«صـــــــــــــمت» انفجار في مرفأ أرسطو أم عودة المسرح إلى حامضه النووي؟

 «صـــــــــــــمت»   انفجار في مرفأ أرسطو أم عودة المسرح إلى حامضه النووي؟

العدد 851 صدر بتاريخ 18ديسمبر2023

كأسك سليمان بسّام. إليك السؤال الذي وقّعه فريدريش شيللر: “كيف يمكن للفنّان أن يحصّن نفسه من زمنه ومن شتّى أنواع الفساد التي تحيط به من كلّ الجهات؟”، و”لست أنت من سيتكلّم، اترك للكارثة أن تتكلّم فيك، ولو بالنسيان أو الصمت”، هكذا تأتي الإجابة على لسان موريس بلانشو. في الحقيقة، علينا الاعتراف بأنّها إجابتك أيضا، فعذرا لهذا الفيلسوف، لأنّنا مثله على “شفا الفاجعة” وإِنْ كانت على نحو مختلف. إنّ “صَمْتْ” بوصفه سؤال الممكن الفرجويّ المضادّ للمسرح السياسي العربي يشي بهذا الأمر، وعلاوة على كونه كذلك، فقد ولد من فاجعة هو الآخر، تلك التي شهدها مرفأ بيروت سنة 2020. نعم، إنّ فريدريش شيللر على حقّ حين طرح ذلك السؤال، فالكارثة التي تسكننا ليست واحدة، ليست زلازل دموية وسياسية فحسب، إنّما هي جمالية أيضا. ولذلك، فهي تتكلّم الآن من جهة الارتباط بالحدث الدامي في بيروت، ومن جهة ذلك السؤال المرير حول بشاعة مخيال المسرح السياسي، فكلاهما، كلاهما كابوس عملاق من الضجيج، دمار ممنهج للممكن من الحقيقة على شفاه اللغة. 
لقد استطاع حدث الكارثة أن يزدرد كلّ المحاولات التي ادّعت القول فيه أو مواجهته. 
كلّ تلك المحاولات، سياسية وجمالية، كانت بافلوفية، تفتقر إلى حدثها الخاص: علامة جذرية على السقوط في مهنة كربلائية الصنع، وخيال بشع في سجون اللغة ومفرداتها العقيمة، وانتماء مذلّ للكلمات التراثية باجترار الجثامين من المفاهيم السياسية في شكلها المحنّط. 
يأتي الصمت لأنّه لم تعد ثمّة جدوى من مواجهة الكارثة والاحتجاج ضدّها، وربما حتّى تفسيرها على نحو من الوضوح إذا ما هدم حجب الحقيقة وحطم أقنعتها، لا يمكن إنهاء ضجيجها بضجيج مضادّ، لا يمكن إخراسها بكارثة جمالية مضادّة نعتقد أنّ سخط كلماتها هو الحلّ الأمثل، لا يمكن التعبير عنها بعبارات من أسلحة تحت رعاية المسرح الملتزم، لا يمكن تدميرها بفؤوس البيانات السياسية، لا يمكن تبديدها بأغنيات الخلاص، لا يمكن ردم الهاوية التراجيدية التي فتحتها بدموع كربلائية أو بأجساد ضحاياها مقطّعة الأوصال، لا يمكن قتلها بالنسيان لأنّ النسيان يضاعف من وجودها، لا يمكن القفز خارج أسوار بيتها لأنّها هي من ترسم حدوده وحدودنا. إنها وحدها من يتكلّم فينا الآن. لذلك، ولذلك فحسب، يصبح الصمت الذي أصابنا “أحد مخاطر الكلام”، لأنّه على هذا النحو مدعوّ إلى إحداث “انفجار في مصنع الكلمات” بـ”تغيير مصائرها” على ركح القول المسرحي.
