العدد 626 صدر بتاريخ 26أغسطس2019
هل التفاؤل بتوقع الخير المطلق فكرة تستطيع مجابهة الحياة وتفسيرها؟ وهل يسير العالم حتما نحو الأفضل فما علينا سوى توقع ذلك؟ هذا ما يناقشه نص فولتيرالفيلسوف والكاتب الفرنسي والذي تقوم عليه مسرحية “المتفائل”، التي تعرض حاليا على المسرح القومي، عن روايته”كانديد أو المتفائل” وهي من إعداد وإخراج إسلام إمام، وحين تأمل أسباب وظروف كتابة فولتير للنص يبدو لي بوضوح كم ترتبط قيمة النص أحيانا بزمانه وبظروف كتابته وأفكار هذا العصر، كي تكتمل صورة التعاطي معه ويأخذ بعده الأعمق، فمع مرور الوقت وبحكم الاستهلاك الدرامي لأفكار معينة قد يبدو النص الذي كان جديد الأفكار في زمنه قديما مستهلكا في زمن حديث، لتبدو منه بتتابع الأزمنة القشرة التي بدورها قد تشكل مستوى أخف من الوعي والتلقي، بشكل قد يكون مرضيا للكثيرين لكنه ليس مشبعا وليس شاملا لما احتواه بالأساس، لذا أرى أنه يجب محاولة إعادة الرونق الزمني الأول للأفكار عند إعادة طرحها.
رواية “المتفائل أو كانديد” كتبها فولتير في عصر التنوير، في وقت كان فيه محبطا يعيد النظر في فكرة التفاؤل، التي كانت نظرية فكرية وفلسفية يتبناها الكثير من فلاسفة عصره، وقد ناقشه فيها صديقه جان جاك روسو عبر الرسائل، هذه النظرية التي تدعم مبدأ أن كل شيء في الحياة يسير نحو الأفضل وأننا “في خير العوالم الممكنة”، وأن الله يفعل الأفضل لأنه إله محب للخير كما يرى “ليبينتز” الفيلسوف الألماني في عصره وصاحب نظرية المونادولوجيا، لتجيء أحداث حرب السبع سنوات بين فرنسا وبريطانيا وزلزال لشبونة وبقية ويلات العالم لتضع هذه الأفكار والفكر الكهنوتي في مأزق، ولتكون نقطة انتباه وإعادة تفكير لدى فولتير، الذي قف على الطرف الآخر منها وكان من تيار التشاؤم، فكتب هذه الرواية لمناقشة هذه الفكرة بشكل كوميدي هزلي ساخر، يضع بطلها في اختبار حقيقي وسط شرور العالم لنرى هل سيصمد تفاؤله أم لا، فعرض فكرته بشكل موضوعي ينتصر للتفاؤل مقرونا بالعمل لتغيير شرور الإنسان بالأخص، بطل روايته يتيم ساذج بريء مسالم، يعيش على فطرته داخل قصر خاله البارون ومع أسرته، قصر لم يخرج منه من قبل، يعيش فيه ببراءته وسط تقاليده الصارمة، حتى يطرد منه ويواجه وحده العالم وشروره، معه تفاؤله الفطري والمكتسب من معلمه “بانجلوس”، ليصبح العالم معملا تطبيقيا لأفكار لم تحي إلا في يوتوبيا أو جنة صغيرة يمثلها القصر، ليعكس بذلك فكرة طرد آدم من الجنة، ليكون أول شرور عالمه هذا الخال الذي قرر قدره كإله غاضب.
