مسابقة المقال النقدى.. وما الذى يمكن أن تقدمه للمسرح المصري؟

مسابقة المقال النقدى..   وما الذى يمكن أن تقدمه للمسرح المصري؟

العدد 776 صدر بتاريخ 11يوليو2022

قبل أن نتحدث عن مسابقة المقال النقدى والذي ابتدعها المهرجان القومي للمسرح ضمن فاعليته في السنوات الأخيرة وأهميته للمسرح المصرى لابد أولا أن نحدد مواصفات من يكتبون في هذا المجال وما هي المعايير التي على أساسها تنطبق على عرض مسرحي معين.
الحقيقة أن جائزة مسابقة المقال النقدى هامة معنويا وأدبيا أكثر منها مادية، لأنها لابد أن ترسى أو تؤكد على أهمية «النقد المسرحي» للعروض المسرحية الحالية، النقد الموضوعى المبنى على أسس واتجاهات مدروسة وليس نقد انطباعى أو أكاديمي بحت، بمعنى احتواه على «مصطلحات» أكاديمية يدرسها الطلبة في معهد الفنون المسرحية ويتصدى له نقاد وأساتذة أكاديمية وكأنهم يعطون درسًا خاصًا مجانيًا لطلبتهم من رواد المهرجانات المسرحية، ومما يؤكد وجهة النظر هذه ما نشره الناقد (نبيل فرج) في كتابه نقاد الأدب في مصر (في النصف الثاني من القرن العشرين – الخمسينيات والستينيات).
إننا إذا دققنا في النقد المسرحي الذى تميز به مشاهير النقاد في مصر من الرواد أمثال د. على الراعى، د. مندور، رجاء النقاش، محمود أمين العالم، غالى شكرى وغيرهم من رواد تلك الحقبة الذهبية سنجد أن نقدهم كان للعامة والمثقفين في آن واحد عكس الآن – عندما تحول النقد أما إلى انطباعات شخصية أو «مصطلحات» مسرحية مكانها قاعات الدرس.
ولذا وقبل أن نخوض في أهمية جائزة مسابقة المقال النقدى على مسيرة المسرح المصري – وهي جائزة من وجهة نظرى رفيعة الشأن والمستوى – ولتكن البداية أن نقدم تعريفا لمن هو (الناقد) إن النقاد المسرحيين هم من يتعرضون للعروض المسرحية بالنقد ويكرسون كتاباتهم عن المسرح المعاصر، وقد يكونون صحفيين يكتبون للصحف اليومية والأسبوعية، أو أكاديمية يكتبون للدوريات ربع السنوية أو السنوية، إن النقد المسرحي له معالمه الواضحة والمستقلة عن نظرية المسرح وتاريخه، إلا أن الناقد في حاجة للمعرفة بكليهما.
لقد استخدم مصطلح (Gritic/ ناقد) لأول مرة في إنجلترا عام 1544 ليصف شخصا يقدم حكما أو اعتراضا دفاعا عن الشعر Defence of Poesie هو أول عمل نقدى عن الدراما والشعر في إنجلترا، وبحلول عام 1605 كان الناقد هو الشخص الحاذق في النقد الأدبي أو الفني بشكل محدد وبإطلاله عام 1651 أصبح الناقد هو مؤلف الكتيب الذى ينقذ عملاً آخر أو هو من انتقد المنشورات الجديدة وكتب المقالات النقدية، ولقد كان النمو التالى لهذه الفترة للدوريات والصحف نموا فوق العادة، حيث تميزت العديد من تلك الدوريات والصحف بنشر قوائم المسرح وأيضا الإشاعات الفنية بجانب النقد المسرحي الجاد وبحلول أواخر القرن الثامن عشر أصبح التداخل بين النقد والإعلام صارخًا.
وفي منتصف القرن العشرين شهدت إنجلترا ضجة شديدة حول مسرحية “في انتظار جودو” لـ”بيكت” (1955)، ومسرحية “انظر خلفك” لـ”أوسبورن” (1956)، ومسرحية “الإنقاذ” (1965) لـ”إدوارد بوند” (1934 -    ) إلا أن معظم الكتابات النقدية قد ظلت متوسطة المستوى، ويعد “هارولد هوبسون” (1904 – 1992) ناقدًا بارزًا ناصر كتاب مسرح الطليعة منذ الثلاثينيات فصاعدا، وتعد كتبه عن المسرح الفرنسي منشورات جديرة بالاهتمام الشخصية البارزة والذى أبدى نفس براعة “شو” وكتب لصحف “إيفتج ستاندرد” (1952 – 1953) و”دايلى سكتش” (1953 – 1954) و”أوبسيرفر” (1946 – 1963) و”نيويوركر” (1958 – 1960) كما نشرت مقالاته النقدية في كتب: هو من يلعب دور الملك (1950) و”الستائر” (1961) و”صوت يدين تصفقان” (1975). 
وقد كان لـ”تنان” دور مهم في ظهور المسرح السياسي الواقعي في الخمسينيات والستينيات، وجاءت خاتمة مقالته النقدية الشهيرة لمسرحية “انظر خلفك” لتقول “إني أشك في ما إذا كنت أحب أي إنسان لا بتمنى أن يشاهد “انظر خلفك”. فهي أفضل مسرحية صغيرة في عقدها”، ونقلت تقاريره الموجزة notices تجربته المباشرة في المسرح وعشقه للممثلين المهرة وللذكاء المتقد. وعندما كتب عن مسرحية “في انتظار جودو” أعلن عن نفسه مناصرًا شديدًا لهذه المسرحية كما أبدى تقديرًا كبيرًا لـ”بيكت” في مقالته النقدية لمسرحية “شريط كراب الأخير” (1958).
لقد كان “هانت” و”لام” و”عازلت” معلقين بارزين في عصرهما إلا أنه كان هناك كثير من النقاد النشطاء أيضا في ذلك الوقت. أما النقد المسرحي الأمريكي فقد تأسس على يد “واشنطن إيرفند” (1783 – 1859) الذى ظهرت خطاباته “عن أسلوب جنسون القديم” (وبعضها عن مسرح نيويورك) (1802 – 1803) وقد قللت الصحف الأمريكية – لأسباب اجتماعية وأخلاقية – من نشر المقالات النقدية المنتظمة حتى خمسينيات القرن التاسع عشر، وتقيد نشر معظم الأعمال النقدية بالمجلات قصيرة الأمد، إلا أن “جون فورستر” (1812 – 1876) و”ج. هـ. لويس” (1817 – 1878) والكاتب المسرحي “ج. و. مارستون” (1819 – 1890) قد كتبوا بقوة ملحوظة: وتضمنت مقالات “لويس” بصحيفة “بول مول جازيت” دراسات جادة بشكل خاص لممثلين فرادى وظهرت أيضا هذه الدراسات في كتاب “عن الممثلين وفن التمثيل” (1875) ولكن في الثمانينيات والتسعينيات من ذلك القرن تطورت الاهتياجات التي أثارتهما مسرحيتا “بيت الدمية” (1879) و”الأشباح” (1881) لـ”إبسن” إلى جدل مديد حول تحديات هاتين المسرحيتين لتقاليد الكتاب المسرحية وأساليب التمثيل والإخراج فظهر جيل جديد من النقاد في أوروبا وأمريكا.