كأسك سليمان البسام، غادر الركح، لا تشرح لنا العرض أكثر ممّا ينبغي، ولننصت سويّا إلى خطاب الكارثة من جهة حدثها الفرجوي. طبعا، إنّ هذه الدعوة ليست أمرا، كما الصمت “ليس  قرارا. إنّه مقام موسيقيّ لوجودنا غير المرئي، والذي لا تقوى أيّة حداثة على طمسه”، إنّه بالكاد “شخصية مفهومية” متحرّرة من أيّ جهاز هووي ولغويّ وجمالي بعد انهيار الثقة في كلّ الأصوات التي قدّت لها المصادح في أوّل الركح، ولا يحتاج الآن إلّا إلى وضوح مصدح الكارثة الوحيد من حيث أولية الكلام، الكارثة التي تمّت زراعتها في اللحم الآدمي باسم المؤدّية حلا عمران، الكارثة بوصفها المتكلمة فينا الآن، الكارثة بوصفها “مخاطر الكلام”، الكارثة بوصفها عرضا فرجويا هذه المرّة، الكارثة التي لا تهلكها إلّا كارثة جديدة تأتي من داخلها، الكارثة بوصفها جنيالوجيا الكشف عن مقام الصمت الموسيقي وإعادته إلى وجودنا باسم كلّ من علي حوت وعبد قبيسي على الركح وماتيلد داهوسي من خارج التغطية الفرجوية، الكارثة بوصفها تضميدا لجرح الرؤية برفع المسرح إلى سؤال الرؤيا ومن ثمّ تحريره من المحاكاة السوداء لعفن أشلاء الضحايا بأشلاء سينوغرافية لا تقلّ عفنا عنها. 
***
أن نصمت، أن نمنح لهذه الكارثة حرية الكلام بلغتها الخاصة وأسلوبها الفرجوي الخاصّ يعني أنّها ستنهار من تلقاء نفسها، إذ صارت بلا أقنعة، وجهها نعرفه الآن.
***
 صَمْتْ... 
لقد تحرّك عقرب الساعة المعلقة على يمين الركح وسقطت المصادح في وسطه. ابتدأ العرض منذ اللحظة التي انتهى فيها المخرج من الكلام، انعطف إلى الصمت بعد خطابه الواصف، ذهب وئيدا في أدغال قاعة العرض. 
***
صَمْتْ...
وإنّ من يكتب الآن عن هذا العرض له كارثته الخاصة، أليس رعبا استطاعة الكتابة عن  (صَمْتْ) في نفس المقام من مشاهدة حفلات الجنون الدموية وإعصار الإبادة البشرية وعظام الضحايا التي أصبحت أوتادا تُرْفَعُ فوقها رايات الحداد والعار والذلّ والهمجية بشكل لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله أصلا؟ ألا يستحقّ هذا الأمر صمتا عن الكتابة؟ إنّ الكارثة ليست تلك، الكارثة تأتي - في هذا المقام-، من ذلك السؤال المتعلق بمصير الكتابة، وهو مصير غامض، ولهذا فهو فاجع ومرعب. إنّ الكتابة هي الأخرى تخشى على نفسها من جرثومة “براديغم المحرقة” لأنّها مهدّدة بالقتل من قبل مستخدميها الذين كبّلوا وجودها إرهابيّا باسم المسرح الملتزم.
***
صَمْتْ...
فلتكن الكتابة إذن فوضى، أشلاء، حربا بين الدوال، نارية الحروف، بركانية النشاط، إذ لا تتحرّر الكلمات في سياق المهول من الحدث إلّا بعودتها إلى البراءة، براءة وجهها الجهنّمي. 
***
صَمْتْ...
عرض فرجوي عن كبرياء الكارثة، خرابه حلّ بالمسرح لأنّه هدم المسرح عينه، أعاده إلى حامضه النوّوي الأوّل. لا نستطيع الكتابة عنه بقدر ما استطاع الكتابة فينا، أو فلنكتب عنه بلغته الخاصّة، إنّه الكارثة المسرحية التي ستتكلم فينا.
***
 صَمْتْ...
شيء من عدم الفهم، قد يدمّر هذا العرض. وهذا كارثة جديدة، فلنمنعها من التحقّق.
***
صَمْتْ...
ولد من كارثة بيروت، ولكنّه قدّم كارثته الخاصّة: انفجار ساحق في وجه الحدث والسرد والشخصيات والحبكة، نقد حادّ للأشكال المسرحية السائدة وتمزيق لأوصالها أسوة بأوصال الضحايا.
***
صَمْتْ...
عرض غير مسرحي. نعم، ذلك هو المطلوب، فالمسرح يبدأ من تلك اللحظة التي يهدم فيها صورته المعتادة، ثائرا على سياسات تحنيطه، ينفجر مثل “سينغي سابور”. هل نعرف “سينغي سابور”؟ إنّه حجر الصبر، الحجر الذي ينفجر بعد أن يمتلئ بهموم من يحدثه. وحين يحدث ذلك، يبدأ الصمت بوصفه نهاية للضجيج، قبرا للتشويش. 
