد طرق بديلة للتواصل مع المسرحيات المكتوبة . وفي إبداعها لعرض « الزائلون Les ephemeres” عملت أريان منوشكين مع الممثلين لتداول الشعارات التي عالجت ما يمكن أن يعني مواجهة نهاية العالم . ويُستخدم ارتجال الاتصال كأساس لتصميم الرقصات، بينما يدمج راقصو البوتوه BUTOH التداعيات الحرة في العروض المبنية بطريقة أخرى . وتدخل ديبورا مايو الي تدريبات المسرحية وقد أدت واجبها وركزت علي تأثير أفعال الممثلين الآخرين عليها وتأثير أفعالها عليهم . وتبدأ كل من ميراندا توفنيل وكريس كريكماي باكتشاف المفاهيم الداخلية، من خلال تطوير التمارين التي تؤدي الي استكشافات الجماعة، وعندئذ يستخدمون الارتجال كوسيلة لتحرير التخيل لتوليد مادة للعروض وتجاوز تأثيرات الثقافة المغتربة . هذه القائمة التمثيلية تقدم فكرة لمختلف أنواع الارتجال ولكن لا يجب أن نعتبرها قائمة شاملة .
 يمتد الارتجال من الاكتشافات الشخصية إلى الإبداعات الجماعية . فهو يأخذ شكل الأحداث المرتبة، أو ربما يحدث في أي وقت يفتح فيه الممثل نفسه علي الاستجابة بدون توقع لما يحدث حوله . فالارتجال يشارك في العمليات الإدراكية التي تسمح للمؤدي أن يستكشف تفاعلاته مع البيئة ويقدم تجارب يمكن أن تشكل أداء بطرق عميقة . وقبل استكشاف هذه التضاريس، سوف توفر لنا جولة قصيرة في فلسفة جيل ديليوز و فيليكس جوتاري بعد البنيوية طريقة مجردة ولكنها مفيدة في تأمل الارتجال .
نقاط الانطلاق Lines of Flights :
 بحث الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز والمحلل النفسي والفيلسوف فيليكس جواتاري عن طرق لفهم الارتجال وفوائده في عملية المقاومة السياسية –علي من عدم استخدامهما لهذه الكلمة . إذ يعتقدان أن المجتمع يعلن التقاليد والايديولوحيات التي تنظم الحياة اليومية من أجل ضمان رضا الجماهير . وتكمن إمكانية مقاومة قمع التوافق الاجتماعي فيما يسميانه “ نقاط الانطلاق” . وكما يوحي الاسم، فهي حركة ابتعاد عن موقف وباتجاه آخر، ولكنها تختلف عن الأفعال المباشرة مثل قيادة الاحتجاجات أو الذهاب إلى المتجر . فالمتسوق له وجهة معينة ويعرف ما سيحدث بمجرد وصوله . وعلي الرغم من أن الاحتجاجات أكثر تقلبا عموما، إلا أنها تميل الي أن تكون مكتوبة وتحدث تحت أعين السلطة، وعندما تخرج عن النص يتحرك المسئولون بسرعة لاستعادة النظام . ولكن خط الانطلاق هي نوع من الفعل الذي ينطوي علي مخاطرة، لأنه لا توجد وجهة معروفة ولا يوجد أحد لاستعادة النظام . في الواقع نقطة النهاية ليست معروفة، ولن يكون المسار . هناك إذن نوعان من المعرفة يجب اكتسابها من هذه الحركة : ما يحدث أثناء الانطلاق وأين ينتهي الانطلاق .