يلتزم العرض في أغلبه بنص فولتير وبهذه الأحداث، ويستقي روح النص الساخر المبسط ليعكسه بأسلوبه، فيبسط الألقاب والأسماء، فلدينا “كانديد” (سامح حسين) إبن الأخت واسمه يعني “الساذج”، والخال “الأمير” (يوسف إسماعيل) وزوجته البارونة (سوسن ربيع) وابنة الخال الحبيبة “كوندا” كتبسيط لاسم “كونيغوند”(سهر الصايغ ) والمدرس الحكيم “مسيو” تبسيطا لاسمه” بانجلوس”(عزت زين)، كانديد رغم معيشته ونشأته في القصر وسط تقاليده فإنه لا يتنمط بها، فهو على بساطته خارج النمط الذي التصق الجميع به، يريد احتياجاته الطبيعية كالطعام والتلذذ به، كابن للفطرة والطبيعة، طالما لا يؤذي أحدا فهو لا يكترث كثيرا بالتعقيدات الشكلية، يحب ابنة خاله الأميرة “كوندا” وتبادله الحب فيطرد من القصر بسبب ذلك، فهو ليس ابن أمير أو نبيل بل أبوه كان من عامة الناس، لتكون هذه أول صدمات عالمه الآمن المثالي، هذا العالم المرفه محدود الأزمات بسيط الحلول، الراكد النمطي محدود الزاوية، يخرج وحده لأول مرة.. ومعه ما لقنه له معلمه من دروس وحكم سهلة ويقين لم يختبر، كآدم لكنه هنا وحده دون حوائه، ليخوض رحلة قدرية تشبه رحلات السندباد البحري ورحلات جوليفر ورحلة أوديسيوس في الأوديسة، لكنها رحلة غير مسبقة الهدف بل أقرب لمحنة بطن الحوت، في دراما رحلة البطل، حيث البطل العائد ليس من ذهب حتى وإن أثبت يقينه، بل قد يكتسب يقينا جديدا بعد التجربة، فهو حتما سيعرف جوانب أخرى للحياة ومن نفسه، يذهب كانديد العرض لتتنقله الكوارث بشرورها الطبيعية والبشرية والقدرية في حالة أسطورية، يتنقل من بلد إلى آخر هاربا أو مدفوعا، ما بين البلغار الذين يتورط في حروبهم وبين قراصنة في المكسيك وحتى جزيرة الذهب وغيرها، يواجه عواصف وحروب وأسر، كل المحيطات تقوده للتنمط على شاكلة الآخرين، لكنه يبقى متمردا نحو فطرته، يضع بصمته فيمن يقابل أكثر مما يضعون، تحركهم أفكاره وأفعاله البريئة بقدر سذاجتها، يبقى متفائلا، وإن كان دريجيا مع المواقف يستدعي كلمات أستاذه التي لا يجدها تطابق الواقع، فهو يختبر الآن الحياة بنفسه دون وسائط، يتلقاها وحده كما هي عارية بكامل شرها ووجوهها، لينمو مع السنين كنز ذاته، يعرف أثناء ذلك أن أسرة خاله قد أبيدت إثر هجوم على القصر من البلغار، ويعيش ألما على محبوبته، كل ما حوله يتغير وهذا أول دروسه، كل ما حوله يدعوه ليفقد إيمانه بالخير أو الحق أو الجمال، لكنه ماض راض، محبط لكن لم يفقد الأمل.
التفاؤل لدى كانديد لم يعد مجرد توقع للأفضل أو ابتهاج غير مبرر، وإنما هو انعكاس لطاقة خير يواجه بها العالم مهما أحلك، بل إنه بعد التشكك في أقوال أستاذه اختارها من جديد، لكن مقرونة بالعمل على التغيير مع وعي بشرور العالم لا كونه يسير بمفرده نحو الأفضل، حيث يكون للتفاؤل معنى يستحق الثبات عليه، ليمثل قناعة لدى بطلنا لا مجرد طبيعة أو تلقين، لذا أتفهم أن يطول العرض نوعا ما ليستوعب رحلة البطل الضرورية لمعرفة شرور العالم، لكن من جهة أخرى فإن حوالي ثلاثة ساعات وهي زمن العرض الذي كان من الأفضل تقليصه؛ تعتبر مهمة صعبة لاستمرار ربط المشاهد بالعرض، خاصة إن كانت الرحلات التي تستهلك زمن العرض؛ تكرر مضمونها ومعانيها دون تغيير ضمني أو شكلي كبير يغير الإيقاع بحق، ويخلع عن السرد الحالة التقريرية في بعض أجزائه، هذا الإيقاع كان بحاجة لصراع مستمر يربطنا ذهنيا بعرض مثله يبدو بطبيعته بسيطا جدا، وليس فقط صراع مجرد بين الخير والشر وصراع البعد عن الحبيب، كحبكات صارت بتكرارها مفرطة البساطة، ومن هنا ربما كان من المفيد والضروري الإبقاء على دور الفيلسوف “مارتن” المتشائم الموجود في النص الأصلي كمقابل لأفكار الفيلسوف بانجلوس أو “المسيو”، لدفع الصراع بالتباري بين النقيضين كنوع من المناظرة وإذكاء حالة الاختيار.