***
صَمْتْ...
حين ابتدأ العرض كان عقرب الساعة المعلقة على اليمين يشير إلى التوقيت التالي: 5:57، وحين انتهى تجمّد العقرب عند هذا التوقيت: 6:07، توقيت الانفجار الذي ضرب ميناء بيروت. كيف تمّ تجميد الزمن؟ تدمير ذلك العقرب بإبطاء حركته؟ 10 دقائق فقط لأحداث العرض الذي دام حوالي الساعة؟ عفوا، ليست ثمّة أحداث في (صَمْتْ)، ثمّة انفجار فرجوي فحسب، نشاط أدائيّ مربك، تناص موغل في التكثيف بين الموسيقى والمفردات الكلامية المتقطعة والعبارات الهاربة من مدلولاتها الحقيقية، تلويث أيقوني لمساحات الفهم، تدمير ممنهج لسطحية القول المعتادة على شفاه الأشكال المسرحية السائدة.
 هل سقط العرض من الزمن أم فيه؟ هذا سؤال لا يحبّ أن يطمئنّ لإجابة، فالعرض نفسه مجزرة من التساؤلات. 
***
صَمْتْ...
ما الذي يمكن أن يقوله المسرح للمسرح من جهة الواقعة؟ كارثته الخاصة أم كارثة الانفجار؟ تهدم الكارثة طمأنينة الضجيج بعودة الصمت بعد نشاطها. يهدم المسرح طمأنينة الضجيج فيه بهدم ضجيجه السياسي والديمقراطي ومن ثمّ يعود إلى الصمت، الصمت بوصفه علامة جذرية على نقاء الفرجة فيه، عودتها إلى حريم السحر، إلى ضجيجها الخاصّ، إلى مرحها الديونيزي خارج التغطية الأبولونية.
***
 صَمْتْ...
“ما هو جمهورك؟”.
ثمّة مكر في هذه الجملة المسرحية، إذ لم تكن على لسان المؤدية حلا عمران من جهة نقد المسرح الملتزم فحسب، بل من جهة نقد هذا النص أيضا. فلنقلب السؤال: من هو جمهور هذا النصّ الذي يتحدث عن عرض (صَمْتْ)؟ الذين شاهدوه فحسب؟ ما هي ممكنات القول لجمهور آخر لم يشاهد العرض؟ ثرثرة؟ تجريد؟ انزياح فظيع ونص موازي بهدف النجاة من تهمة الوقوع في مهنة الناقد الشارح؟ هذا وحده يشير إلى فاجعة نقدية، فاجعة الكتابة من داخلها.
***
صَمْتْ...
أليست الكارثة “دمار للكلام وفشل بالكتابة”؟ لنسجّل إذن في معرض الفشل فشلنا المريع في تغطية هذا العرض كتابيا ونقديّا. أليس من حقّ الكتابة الآن الاحتفال بكارثة فشلها؟
***
صَمْتْ...
ثمّة انتماء مذلّ للنقد المسرحي علينا الوقوع في هاويته، هاوية شرح العرض. تتضاعف الكارثة إذن. ولكي نبتئس على نحو حادّ ومرير، فلنقرأ  (صَمْتْ) كما هو. 
منصة على اليمين وأخرى على اليسار لكلّ من علي حوت وعبد قبيسي باسم الأداء الموسيقي. منصة أصغر حجما في الوسط للمؤدية حلا عمران، ساعة معلقة على يمين الركح وأعلاه، كراسي على اليمين واليسار لمن يرغب من الجمهور في استخدامها بوصفه صمتا ستتم مناجاته، مصادح تسقط منذ بداية العرض لتفسح المجال لصوت وحيد هو صوت الكارثة.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
هذا عرض موسيقي لا أكثر. نعم، ولكنّ هذه التهمة من شأنها تدشين المسرح في “محاكم التفتيش” لأنّها تصرّ على تصنيفه، تهمة ضاحكة بأسنان صفراء ولسان أزرق يتمّ توقيعها برعاية تراثية قوانينها حصر المسرح في نموذج بعينه. 