 ويفهم دولوز وجواتاري أن هذه ليست مهمة سهلة . لأن هناك تقنيات في المسرح، كما أن هناك تقنيات في الحياة اليومية . وقد درس مارسيل ماوس كيف يفعل الناس نفس الشيء بشكل مختلف اعتمادا علي المجتمع . فمثلا، كيف يستخدم شخصا ما الفضيات، إذا كان يستخدم الفضيات، هو أمر تحدده الثقافة التي يعيش فيها إلى حد كبير . ويعتقد دولوز وجوتاري أن نفس الشيء صحيح فيما يتعلق بالكيفية التي يتصرف بها السكان ويفكرون . فالحكومات هي بنيات لديها تسلسلات جامدة نسبيا وتحتاج مواطنيها أن يؤمنوا بمؤسساتهم . ويسمي لويس ألتوسير القيم التي تحدد هذه المنظمات « أيديولوجيا»، ويجادل بأن تبني هذه القيم يشكل عادة ذهنية، أو قبولا لا جدال فيه للسلطة المؤسسية والطاعة . ويلتقط دولوز وجوتاري هذه الفكرة عندما أسميا نظريتهما « الأوديبية المضادة anti-odeipal” . وفي التفسير الفرويدي للأسطورة، فان أوديب هو الابن الذي يسعى الي قتل الأب . ويجادل الفيلسوفان بأن هذا التحديد يشرف علي حقيقة أن أوديب قتل أبيه بعد أن حاول الأب قتله . واستمرار الإشراف يجعل الأبناء والبنات يشعرون بالذنب عندما يشككون في السلطة، وينتج مجتمعا يخنق الإبداع من أجل الحفاظ علي السلطة . وبالتالي، متابعة خط الانطلاق ليس فعلا سياسيا صريحا، بل أيضا يتحدى بعمق المعتقدات الشخصية . فإدراك نقطة الانطلاق غير المحدد أمر ضروري، لأنه إذا كانت النهاية محددة مسبقا فسوف ينتهي من حيث بدأ لا أكثر ولا أقل، ولذلك يكون جذب القوى الثقافية /الشخصية قويا . وبالتالي يشارك الفعل في مساحة ضيقة، في فجوة بين مجموعات المعتقدات المتصارعة : بين الرغبة أن تكون مواطنا صالحا والرغبة في ممارسة الحرية من طغيان المألوف .
 وتجدر الإشارة إلى ثنائيتين متضافرتين يستخدمهما دولوز وجواتاري : (1) الكتلي والجزيئ، (2) الشجري والجذري . فالكتلي ( يقوم علي الكتلة، أو عدد الجزيئيات في مقدار قليل من الكربون12) يعادل أي حالة لجهاز ضخم أو أي نسق قيم يشكل عادة ذهنية . والجزيئ، علي العكس من ذلك تماما، يشير الوجود الفردي الذي هو الموضع الذي تكون فيه خطوط الانتقال ممكنة . ويستخدم الثنائي الثاني حياة النبات كاستعارة . فالشجري، أو الشجرة، تفهم علي أنه شكل هرمي مع تقسيمات متباينة بين الجذور والجذوع والفروع والظلال، ولكل منها وظيفة معينة . وهو رأسي، بينما الجذر أفقي . ويحتوي هذا الأخير علي عقد تعمل بشكل مستقل عن الكل، وترسل الجذور، وتشارك في تكاثر الأنواع، بينما تظل متصلة ببقية النبات . والطحالب هي مثال أيضا، فهي تنمو علي الأرض أو علي الأشجار بدون أن يكون لها مركز . فتقتل جذور الشجر وتموت . وتدمر جزء من الجذر، وتتجدد مرة أخرى . وتفضل فلسفة دولوز وجواتاري الجزيئي والجذري لأنهما يقدمان بنية سياسية بديلة تقوم علي المساواة المتطرفة . ومع ذلك يلاحظان أيضا أن التمييز بين الكتلي والجزيئي صعب : « لا يهرب التحول الجزيئي من التكوين الكتلي دون أن تصاحبه مكونات كتلية، وتشكل ممرات أو معالم محسوسة لعمليات غير محسوسة . وبالعكس، يصبح الكتلي جزيئي . اذ من المستحيل أن نهرب من تراثنا الثقافي، حتى لو كانت الرغبة هي أن نصبح بعيدين عن محاكاتها . فالناس منغمسون بعمق في المجتمع الذي يعيشون فيه ؛ وفي نفس الوقت، لديهم امكانية تحرير أنفسهم من قيوده . وفي المسرح، يسهل الارتجال لمسة الحرية هذه .
الارتجال وسخطه :
عندما يدخل الممثل في الارتجال، فانه يحمل معه تجربة حياته . يتخلل جسده تقنيات وطرق تفكير مختلفة تسمح له بالتصرف بالراحة والسلطة . ومع الخبرة الكافية، يتعلم طرقا للدخول في الارتجال بسهولة . ويستكشف الجزء المتبقي من هذا المقال تقنيات الارتجال وعملياته، ولكن يجب أن نذكر بعض الكلمات عن سبب فشل الارتجال .
