طقوس الإشارات والتحولات تجسيد الغواية وغواية التجسيد

طقوس الإشارات والتحولات تجسيد الغواية وغواية التجسيد

العدد 581 صدر بتاريخ 15أكتوبر2018

على خشبة مسرح قصر ثقافة أسيوط وضمن فعاليات مهرجان الصعيد الثالث للفرق المستقلة الذي نظمته جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين في أكتوبر 2018، قدمت فرقة تفانين عرضها المسرحي “طقوس الإشارات والتحولات” للكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس وإخراج أحمد ثابت الشريف، الذي حصل على المركز الأول كأفضل عرض في المهرجان في دورته الثالثة، ذلك النص الذي يعد من أهم نصوص الكاتب سعد الله ونوس والذي يعد تحديا كبيرا لأي مخرج مقدم على تناوله ذلك لتعدد الرؤى التي تناولته وتعدد الدلالات والرموز المطروحة في النص وتشابكها مما يجعله نصا أشبه بالفخ لأي مخرج ونجاح تناوله بشكل مغاير ومختلف يعد مكسبا في كل الأحوال.
قدم المخرج أحمد ثابت الشريف رؤية مختلفة بالاشتباك مع النص والخروج من هذا الاشتباك بذات الدلالات الفكرية المطروحة بعد إصباغها صبغة خاصة ذلك بأن عمد إلى توليد شخصية غامضة من الأحداث أضافت للأحداث وخلقت ثراء مميزا على مستوى الصورة والطرح والدلالة ولم تكن هذه الشخصية إلا شخصية الغواية تلك النفس الأمارة التي صاحبت أبطال العرض كلهم تقريبا وتلفحت بثعبان كبير استخدمته في بعض التشكيلات البسيطة للتأكيد البصري أنها حية رقطاء تبث سمومها بين الشخصيات مع اختلاف توجهها ووجودها تلك الشخصية المستولدة في العرض المسرحي خرجت من بين ثتايا النص الأدبي ونجح أحمد الشريف في اقتطاع حوار لها موازٍ لحوار الشخصيات من قلم سعد الله ونوس ذاته ومن بين ثنايا النص ذاته فتدفق الإيقاع بطبيعة الحال وامتازت الرؤية وامتاز التناول الفكري والجمالي بعمق شديد لا يخلو من الخصوصية.
غواية التجسيد عند المخرج أحمد الشريف جعلته استخدم شخصيته الأثيرة كرابط هام بين مشاهد المسرحية التي نجح في اختصار أحداثها لتجري في أقل من ستين دقيقة بشكل لم يخل بالبناء بل ونجح في نقل الحدث ببساطة إلى الجمهور على اختلاف درجة ثقافته وتنوعها.
“طقوس الإشارات والتحولات” لسعد الله ونوس وأحمد الشريف يعرض تحول الأقدار وتبدل الأحوال للإنسان من السعادة إلى الشقاء وهروب الإنسان إلى التخفي وراء قناع الشرف والأخلاق لكسب تعاطف الآخر في محاولة للتلذذ بملذات الحياة الدنيا فما أن يستسلم للغواية حتى يهوى وعلى النقيض تتحول وتتبدل الأحوال لشخصيات أخرى من طيب الأخلاق إلى أخبثها ومن الشرف إلى العهر كرد فعل قاسٍ على الإهانة وسحق الكرامة فتستسلم مؤمنة للغواية وتصبح الماسة ويستسلم الجميع للغواية ليخسر الجميع ولا يربح أحد.
اهتم المخرج بالإعداد الجيد للنص لتمرير أفكار أخلاقية وفكرية محددة فجاء الميزانسين أبرع أدواته وأكثرها انضباطا في الرؤية الإخراجية العامة وتبعها خطة الإضاءة التي عالجت ثبات الرؤية التشكيلية وتقليديها خاصة بالتوزيع المميز لمصادر إسقاط الضوء (الكشافات) وزواياها وألوانها فعمد إلى التحدث بالضوء بوضعية (السلويت) الذي أناره وأطفأه مع الصوت الأجش للضمير/ الأب/ الراوي/ الروح فاخذ ينيره ويطفئه بشكل توافق مع حركات الوقف في إلقاء الجمل المصاحبة فضلا عن الإضاءة التي تميز بين بيت نقيب الأشراف وبيت القاضي وبين السجن لتلعب الإضاءة الدور الأميز في السينوغرافيا وتنجح في تأكيد المدلولات الفكرية والأخلاقية التي تم تأكيدها بين الحين والآخر وتهرب من السينوغرافيا التشكيلية التي تضادت مع الطرح المغاير للبناء الدرامي المعتمد على الشخصية الميتافيزيقية لتستند إلى الضوء ولونه وزوايا إسقاطه في إحداث دهشة الخيال وحتمية الشخصية الميتافيزيقية – الغواية – دراميا وبصريا.
نجحت الممثلات الثلاث (منة الله أحمد/ الغواية & إيمي حسني/ وردة & وفاء كامل/ مؤمنة) في شحذ إيقاع العمل فبدا إلقاؤهم اللفظي للكلمات متوافقا مع الأداء التمثيلي ولغة الجسد وتباينت بطبيعة الأحوال شخصياتهم تباينا أثرى الصورة في التحليل الأخير فإذا كانت المرأة الغواية/ منة الله أحمد هي أقلهم جسدا، فهذا تناسب مع الشخصية المستولدة من الأحداث فاقتربت حركاتها من الحية دون مباشرة في حين جاءت إيمي حسني/ وردة نمطية الأداء والحركة بشكل ينم عن شجاعة من فتاة جنوبية لأداء مثل هذه الأدوار النمطية فانتزعت جائزة أفضل ممثلة من لجنة التحكيم، في حين جاء أداء الماسة/ وفاء كامل أكثر ثقة واتساقا مع الشخصية مع حزن دفين لم يفارق عينها طوال تقلبات الأحداث في العرض وهي المرأة المؤمنة التي خانها زوجها ليس لشيء إلا دناءة نفس وجاء انتقالها إلى صفوف الغواية عقابا حقيقيا للزوج والأب ليحقق ما يصبو له المخرج بشكل أساسي وهو محاولة الوصول إلى (الكثارثيس) وهو (التطهير) كما ورد في كتاب فن الشعر لأرسطو مفندا غاية المأساة بإثارة عاطفتي الخوف والشفقة للوصول إلى التطهير ومع تميز الفتايات اجتهد الرجال (حازم هيكل – علي إبراهيم – إسلام بسطا – أحمد عبد العظيم – محمود بحر – كريم هامر – عبد العليم علي – أحمد عبد الرؤوف) اجتهادا محمودا في أداء المطلوب منهم بشكل يدل على وجود موهبة حقيقية تستحق الكثير من العناية والرعاية والصقل، فامتازوا في العرض امتيازا لا يقل عن الفتايات.
“طقوس الإشارات والتحولات” العرض الفائز بالمركز الأول في مهرجان الصعيد الثالث لجمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين، تناول فني مختلف لا يخلو من التميز تأليف سعد الله ونوس دراماتورج وسينوغرافيا وإخراج أحمد ثابت الشريف.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