مرّة، صرخ نيتشه في “مولد التراجيديا” فقال: “إنّ ما تصرخ به التراجيديا هو : “نحن مؤمنون بخلود الحياة” أمّا الموسيقى فهي الفكرة المباشرة لهذه الحياة”. نعم، لقد ماتت التراجيديا بعد أن أصابتها مقصلة سقراط العلمية، بعد أن تحوّل المسرح في وجهه الحداثي إلى مجرّد ضجيج سياسي، بعد أن غربت الآلهة عن الوجود، لكن ها هي تعود مجددا، متوثبة مثل الفهد الجبلي في موكبها الديونيزي، موكبها الموسيقي باسم الإله ديونيزوس.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
قد ننسى الشخصيات، ننسى السرد، ننسى الحدث، ننسى كلّ شيء. أيّ مقام ترتّب فيه الكتابة كينونتها إذن؟ إنّه مقام الهلاك، أن تنتصر على سلطة تجنيسها، أن تتسامى عن التصنيف، أن تتحوّل إلى حمم شعرية بكثير من أوصال المفردات والتركيبات: تركيب نصّ على نصّ آخر.
في مقام هذا الهلاك، سوف يتمّ انتهاك التجنيس كما يلي: ثمّة نص موازٍ (paratexte) يتحدث عن انفجار بيروت، في شكل تصريحات شارحة أدلى بها كلّ من الخبيرين راسل أوغل والعميد إلياس فرحات، تمت زراعتها صوتيا أثناء اشتغال العرض وبصريا من حيث رسمها كتابيا في وسط الركح وأعلاه. في الآن نفسه وجد النص المصدر (hypotexte) على لسان المؤدية حلا عمران، وهو نص متوتّر، شاهق من جهة إفراطه في الشعرية وملوّث من جهة المحاكاة الساخرة لضروب شتّى من أشكال الكلام ومضامينه الإيديولوجية. 
في ضوء حركة التناص هذه، تصبح الكتابة مرتبكة في فزعها، غير أيقونية من خلال تعدّد الأصوات في مكامنها، انقلابات فجائية بين نص ونص آخر، تمزيقية من حيث تقطيعها أوصال المؤلف وأسطورة الأصل، رؤيوية من جهة أسئلتها، نقدية بوصفها خصومة بين النصوص.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
كتابة انفجارية، تتأمّل ذاتها، تصنع مراياها الخاصة. حمم نارية متطايرة من الشذرات المتقطعة إذا ما سقطت توحّدت في نهرها الواحد هو نصّ العرض بوصفه النصية الجامعة، “النصية الجامعة” بعبارة جرّاح النقد جيرار جينات (Gérard Genette).
يبدأ اللعب الآن.
***
 صَمْتْ...
ليس ثمّة تمثيل في هذا العرض. نعم، وهل يحتاج نصّ بلا حبكة، بلا شخصيات، بلا سرد، إلى تمثيل؟ إلى لعب الدور؟ كلّا. ثمّة لعب فحسب، أداء قرباني للمؤدية حلا عمران، طاقة هائجة تفيض عن الحاجة إلى التمثيل، محاكاة عابثة للكتابة بوصفها قربانا للشكل الكتابي السائد، رقصة هلاك دنيوي في المقام الموسيقي المصاحب بوصفه موكبا ديونيزيا.
يبدأ اللعب الآن.
***
 صَمْتْ...
كيف تمّ ترحيل الكتابة إلى الجسد الفرجوي؟ جسد المؤدية بوصفها لحما ناطقا، خارطة من الكلمات المرتجفة أو الصارخة مغمّسة في أضلاع النوتات الموسيقية، شجرة في مهبّ الإعصار من القول والتعليق عليه بشكل متهكم وعنيف وساخر لا يلجمه الاحترام.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
ويبدأ العواء. هل يمكن نطق الكلمات والعبارات بشكل عوّاء؟ نعم، ثمّة تقطيع للكلمات، تدمير للبديهي من مخارج الحروف، تصويت على شفا الغرابة، تسريع القول وإبطاؤه، قذف للعبارات على نحو فقدت فيه مدلولاتها الرسمية، انزياح معنى الكلام بعد انقلاب المدلول على دواله، بتر الجملة المسرحية من جهة عدم إكمالها، تفريغ اللغة من ثرثرتها، صرخات زاعقة تحت وقع الزلزلة فخلخلة تصيب الجسد في مقام الارتجاف.