 يعتمد نجاح الارتجال وفشله علي الطرق التي يتم بها إعداد العمل، وتنفيذه، والوصول إلى نتيجة . وما يلي هو قائمة قصيرة لبعض العقبات التي تتدخل في نجاح الارتجال . يمكن أن يكون الكثير من الحرية شيئا خطيرا . فالارتجال يحتاج إلى حدود لكي ينجح، سواء كانت الحدود توجيهات ضيقة نسبيا من الكوميديا الارتجالية، أو غامضة مثل “اختيار موضوع والعمل عليه “ . فالمؤدون يحتاجون الي نقطة محورية يوجهون انتباههم إليها .
وبالمثل، يمكن لحدود كثيرة أن تحدد مسبقا الاتجاه الذي يتخذه البحث ونوع الإجابات التي تم العثور عليها، ان لم تكن خصائصها . ويصبح التفاعل بين الممثلين نبوءات تحقق ذاتها، وتستبق قرارات أكثر إبداعية، وتنهي خط الانطلاق. يجب أن يكون تركيز المؤدين ملائما لشكل المشاركة . إذ يتطلب العمل الموجه إلى الداخل إطارا مرجعيا مختلفا عن استكشاف البيئة الخارجية . يمكن أن يحدد الوعي الذاتي نطاق الاستجابات الإبداعية أو يؤدي إلى تقييمات سابقة لأوانها للعمل . وعندما يحدث هذا يتم الخلط بين الشيء التافه والإبداعي، أو ينتهي الاستكشاف قبل تحيق الاحتمالات الكاملة . العمل مع الآخرين يحتاج إلى الثقة . ودرجة الانفتاح العليا من جانب الممثلين مطلوبة إذا كان لا بد لهم أن يصلوا إلى النقطة التي يتم اكتشاف التداعيات الجديدة خلال الارتجال . وإذا كانت مصداقية المشاركين محل تساؤل، فربما يمكنهم أن يترددوا في الارتباط الكامل بالتمرين . يجب أن تكون هناك حساسية جماعية إلى أي مدى يمكن دفع أي مؤدي . فالارتجال معد لمد حدود ما هو ممكن ؛ ولكن إذا تحرك التفاعل بعيدا جدا خارج المنطقة المريحة ويوجد شعور بأنه مخاطرة بدنية ونفسية وفكرية، فربما كان من الصعب علي المجموعة الالتزام الكامل، ويحدث حظر للدوافع الإبداعية . تحديد وقت توقف الارتجال صعب . وإيقاف العمل مبكرا جدا، قبل استكشاف المشكلة بالكامل، يحول دون إمكانية اكتشاف كثير من الحلول المثيرة، والاستمرار طويلا جدا يمكن أن يؤدي إلى التكرار و الجفاء، والتقليل من قيمة الرؤى السابقة . هناك بلا شك مزيد من العوامل في ابتكار وأداء الارتجال . المثير فيما يتعلق بهذه القائمة هو ظهور قاسم مشترك : هو الحدود . والحدود ضرورية، ولكن لماذا وكيف وأين يتم رسمها هو أمر حاسم في نجاح العمل .
 يلاحظ دولوز وجواتاري أن خطوط الانطلاق تحدث في الفراغات بين الحدود الفكرية والمؤسسية . ويمكن أن تكون القفزة هي الخطوة الأولى لملاحظة الآفاق الجديدة، أو يمكن أن تكون البنيات قاتمة للغاية بحيث يكون الالتزام بالقفزة مستحيلا. فليست كل أشكال القمع مفروضة من الخارج .لقد نظر بوال لمفهوم « الشرطي في ذهنك «، معترفا أن بعض أشكال القهر مستوعبة داخليا، أي أن المؤدين يراقبون حدودهم مما يجعلهم يقاومون التجارب الجديدة . وهذه القيود إدراكيا – سواء كانت مفروضة داخليا أو خارجيا – هي شروط حدودية ومحددات تحافظ علي النظام في حالة مستقرة قدر الإمكان لأن مكافآت الاستمرارية أمتع من العواقب غير المعروفة لتجاوز الحدود . “ الشرطي في الذهن “ هي استثمار للهوية الشخصية التي تعزز معنى الذات ويصعب تجاهلها بسهولة . ومع استمرار هذا النظام، فان القدرة علي الارتجال لا تأتي بشكل طبيعي ولكنها تتطلب تعلم التقنيات. ففي حين أن أغلب التقنيات تفضل نماذج الاستجابة إلى مدخلات مميزة – مقاربات الي تطوير الشخصيات، والاستعداد قبل الدخول إلى خشبة المسرح ؛ الخ – اذ يقيم الارتجال الاستجابة غير المتوقعة . يتطلب الارتجال رغبة في السماح لتدفق التجربة أن تتحرك في أي اتجاه، بينما تظل مشاركة بفعالية في عالم الأداء . والعبارة المستخدمة عادة في خطاب التمثيل لوصف هذه الظاهرة هو « الوقت «لحظة التجلي “ .