رجاء النقاش نموذجا
مارس النقد منذ مطلع شبابه الصحفي وكان التطبيق عنده أسبق من التنظير، أعنى أنه لم يدخل الحياة الكتابية دخول أكثر الخارجين من أسوار الجامعة أو أغلب العائدين من الخارج، أولئك الذين يتعاطون منتجاتنا الأدبية والفنية بأحكام جاهزة ومعاير جامدة، استمدوها من ثقافات أخرى غير ثقافتنا، فجاء تطبيقها على هذه المنتجات شيئا متعسفا جائرا مفروضا عليها من الخارج، بدلا من أن يكون نابعا من داخلها، معبرا عن عبقرية لغتنا العربية ومزاياها في الفن والتعبير.
وصحيح أن هؤلاء الأكاديميين لهم علمهم وثقافتهم ودراساتهم النقدية الجادة، ولكنها العناصر التي لا تجعل منهم نقادا بمقدار ما تجعلهم منظرين خاصة من يمتهنون التدريس في المعاهد المتخصصة باعتبار أن آرائهم كنقاد في الغالب تأتي في شكل دروس أكاديمية لا يقرأها سوى تلاميذهم يصدرون عن ثقافتهم الجامعية وفكرهم الذاتي، دون أن يشكلوا مرحلة حقيقية على الطريق نحو وضع نظرية عامة في النقد، تصدر عنها كافة الأسس والنظريات.
ورجاء النقاش لا يلتزم عادة في نقده بمنهج أكاديمي، ولا يستخدم المصطلحات أيضا، حسبه أن يتجول في الحدائق الفنية، أو أن يكون – على حد تعبيره – سائحا روحيا في أرض الله الجميلة النبيلة، وأن يتناول منها ما يجذبه من الفن الرفيع، ومن حياة الفنانين.
ولكن أرجو ألا تخدعنا دماثة رجاء النقاش، فهو ليس مجرد سائح عابر، يمر على الأشياء من الخارج، كما يمر بها من يتنزه على غير هدى، وإنما هو سائح منقب يعرف طريقه جيدا، وينفذ إلى الأشياء، ويتأملها بعمق تأمل الفنان الذى لا يقل في موهبته وحساسيته عمن يتحدث عنهم.
وكتابات رجاء النقاش بهذه الصورة تعتبر كتابة إبداعية أكثر مما هي نقدية بالمعنى المتعارف عليه. فهي أقرب للتناول الفني الذى ينصت فيه لقلبه وأفكاره، ويخضع لذوقه، لا لمعايير النقد، دون غض من الموضوع أو المادة أو العقيدة التي يتضمنها الإبداع، ويعد بها وثيقة على العصر، في ضوء فكره اليساري الذى يدرك العلاقة بين الفن والسياسة في شروطها التاريخية والجغرافية، ويؤمن بالوظيفة الإنسانية للأدب.