تمضي المسرحية في خطين يتوازيان ويتقاطعان أحيانا ليتوازيا من جديد حتى يلتقيان أخيرا؛ رحلة كانديد وتنقله من بلد لبلد ومن محنة لمحنة عبر الزمن، ومصير كوندا وعائلته التي نكتشف نجاتهم وفرص لقائه بمحبوبته، فهو يتلمس أخبارهم أو يلتقي بعضهم كل حين. مع اتخاذ العرض طابعا كلاسيكيا كطبيعة النص، كل شيء متقن لكن بشكل تقليدي، الديكور الموحي بالثقل أحيانا وإن كان متحرك بشكل ماهر يسهل معه التنقل بين المشاهد، جاء جيدا مناسبا يوحي بالإبهارلكنه يحتاج إبهارا أكبر يغذي الحالة الخيالية التي تمثل بؤرة الجذب الحقيقية والدافع لإيقاع عرض بسيط الفكرة يعتمد على الرحلة ومتعة المشاهدة، وبدت الملابس ابنة ذلك العصر متقنة التفيذ زاهية الألوان بشكل جمالي جاذب بالفعل، مع إضاءة كان لها دور جيد في إضفاء قدر من الإبهار خاصة على بعض لوحات العرض كاستخدام الفقاعات في إضاءة بدت ساحرة بين الحبيبين، وتواجد الجانب الاستعراضي البسيط والغنائي بأشعار بسيطة كبساطة الحالة عموما، وهنا يمكن القول أنه إن لم تكن الأغاني والاستعراضات تقدم شيئا مختلفا أو تعمق معنى أو تحمل أسلوبا أخاذا سواء في الكلمة أو اللحن أو الأداء، فربما يكون تقليلها أو إلغائها هو الحل الأفضل، كي لا تكون مجرد حيز مجاني بلا جديد، هناك حالة متقنة بشكل عام، هزلية اجتماعية مخففة ومبسطة ذهنيا ومريحة في المتابعة بمزاج مبهج، ممزوجة بفكرة هامة بشكل سلس جمالي، وهي سمات عروض المخرج إسلام إمام الذي أخرج عددا من العروض السابقة الناجحة والمميزة بالفعل من أهمها عرضي “رجالة وستات” و”أترك أنفي من فضلك”، والتي تشير لمخرج متمكن له مساره الخاص، يتميز خاصة بإدارة واعية حساسة للممثلين بحيث يكون كل في مكانه وبأدائه المقصود تماما بحسب طبيعة النص والشخصيات وأسلوب العرض، وفي “المتفائل” جاءت حركة وأداء الشخصيات معبرين تماما عن طبيعتها الدرامية، بما استدعاه ذلك من رسم كاريكاتيري لبعضهم ككانديد والأمير والبارونة والقرصان وجنود البلغار، مع إجادة من معظم الأبطال وتقدير استثنائي لعدد من الممثلين كمؤدي دور القرصان وثلاثي الجنود البلغار، لتأتي في المقدمة وبشكل لافت آيات مجدي في دور ملكة الذهب بأداء راسخ ولغة جسدية تلائم ملكة وصوت معبر وحضور يفرض نفسه، أجبر الجمهور المشاغب على الصمت طوال مشهدها الوحيد، وهو ما يوجب بذاته الكثير من التفاؤل.