لحظة التجلي :
 “بينما أتحرك تتدافع التداعيات والذكريات والعبارات الي ذهني وأدعها تدخل وتخرج ثانية . نها لمحات من التصــورات التي لست مستعدا لها، والتي لو تتبعتها في هذه اللحظــة، ســوف تجرني بعيدا عن اللحظة الحالية . وربما تخرج هذه الصـــور فيما بعد في الكتابة أو العمل .
يستخدم ممثلان من ثقافتين مختلفتين نفس الاستعارات ليصفا عملهما في التدريبات . يتكلم كل منهما عن تعليق صور معينة للذات حتى يندهشا بالاكتشافات التي وجداها في مسرحية ارتجالية . بالنسبة لأحد الممثلين، يتمثل العمل في إسكات الصوت النقدي، وإزالة الفوضى، حتى يتمكن من الانفتاح في تفاعلها مع الممثلين الآخرين والنص . ويتحدث الممثل الثاني بقدر متساو عن مقاومة تدخل العقل، ولكن أيضا ترك الجسم يقترح صورا واتجاهات للعمل . وفي كل من التجربتين، هناك إحساسا بإلغاء الوظائف الإدراكية من أجل التجريب . وكما رأينا، فان مثل هذا التقسيم مستحيل، لأن الجسم لا يسمح بذلك، ومع ذلك فنحن نعرف ما يصفه هؤلاء الممثلون . ففي الحياة اليومية، وفي المسرح، من التجارب الشائعة، محاولة تهدئة الأصوات في رؤوسنا، ومحاولة التخلص من المشتتات من أجل التركيز علي العمل الذي نقوم به . ويطلق الممثلون علي هذا الصوت « لحظة التجلي «، بمعنى أن تكون موجودا بدون اقتحام لذكريات الماضي أو العروض عن الفعاليات المستقبلية .
 ورغم ذلك، بالنسبة للسجل، فإننا دائما « نعيش اللحظة «، ونتفاعل باستمرار مع العالم من حولنا . ومع التفكير في الماضي والتطلع إلى المستقبل، ننام أو نمشي،، فإننا منغمسين في البيئة حاليا، وفي وسط الليل، أشعر بالبرد وأبحث عن طبقة غطاء، وكتابة هذا – بتفكير عميق حول كيفية صياغة هذا المثال – أعي الأصوات في البيئة، والمكتب المزدحم الذي يوجد عليه الكمبيوتر . وربما لا أكون أكثر مدرك محيطيا لهذه المعلومات الخارجية، لأن القدرة علي التركيز تميز بعض الخبرات الإدراكية، وترتيب بعض الخبرات الأخرى في الخلفية . ولكن هذا لا يغير حقيقة أني مازلت فعليا « أعيش اللحظة « . وهذا ليس المقصود عندما تستخدم العبارة في التمثيل، رغم ذلك . فهي تستخدم في التمثيل كاستعارة لتعريف خاصية الوجود : الوجود الذي يميز المشاركة الفعالة مع الآخرين بدون تقييم واع لما يحدث، والذي يستجيب لما يحدث بدون توسيط مسبق أو باستدعاء ما حدث سابقا والذي يسمح لاتجاه الأحداث أن يتغير بدون تعليق . قد تبدو هذه لوائح صارمة، ولكنها لا تختلف عن كيفية تفاعلنا مع بعضنا البعض يوميا . وفي المحادثة، إذا انتقلت الفكرة بشكل غير متوقع أو دخل شخص ما الحجرة، فإننا نتواءم مع التغير براحة نسبية وكياسة . والفرق هو أن هذه التغيرات تحدث في الحياة اليومية باعتبارها مسألة طبيعية، بينما في المسرح، هناك اختيار واعي يجب أن يكون مفتوحا علي التغيرات في البيئة . وندرك أن هذا ما سوف نفعله . وتصف مايو واسبادا تجربة الارتجال بأنها الوجود في حالة محايدة، أو حالة مرتبة . والمعنى الضمني هو أنه يمكنهما اختيار الوعي ببعض الاستجابات البدنية بينما يستبعدا