مشهد برمته تحت عنوان (الدافع) في عرض (صَمْتْ)، تمّت خياطة جمله المسرحية بحرف واحد هو حرف (الراء). مرّة يأتي على نحو الصفير في مقام السخرية، مرّة يأتي على نحو الزغاريد في مقام الاحتفال بالفاجعة نكاية في حدثها، مرة يأتي على نحو الفحيح في مقام الشرّ والانتقام. هذا الحرف هو آخر الحروف وأوّلها من آخر كلمة وجدت بين جملة الجمل المسرحية. كان مقام وجوده في لفظة (ريختر).
كيف ينطق حرف الراء إذا كان الجسد الناطق للمؤدية تحت وقع الارتجاف إذا ما تكلمت تحته الكارثة باسم (ريختر)؟ في مقام هذا الاقتصاد اللغوي، في مقام العويل مع هذا الحرف، كانت اليد اليمنى للمؤدية حلا عمران تكرّر نفس الحركة، من وضعها على الشفاه إلى امتدادها يمينا، ومن انفتاحها كليّا إلى رجوعها في شكل لطمات على الصدر: علامة جذرية على تشغيل فرجة العزاء الكربلائية أين تتضخّم زفرة الضمير باسم تكرار الفاجعة. 
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
وتبدأ الباروديا الساخرة. هل يمكن تحطيم القول من الفنّ الملتزم؟ زجّ الجمهور بتصييره عدما في الأغنيات التي مثّلت المقاومة؟ لماذا تحوّلت التعبيرات الملتزمة إلى مجرّد بضاعة للتسويق؟ عذرا، صار يكفي الآن، صار يكفي انتهاكا للقضية باسم الفنّ. أحيانا، يسيء الفنّ إلى القضية التي يريد الاشتغال عليها.
أن يشتعل الجمهور مع أغنية مارسال خليفة، أن ينخرط في أدائها مع المؤدية حلا عمران، أن ترتدّ هذه المؤدية إلى السخرية فهذا تحطيم لمسلماته، تدمير للساكن فيه، خلخلة لمفاهيمه، رجّة عنيفة تحطّم أقنعة المقاومة بوصفها ضدّا للمقاومة، كشفا لوجهها الجهنمي البشع.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
شهيق، زفير، أنين، اختناق: هلاك أدائيّ للمؤدية على الركح، صيغة عليا عن هلاك الحيوان على المذبح، استرداد مريع لما كان يحدث في طقوس الديثرامب القديم.
يبدأ اللعب الآن.
***
 صَمْتْ...
إزاحة الوهم، وهم التمثيل وأوهام المسرح وأضاليله. في مقام مخاطبة الصامتة بوصفها (هي/نحن/المسرحيين) يفيض ذلك السؤال المريع حول مفهومنا للمسرح. (نقاد محترمون/غربيون): يا للسخرية. (نصوص شكسبير سيئة الترجمة): يا لوطأة الضحك. (فنّ يشبه العطلة بدلا عن تفجير الشواطئ): يا للأمنية. فنّ معلّب كعلب السردين بغاية تصديره للأمراء: يا لوطأة العزاء.
لقد سقط المسرح بوصفه الحامض النوّوي للإله السكران ديونيزوس في قبضة الإله التوحيدي، وهذا عنوان كارثة أخرى، كارثة تشبه كوارثنا التراجيدية من جهة سقوطنا في خراب الحروب والأوبئة والذلّ.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
خياطة الأشلاء، أشلاء المدن وأشلاء المسرح، ترتيب أشلاء المجزرة. 
أمراء أم حرّاس لثقافة الاستهلاك؟، مدن بكلاب مسعورة وأخرى لتخصيب الجنس، مدن بلا إنسان، “مدن الملح”.
فأرنة البشر، حيونة الإنسان، الاستسلام للموت، فقدان الماهية والتشتت المريع، فظاعة الوجود وكيف لمن لا وطن له أن يتكلّم باسم وطن لم يعد له؟ لا شيء ولا شيء ولا شيء أمام احتفال السياسي الذي سقطت مصادحه في أوّل العرض بثقافة الهزيمة: (عربي بلا فلسطينيين).
الكارثة هي أن لا تكون شيئا.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ...