أحوال النقد المسرحي في مصر:
بعيدًا عن أصحاب الأعمدة الصحفية، ورؤساء الصفحات الفنية والمجلات العاملة في شئون الفن بشكل عام تظل مهنة الناقد المسرحي مهنة مثيرة للجدل، تلك المهنة المعنية بشئون الكتابة النقدية المتخصصة.
هذا النوع من الكتابة التخصصية الدقيقة هل أصبح الآن وبعد كل تلك السنوات وذلك العدد من المطبوعات والهيئات المهتمة بالنشر والكتابة. مهنة حقًا تكفل لصاحبها القدرة على الانتظام في العمل والتفرغ له؟
إن أحوال المسرح بشكل عام واضطرابات العملية الإنتاجية أثرت بالفعل على كل ما يتعلق بالمسرح وأول المتأثرين بالانقلابات الحادة في العملية الإنتاجية هو ذلك الناقد المسرحي المطالب بتزويد نفسه بثقافة موسوعية منفتحة على العالم وواعية بالهوية القومية وبأدوات نقدية متطورة تلاحق أحدث التيارات والمذاهب النقدية الحديثة ومتابعة لما يدور على خشبات المسارح من حوله من هواة ومحترفين ومستقلين؟
إنها حقا مهنة شاقة تتطلب الموضوعية التي تجلب لصاحبها في كثير من الأحوال عداءات ومصاعب ويمكن للباحث أن يتأمل مثل الحديث عن تغير لغة النقد المسرحي في مصر والعلاقة المضطربة بين الصحافة والنقد، ففي وقت تعاظم فيه التيار السلفي والإخوان المتأسلمين – تراجع الدور الثقافي للمجلات المتخصصة والعامة والصفحات الثقافية بالصحف وتبددت الطاقة التنويرية التي كان يمكن أن يبثها الفكر الجمالي ليتحد هذا مع موجة التسطيح الكاسحة التي يترأسها معظم البث التليفزيوني الذي يستخدم تعبير النقد بحيث يؤسس ويشجع على إهانة هذا الجزء الجميل من العقل البشرى هذا الجزء المتصل بالجدل والتقدم والتنوير.
“التيار السلفي – في ظني – ليس ما ارتبط منه بأمور الدين فقط وبقرون مضت مع تراجع دور الاجتهاد في التفسير لكنه عرقل الاجتهاد في كل باب بحيث يحل تمجيد الماضى القريب أيضا محل فيض الذهن المتوقد نحو المستقبل في حيوية الإصدارات الصحفية المتصلة والأقرب للناس لينعزل ما بقى منه في كتب منفصلة أو مجلات مهجورة وتنعزل لغة النقد وتتدهور لغة الصحافة الفنية خاصة في معادلة – ضمن معادلات أخرى – لا تشارك إلا في تنمية طبقات وأنواع من الأمية.
إن إمكانية كتابة مقال في النقد المسرحي من حيث الشروط المعروفة والأدوات التطبيقية والمساحة المتاحة للنشر تبدو صعبة للغاية في ظل ندرة الإصدارات المتخصصة في ذلك الفرع الهام من فروع المعرفة الجمالية. كما أن المداومة عليها هي مخاطرة كبرى من حيث التعرض لإمكانية الانتظام من عدمه. وبمراجعة معظم الأسماء المتواتر ذكرها في مجال النقد المسرحي العام والتطبيقي يجد الكاتب أن معظمهم يعملون في مجالات أخرى هي عملهم الأساسي مثل التدريس بالجامعة أو أكاديمية الفنون أو المزاوجة بين النقد المسرحي والتأليف والإخراج أو العمل بالصحف بما تقتضيه الكتابة فيها بالخروج الدائم من دائرة النقد المسرحي الضيقة إلى دائرة أوسع هي النقد الأدبي والفني بمعناه العام.
إن الراصد للحالة التي عليها النقد المسرحي المتخصص ذلك التخصص الدقيق النادر الذى لا يهتم به أحد الاهتمام الواجب أو على أقل التقدير لا يهتم به أحد كما يهتم به أبناء تلك المهنة التي تكاد أن تندثر على مستوى المتابعة الدائمة المتخصصة إلا من محاولات فردية هنا وهناك.
اعتقد بعد هذه الدباجة كمقدمة، أتمني أن تكون قد شرحت أهمية مسابقة المقال النقدى – في الوقت نفسه قننت مواصفات من يتصدى له وأخيرا أتعشم أن تعرض فعاليات مهرجان المسرح عروضا مسرحية تستحق بالفعل أن تكون موضوعا للنقد.


زياد فايد