الأفكار التي تصرف الانتباه عن العملية الإبداعية . قد يبدو متناقضا أن نقرر بوعي تعليق الممارسات الإدراكية عند الدخول إلى مساحة التدريب، ولكن يصر كل من مايو واسبادا علي الحاجة إلى تجنب طرق معينة في التفكير . “ فإذا مضيت في التفكير بأنني ‘سوف أحاول في هذه اللحظة ‘، فإنني بالفعل أكون خارج اللحظة . فماذا يمكن أن أفعل لكي أعيش اللحظة، هناك في ذلك اليوم وتلك اللحظة» . «لا يمكن أن يكون ذلك ما في رأسك، فجسمك يذهب في طريق مختلف . ولكن العقل يظل يحاول دفع الجسم « . يبدو أن التفكير الواعي ينشئ التوقعات التي تعطل العمل الذي يوفر فهما أكثر تعقيدا للموقف . وهذا يتعارض مع الخطاب العقلاني في الغرب، حيث يُعتقد أن ممارسة المنطق تسمح برؤى أعمق للمشكلة . ويميل الممثلون الي اعتقاد العكس، إذ يستبعدون أي شيء يتسم بالمنطق ويتبنون الاستجابات العاطفية كأساس للفهم . والنظرية التي نطورها هنا تجادل بأن المسافة بين الإبداع الذي يقوم علي أساس عاطفي والموضوعية العقلانية مسافة ضئيلة . فالادعاء بإمكانية اتخاذ قرار لتجنب التفكير هو وهم، كما هو الحال في الادعاء بأنه يمكن استخدام العقل بدون العاطفة . فكلاهما يحدث في نفس اللحظة كجزء من التوظيف العادي للجسم والتفاعل الارتجالي مع البيئة.
 فنحن موجودون في العالم ككائنات حية منذ الصغر، كما تجادل ماكسين شيتس جونستون، ولسنا منقسمين في هذا الارتباط . ومن خلال تجربة المعالجة فقط نبدأ في ابتكار بنية مفاهيمية للفهم من خلال أنواع التمايز . وعندما نتجول في شارع مزدحم لا نميز بين الفكر والحركة ؛ فنحن نفكر في الحركة . إننا نقسم الجسد بدون أعضاء إلى تجريد مثل العقل والعاطفة، عندما نتوقف للتأمل . ونقبل الجسم المقسم لأنه يساعدنا في منح المعنى والتواصل مع التجربة . فلسنا مخلوقات مجزأة ذات أنظمة تفكير وشعور منفصلة، فجسدنا هو جسد ملئ بالعقل القادر علي معرفة العالم بشكل ملموس وتجريدي . والبيئة الطبيعية والثقافية التي نعيش فيها تحدد عموما كيف نميز بنيات الفكر والشعور ؛ فنحن نطور تركيبات ليست أشكالا طبيعية، وتكمن قيمتها في قدرتنا علي استخدام هذه المفاهيم والعواطف لكي نتنقل في العالم بنجاح . والمعرفة التي نجمعها – ما يمكننا التفكير فيه في لحظة معينة – تعتمد علي جسم متكامل متشابك باستمرار مع العالم وحتى الحدث الكامل لإمكاناته الحسية . وبدون هذا التكافل المركب، لا يمكننا أن نفكر أو نشعر . والحدة التي تنشأ من الارتجال يتم تجربتها لأن المؤدي منغمس تماما في التفكير والشعور والتفاعل مع العالم – في اللحظة نفسها . ولا يحدث الفهم الواعي للعمل الا بعد انتهاء التمرين .
.....................................................................................
جون لوتربي يعمل استاذا للمسرح بجامعة Stony Brook University
هذه المقالة هي الفصل الخامس من كتابه « نحو نظرية عامة في التمثيل Toward A General Theory of Acting ; Cognitive Science and Performance « – Palgrave – MacMilan 2011


ترجمة أحمد عبد الفتاح