وصل عقرب الساعة إلى توقيت الانفجار، غابت المؤدية بعد أن ازدحم عليها الدخان، انتهى العرض بوصفه علامة جذرية للكشف عن انحطاط المسرح الملتزم فينا من جهة تشغيل فاجعة بيروت. بعد الكارثة يجب أن يأتي الصمت، لكن بدأ التصفيق، تصفيق الجمهور: هل نحن في حاجة إلى تربية الجمهور مجددا حتى يتعلم فن الإنصات؟ هل يريد العرض أن يقول: لا بد من تدريب الجمهور على عدم التصفيق وبدلا من ذلك تشريكه صناعة الفرجة؟
ماذا لو أن انتقلنا من الرائع الاستطيقي إلى الرائع العملي/ الأنطولوجي: أن يصبح الفنّ في يد الجموع الغاضبة؟ أن يتحرّر من لوثة الكلام؟ أن يكفّ عن مشاهدة المسرح لأنّه هو المسرح، أن يعود مع هذا الفنّ إلى حامضه النوّوي، إلى غليان الفرجة في الأماكن العامّة، إلى جذبة التدمير السياسي؟ 
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ...
ماذا لو عادت مواكب ديونيزوس إلى حقلها الأناركي؟ ماذا لو حرّرنا الحياة من وجهها العدمي الحداثي؟ متى نكفّ عن تجميل الفظيع؟ متى نحرّر طاقتنا البركانية الهائجة من لوثة ترويضها باسم العقلانية الزائفة، من لوثة العقل: هذا الصنم الجديد؟
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ...
اجتياح المؤدية للركح، صهيلها بالتوازي مع صهيل الموسيقى: انتماء بركانيّ لطاقة المسرح الأولى قبل أن تتمّ عقلنته، قبل أن تتمّ علمنته، قبل أن يتحوّل إلى مجرّد ضجيج عن “الحالة الاجتماعية الظالمة” كما لو أنّه ميثاق عالمي عن حقوق الجياع أو بيان سياسي لجبهة خاسرة في الحرب. 
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ...
كولاج سوريالي: أليس تهكما متطرّفا ذلك التقطيع الذي تمّت ممارسته على كافّة الأشكال المسرحية ومن ثمّة إعادة خياطتها على نحو فرجوي جديد؟ أليست هذه الأمواج الفرجوية من غناء ورقص وفحيح وقول وصراخ هي جسد مسرحي لا-نظامي؟ 
ما معنى أن نكون لا نظاميين من جهة صناعة الفرجة المسرحية؟ فقدان الثقة نهائيا في شكلها السائد، تقويض راديكالي لطمأنينة ضجيجها، إعادتها إلى الصمت لأنّها لم تخلّف سوى الغثيان الجمالي. 
لم ينته اللعب بعد.
***
كأسك يا سليمان البسام...
 من الآن فصاعدا، يجب أن نقرّ بأن المسرح سيكون مستقبله شريدا مثل إلهه ديونيزوس. فهذه الحضارة التي موّلتها بنوك أبولون، الإله النظامي، حضارة فاسدة، طاغية، مومس سقطت في مهنة الغريزة الحيوانية، جشعة بشكل لم يعد ممكنا تخيّلها أصلا، حضارة من الفزع الرهيب الذي يخرس اللغة. لهذا يجب أن تفتح أبواب الصمت باسم ديونيزوس: بدلا من اللغة كشكل نظامي سوف يأتي العواء، سوف تولد الموسيقى من الصرخات المرتعبة في حنجرة الهلاك أمام هول الحدث، سوف تصمت تلك المفاهيم التراثية مثل القصة والحبكة والحدث والشخصيات والسرد، سوف ينعطف المسرح إلى اللامسرح عائدا بقوّته الفرجوية إلى جذوره الأولى مربكا طاقة تاريخه. سوف تعود النادبات الهمجيات إلى المناحات: استرداد كابوسيّ للأشكال المسرحية المناهضة لبشاعة مسرح اليوم وهمجيته من جهة سقوطه في مهنة المدان لبنوك أبولون الآثمة، انتهاك للسائد من الضجيج السياسي والديمقراطي الذي أصاب المسرح ومن ثمّ تمزيق لعفونة جسده الشعاراتي، عودة الارتباك إلى تلك الطاقة المسرحية بوصفها الحامض النووي للمسرح باسم الإله الشريد.
فليبدأ اللعب الآن، وبشكل حرّ، راديكالي وصادم..
______________
ملاحظة: العبارات الواردة بين ظفرين تمّ اقتباسها من مراجع مختلفة.


حاتم التليلي محمودي